الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(24) كتاب الأقضية
(1) باب اليمين على المدعى عليه والقضاء باليمين والشاهد
[1802]
عَن ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَو يُعطَى النَّاسُ بِدَعوَاهُم، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَموَالَهُم، وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ.
رواه أحمد (1/ 343)، والبخاريُّ (2514)، ومسلم (1711)(1)، وأبو داود (3619)، والنسائي (8/ 248)، وابن ماجه (2321).
ــ
(24)
كتاب الأقضية
(1)
ومن باب: اليمين على المدَّعَى عليه (1)
(قوله: لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعَى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعَى عليه) هذا الحديث رواه مسلم والبخاري مرفوعًا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس. قال الأصيلي: لا يصح رفعه، وإنَّما هو من قول ابن عباس، كذلك رواه أيوب ونافع الجمحي عن ابن أبي مليكة.
قلت: إذا صحَّ رفعه بشهادة الإمامين فلا يضرُّه من وقفه، ولا يكون ذلك
(1) ما بين حاصرتين ساقط من الأصول، واستدرك من التلخيص.
[1803]
وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه.
رواه مسلم (1711)(2)، والترمذي (1342).
ــ
تعارضًا، ولا اضطرابًا، فإن الرَّاوي قد يعرض له ما يوجب السكوت عن الرفع من نسيان، أو اكتفاء بعلم السَّامع، أو غير ذلك. والرَّافع عدلٌ، ثبتٌ، ولم يكذبه الآخر، فلا يُلتفت إلى الوقف إلا في الترجيح عند التعارض، كما بيَّنَّاه في الأصول.
وهذا الحديث أصل من أصول الأحكام، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام، يقتضي ألا يحكم لأحد بدعواه - وإن كان فاضلًا شريفًا - بحقٍّ من الحقوق - وإن كان محتقرًا يسيرًا - حتَّى يستند المدَّعي إلى ما يقوي دعواه، وإلا فالدَّعاوي متكافئة، والأصل: براءة الذمم من الحقوق، فلا بدَّ مما يدلّ على تعلُّق الحق بالذمَّة، وتترجَّحُ به الدعوى.
و(قوله: لادَّعَى ناسٌ دماء رجال وأموالهم) استدل به بعض الناس على إبطال قول مالك في التَّدمِية. ووجه استدلاله: أنَّه صلى الله عليه وسلم قد سوَّى بين الدماء والأموال في أنَّ المدَّعِي لا يسمع قوله فيها، فإذا لم يُسمع قول المدَّعِي في مرضه: لي عندَ فلانٍ دينارٌ أو درهم؛ كان أحرى وأولى ألا يُسمع قوله: دَمي عند فلان؛ لحرمة الدماء، ولا حجَّة لهم فيه؛ لأنَّ مالكًا رحمه الله لم يسند القصاص أو الدِّية في التَّدمِية لقول المدَّعِي: دمي عند فلان؛ بل للقسامة على القتل، والتَّدمِية لوث يقوي جنبة المدَّعِين حتى يبدؤوا بالأيمان كسائر أنواع اللَّوث التي تقدم ذكرها في كتاب القسامة. وقد بيَّنَّا ذلك فيه، وعلى هذا: فنقول بموجب الحديث، فتأمَّلهُ.
و(قوله: ولكن اليمين على المدَّعَى عليه) المدَّعَى عليه: هو المطلوب منه. والمدَّعِي: هو الطالب. وإنَّما كانت اليمين على المدَّعَى عليه؛ لأنَّ الأصل براءة ذمته عمَّا طُلِبَ منه، وهو متمسّك به. لكن يمكن أن يقال: قد شغلها بما طلب منه، فيدفع ذلك الاحتمال عن نفسه باليمين إن شاء. وظاهر عموم هذا اللفظ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يقتضي: أن اليمين تتوجَّه على كل من ادُّعِي عليه؛ كانت هنالك مخالطة أو لم تكن. وهو قول أكثر الفقهاء، وابن نافع، وابن لبابة من أصحابنا. وذهب مالك وجل أصحابه: إلى أن اليمين لا تتوجَّه على المدَّعَى عليه حتى تثبت بينهما خلطة. وهو مذهب الفقهاء السبعة (1). وبه قضى علي. وإنما مال هؤلاء إلى هذا مراعاة للمصلحة، ودفعًا للمفسدة الناشئة من ذلك. وذلك: أنَّ السُّفهاء يتبذلون الأفاضل والعلماء بتكثير الأيمان عليهم مهما شاؤوا، حتى يحلف الرَّجل الجليل القدر في العلم والدين في اليوم الواحد مرارًا، ويكون ذلك الوضيع يقصد ذلك به ليتخلَّص منه بما يبذله. ويهون على أهل الدِّين والفضل بذل الجزيل من المال في مقابلة دفع هذا الامتهان والابتذال.
