الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(8) باب جعل الله تعالى قليل الطعام كثيرا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر كثير من آداب الأكل
[1924]
عن جَابِر بن عَبدِ اللَّهِ قال: لَمَّا حُفِرَ الخَندَقُ رَأَيتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا، فَانكَفَأتُ إِلَى امرَأَتِي فَقُلتُ لَهَا: هَل عِندَكِ شَيءٌ؟ فَإِنِّي قد رَأَيتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمَصًا شَدِيدًا. فَأَخرَجَت لِي جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِن شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيمَةٌ دَاجِنٌ، قَالَ: فَذَبَحتُهَا وَطَحَنَت، فَفَرَغَت إِلَى فَرَاغِي، فَقَطَّعتُهَا فِي بُرمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: لَا تَفضَحنِي بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَن مَعَهُ، قَالَ: فَجِئتُهُ فَسَارَرتُهُ فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَد ذَبَحنَا بُهَيمَةً لَنَا، وَطَحَنَت صَاعًا مِن شَعِيرٍ كَانَ عِندَنَا، فَتَعَالَ أَنتَ ونَفَر مَعَكَ. فَصَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا أَهلَ الخَندَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَد صَنَعَ لَكُم سُورًا، فَحَيَّهَلًا بِكُم. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُنزِلُنَّ
ــ
(8)
ومن باب: جعل قليل الطعام كثيرًا ببركة النبي صلى الله عليه وسلم
(الخمص): الجوع، وأصله: من خمص البطن، وهو: ضموره، ولما كان الجوع يضمر البطن سُمِّي به. و (البهيمة) الصغيرة من الضأن، تصغير: بهمة. والجمع: بهم. و (الدَّاجن): الملازم للبيت، ودجن في كذا؛ أي: أقام فيه.
و(قوله: انكفأت إلى أهلي)(1) أي: انقلبت إليهم، وانصرفت.
و(الجراب): وعاء من جلد.
و(قوله: إن جابرًا قد صنع لكم سورًا) أي: اتخذ طعامًا لدعوة الناس. كلمة فارسية. قاله الطبري وغيره. وقال غيرهما: هو الطعام نفسه بالفارسية.
و(قوله: حيَّهلا بكم) أي: أقبلوا وهلمُّوا. قال الهروي: (حي) كلمة على
(1) في التلخيص: امرأتي.
بُرمَتَكُم، وَلَا تَخبِزُنَّ عَجِينَكُم حَتَّى أَجِيءَ. فَجِئتُ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقدَمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئتُ امرَأَتِي فَقَالَت: بِكَ وَبِكَ، فَقُلتُ: قَد فَعَلتُ الَّذِي قُلتِ لِي، فَأَخرَجتُ لَهُ عَجِينَتَنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: ادعِي خَابِزَةً فَلتَخبِز مَعَكِ، وَاقدَحِي مِن بُرمَتِكُم، وَلَا تُنزِلُوهَا. وَهُم أَلفٌ، فَأُقسِمُ بِاللَّهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانحَرَفُوا،
ــ
حدة، ومعناها: هلمّ، و (هلا): كلمة على حدة، فجُعِلا كلمة واحدة. قال غيره: وفيها لغات، يقال: حي هل، وهل، وهلى، وهلا، وحي هل، وحي هل - بسكونهما -. وحكى أبو عبيدة: حيهلك، وهي التي يقال فيها: حي على بمعنى. وهي عند أبي عبيدة بمعنى: عليك بكذا؛ أي: ادع به.
و(قولها: بك وبك) عتب عتبت عليه، وكأنها قالت له: فعلت هذا برأيك، وسوء نظرك. تعني: دعاءه للناس كلهم، وظنَّت أنه لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر الطعام. ويحتمل أن يكون معناه: بك تنزل الفضيحة، وبك يقع الخجل. ويحتمل أن يكون دعاء؛ أي: أوقع الله بك الفضيحة، أو الخجل، ونحو هذا.
و(قوله: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس) هذا منه صلى الله عليه وسلم مخالفٌ للذي نقل من سيرته مع أصحابه: أنه كان لا يتقدمهم، ولا يوطأ عقبه؛ وإنما كان يمشي بين أصحابه، أو يقدمهم. وإنَّما تقدمهم في هذا الموضع لأنه هو الذي دعاهم، فكان دليلهم إلى الموضع الذي دعاهم إليه.
و(قوله: وبارك فيها) أي: دعا بالبركة، فاستجيب له على الفور، وظهرت معجزاته وبركاته لما أكل من الصاع الشعير والبهمة ذلك العدد الكثير، ثم بقي الطعام على حاله كما كان أوَّل مرة. وعلى هذا (1): لو كانوا مائة ألف لكفاهم.