ثم اختلف مشايخنا في معنى الخلطة. فقيل: معرفة المعاملة والمداينة معه بشاهدٍ أو شاهدين. وقيل: أن يكون المدَّعى عليه يشبه أن يعامل المدَّعي. وقيل: يجزئ من ذلك الشبهة.
وأجمع العلماء على استحلاف المدَّعَى عليه في الأموال، واختلفوا في غير ذلك. فذهب الشافعي، وأحمد، وأبو ثور إلى وجوبها على كل مدَّعَى عليه في حدٍّ، أو طلاقٍ، أو نكاح، أو عتقٍ؛ أخذًا بظاهر عموم الحديث، فإن نَكَلَ؛ حلف المدَّعي، وثبتت دعواه. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: يحلف على النكاح، والطلاق، والعتق، وإن نَكَلَ لزمه ذلك كلُّه. وقال الثوري، والشعبي، وأبو حنيفة: لا يستحلف في الحدود، والسَّرِقة. وقال نحوه مالك. قال: ولا يستحلف في السَّرِقة إلا إذا كان متَّهمًا، ولا في الحدود، والنكاح، والطلاق، والعتق، إلا أن يقوم شاهدٌ واحد، فيستحلف المدَّعَى عليه لقوة شبهة الدَّعوى.
واختَلَف قوله إذا نَكَلَ؛
(1) الفقهاء السبعة: هم عبيد الله بن عبد الله الهذلي، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسليمان بن يسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن المخزومي، وخارجة ابن زيد بن ثابت الأنصاري، وسعيد بن المسيِّب.
[1804]
وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.
رواه مسلم (1712)، وأبو داود (3608)، والنسائي في الكبرى (6011 و 6012)، وابن ماجه (2370).
* * *
ــ
هل يحكم عليه بما ادّعي عليه، أو يسجن حتى يحلف، أو حتى يطول سجنه. وفي كتاب الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا ادَّعت المرأة طلاق زوجها، فأتت على ذلك بشاهد عدلٍ؛ استحلف زوجها، فإن حلف بطلت شهادة الشاهد، وإن نَكَلَ؛ فنكوله بمنزلة شاهد آخر، وجاز طلاقه)(1). وهذا الحديث نصٌّ في الباب، لكنه يحتاج إلى قوائم وأطناب.
و(قوله: البيَّنةُ على المدَّعِي (2)) هذا بيان حكم المدَّعِي، وإن لم يتعرض لبيان حكم المدَّعَى عليه، وهو تعيين اليمين عليه، لكنه قد بيَّن ذلك في حديث الحضرمي؛ الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم للمدَّعِي:(شاهداك أو يمينه)(3) وقد تقدم في الأيمان. وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيِّنَة على المدَّعِي، واليمين على من أنكر؛ إلا في القسامة)(4). وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند - لأنه من حديث مسلم بن خالد الزنجي، ولا يحتجُّ به - فمعناه صحيح، يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم:(شاهداك أو يمينه)، وقول ابن عباس في الطريق الأخرى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدَّعَى عليه.
و(قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد) ظاهره: أنَّه صلى الله عليه وسلم حكم في
(1) رواه الدارقطني (4/ 64 و 166).
(2)
هذا الحديث رواه الترمذي (1341) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3)
تقدم في التلخيص، وهو في مسلم برقم (138)(221).