وغطيط القدر: صوت فورانها.
(1) في (ج 2): ذلك.
وَإِنَّ بُرمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيخبَزُ كَمَا هُوَ.
رواه البخاري (3070)، ومسلم (2039).
[1925]
وعن أَنَسَ بنَ مَالِكٍ قال: قَالَ أَبُو طَلحَةَ لِأُمِّ سُلَيمٍ: قَد سَمِعتُ صَوتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعرِفُ فِيهِ الجُوعَ، فَهَل عِندَكِ مِن شَيءٍ؟ فَقَالَت: نَعَم، فَأَخرَجَت أَقرَاصًا مِن شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخَذَت خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّت الخُبزَ بِبَعضِهِ، ثُمَّ دَسَّتهُ تَحتَ ثَوبِي، وَرَدَّتنِي بِبَعضِهِ، ثُمَّ أَرسَلَتنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَذَهَبتُ بِهِ، فَوَجَدتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا فِي المَسجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمتُ عَلَيهِم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرسَلَكَ أَبُو طَلحَةَ؟ قَالَ: فَقُلتُ: نَعَم. قَالَ: إلى طَعَامٍ؟ فَقُلتُ: نَعَم. فَقَالَ
ــ
و(قوله في حديث أنس: فأخرجت أقراصًا من شعير، فلفته بالخمار ثم أرسلت بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي الرواية الأخرى: (إن أبا طلحة أمر أمَّ سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا لنفسه خاصة). وفي أخرى: (إن أبا طلحة قال لأم سليم: هل من شيء؟ فقالت: نعم، عندي كسر وتمرات، فإنَّ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء أحدٌ معه قلَّ عنهم).
قلت: وهذه روايات مختلفة، فإن كان وقع ذلك مرَّات فلا إشكال، وإن كان مرة واحدة كان ذلك اضطرابًا، غير أنه يمكن الجمع بين تلك الألفاظ، ويرتفع الاضطراب، لكن على تكلف وبُعد.
و(قوله: فدسته تحت ثوبي) كذا في كتاب مسلم عند سائر رواته. وفي الموطأ: تحت يدي. أي: إبطي. والدسّ: وضع الشيء في خفية، ولطافة.
و(قوله: وردتني ببعضه) يعني به: أنها جعلت الطرف الثاني من الخمار عليه كالرداء.
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَن مَعَهُ: قُومُوا. قَالَ: فَانطَلَقَ وَانطَلَقتُ بَينَ أَيدِيهِم، حَتَّى جِئتُ أَبَا طَلحَةَ فَأَخبَرتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيمٍ، قَد جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيسَ عِندَنَا مَا نُطعِمُهُم! فَقَالَت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ. قَالَ: فَانطَلَقَ أَبُو طَلحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ حَتَّى دَخَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلُمِّي مَا عِندَكِ يَا أُمَّ سُلَيمٍ. فَأَتَت بِذَلِكَ الخُبزِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَفُتَّ، وَعَصَرَت عَلَيهِ أُمُّ سُلَيمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَن يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائذَن لِعَشَرَةٍ. فَأَذِنَ لَهُم فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائذَن لِعَشَرَةٍ.
ــ
و(قول أبي طلحة لأم سليم: قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم) قولٌ على مقتضى العادة. و (جواب أم سليم بقولها: الله ورسوله أعلم) قولٌ أخرجه النظر إلى إمكان خرق العادة، ورجاء بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي كان.
و(العكة): وعاء صغير من جلد يجعل فيه السمن، والنحي أكبر منه. و (أدمته) بمدِّ الألف وقصرها؛ أي: جعلت السمن في الخبز وهو الأدم (1)، فصار الخبز مأدومًا.
و(قوله: ليتحلق عشرة عشرة)(2) فيه دليل على استحباب اجتماع هذا العدد على جفنة واحدة عند كثرة الناس، لكن هذا إذا لم تحمل الجفنة أكثر من ذلك، فلو كانت كجفنة الرَّكب (3) لأكل عليها أكثر من هذا العدد.
و(قوله: فأكلوا حتى شبعوا) دليل على جواز الشبع، خلافًا لمن كرهه
(1) في (ج 2): الإدام.
(2)
هذه العبارة لم تردْ في كل روايات هذا الحديث، وإنما وردت في كتاب النكاح من صحيح مسلم برقم (1428) (93). والعبارة المقصود شرحها هنا هي:"ائذنْ لعشرة".