(4)
ذكره ابن عبد البر (23/ 204) في التمهيد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قضية معيَّنة تُحُوكِمَ عنده فيها بيمين وشاهد. ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن تقعيد هذه القاعدة. فكأنه قال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم باليمين والشاهد. ومِمَّا يشهد لهذا التأويل: ما زاده أبو داود في حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين في الحقوق (1). وهذا الذي يظهر من حديث أبي هريرة الذي قال فيه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد (2). فعلى الظاهر الأول من حديث مسلم لا يكون له عموم؛ لأنَّها قضيَّة في عين، وعلى زيادة أبي داود، وظاهر حديث أبي هريرة يكون له عموم. ومع ذلك فهو مخصوصٌ بالأموال وما يتعلَّق بها.
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: ذلك في الأموال وما يتعلَّق بها دون حقوق الأبدان للإجماع على ذلك من كلِّ قائل باليمين مع الشاهد. قال: لأن حقوق الأموال أخفض من حقوق الأبدان، بدلالة قبول شهادة النساء فيها.
وقد اختلف قول مالك في جراح العمد. هل يجب القود فيها بالشاهد واليمين؟ فيه روايتان:
إحداهما: أنه يجب به التخيير بين القود والدِّية.
والأخرى: أنَّه لا يجب به؛ لأنَّه من حقوق الأبدان. قال: وهو الصحيح. قال مالك في الموطأ: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصَّة. وقال الإمام أبو عبد الله: يُقبل ذلك في المال المَحض من غير خلاف، ولا يُقبل في النكاح والطلاق المحضين من غير خلاف. وإن كان مضمون الشهادة ما ليس بمال، ولكنه يُؤدي إلى المال؛ كالشهادة بالوصية، والنكاح بعد الموت، حتى لا يُطلب من ثبوتها إلا المال، إلى غير ذلك؛ ففي قبوله اختلاف. فمن راعى المال قبله، كما يُقبل في المال. ومن راعى الحال لم يقبله.
(1) رواه أبو داود (3609).
(2)
رواه أبو داود (3610)، وابن ماجه (2368).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قلت: والعذر لمالك عن خروجه عن ذلك الأصل المجمع عليه فيما كان المقصود فيه المال فقط واضح. وأمَّا الجراح العمد فليست بمال، ولا تؤدي إليه، وإنما يدخل المال فيها برضا المجروح. ثم يلزمه عليه أن يعمل بالشاهد واليمين في قتل النفس العمد؛ لأنَّه قد يرضى بها الأولياء ولا قائل به، ولا يلتفت لتفريق من فرَّق من أصحابنا بين الجراح والنفس، بأن من جنس الجراح ما لا يكون فيه إلا المال؛ لأنَّا كذلك نقول في القتل، فإن من جنسه ما لا يكون فيه إلا المال، وهو قتل الخطأ. فالصحيح من هذا: أنَّه لا يحكم بالشاهد واليمين في الجراح بوجه.
ثمَّ: أحاديث هذا الباب كلها حجَّة للجمهور على الكوفيين، والأوزاعي، والنَّخعي، وابن أبي ليلى، والزهري، والليث، والحكم، والشعبي، حيث نَفَوا الحكم بالشاهد واليمين، ونقضوا حكم من حكم به، وبدَّعوه، وقال الحكم: الشاهد واليمين بدعة، وأول من حكم به معاوية.
قلت: يا للعجب! ولضيعة العلم والأدب! كيف ردَّ هؤلاء القوم هذه الأحاديث مع صحتها، وشهرتها؟ ! وكيف اجترؤوا على تبديع من عمل بها حتى نقضوا حكمه، واستقصروا علمه، مع أنَّه قد عمل بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وأبي بن كعب، ومعاوية، وشريح، وعمر بن عبد العزيز، - وكتب به إلى عمَّاله -، وإياس بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو الزناد، وربيعة. ولذلك قال مالك: وإنَّه ليكفي من ذلك ما مضى من السُّنة. أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم؟ !
قالوا: والذي حمل هؤلاء المانعين على هذا اللجاج ما اغترُّوا به من واهن الحِجَاج، وذلك: أنَّهم وقع لهم: أن الحكم باليمين مع الشاهد زيادة على نصِّ (1)
(1) من (ج 2).