(3)
"الركب": أصحاب الإبل في السفر.
فَأَذِنَ لَهُم فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائذَن لِعَشَرَةٍ. حَتَّى أَكَلَ القَومُ كُلُّهُم وَشَبِعُوا، وَالقَومُ سَبعُونَ رَجُلًا أَو ثَمَانُونَ رَجُلًا.
وفي رواية: قَالَ: رَأَى أَبُو طَلحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضطَجِعًا فِي المَسجِدِ يَتَقَلَّبُ ظَهرًا لِبَطنٍ، فَأَتَى أُمَّ سُلَيمٍ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُضطَجِعًا فِي المَسجِدِ، يَتَقَلَّبُ ظَهرًا لِبَطنٍ، وَأَظُنُّهُ جَائِعًا.
فأَمَرَ أَبُو طَلحَةَ أُمَّ سُلَيمٍ أَن تَصنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا لِنَفسِهِ خَاصَّةً، ثُمَّ أَرسَلَنِي إِلَيهِ. وَسَاقَ الحَدِيثَ. وفِيهِ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ وَسَمَّى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: ائذَن لِعَشَرَةٍ. فَأَذِنَ لَهُم فَدَخَلُوا فَقَالَ: كُلُوا وَسَمُّوا اللَّهَ. فَأَكَلُوا حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلًا، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعدَ ذَلِكَ، وَأَهلُ البَيتِ، وَتَرَكُوا سُؤرًا.
وفي رواية: وأفضلوا ما أبلغوا جيرانهم.
رواه أحمد (3/ 218)، والبخاري (5450)، ومسلم (2040)(142 - 143)، والترمذيُّ (3630).
ــ
مطلقًا. وهم قومٌ من المتصوفة، لكن الذي يكره منه ما يزيد على الاعتدال، وهو الأكل بكل البطن، حتى لا يترك للماء، ولا للنَّفس مساغًا. وقد ينتهي هذا إلى تجاوز الحد، فيحكم عليه بالتحريم كما تقدَّم. وكونه صلى الله عليه وسلم أكل بعدهم؛ إنَّما كان ذلك لأنه هو أطعمهم ببركة دعائه، فكان آخرهم أكلًا، كما قال في الشراب:(ساقي القوم آخرهم شربًا)(1). وأيضًا: فليحصل على درجة الإيثار؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم كان
(1) رواه أحمد (5/ 303)، ومسلم (681)، والترمذي (1894).
[1926]
وعنه، قال: جِئتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومًا فَوَجَدتُهُ جَالِسًا مَعَ أَصحَابِهِ يُحَدِّثُهُم، وَقَد عَصَّبَ بَطنَهُ بِعِصَابَةٍ، قَالَ أُسَامَةُ: وَأَنَا أَشُكُّ - عَلَى حَجَرٍ - فَقُلتُ لِبَعضِ أَصحَابِهِ: لِمَ عَصَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَطنَهُ؟ فَقَالَوا: مِن الجُوعِ، فَذَهَبتُ إِلَى أَبِي طَلحَةَ، وَهُوَ زَوجُ أُمِّ سُلَيمٍ بِنتِ مِلحَانَ، فَقُلتُ: يَا أَبَتَاهُ، قَد رَأَيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَصَّبَ بَطنَهُ بِعِصَابَةٍ، فَسَأَلتُ بَعضَ أَصحَابِهِ فَقَالَوا: مِن الجُوعِ، فَدَخَلَ أَبُو طَلحَةَ عَلَى أُمِّي فَقَالَ: هَل مِن شَيءٍ؟ فَقَالَت: نَعَم، عِندِي كِسَرٌ مِن خُبزٍ، وَتَمَرَاتٌ، فَإِن جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحدَهُ أَشبَعنَاهُ، وَإِن جَاءَ أحد مَعَهُ قَلَّ عَنهُم، وساق الحديث.
وفي أخرى: ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة. قال: فعاد كما كان. فقال: دونكم هذا.
رواه مسلم (2040)(143).
* * *
ــ
أشدهم جوعًا؛ لأنَّه كان قد شدَّ على بطنه بحجرين، ومع ذلك فقدَّمهم عليه وآثرهم بالأكل قبله.
وشدُّ البطن بالحجر يسكن سورة الجوع، وذلك: أنه يلصق البطن بالأمعاء، والأمعاء بالبطن، فتلتصق المعدة بعضها بالبعض، فيقل الجوع. وقيل: إنما يفعل ذلك ليقوى من الضعف الذي يجده بسبب الجوع. والأول أبين. وفيه أبواب من الفقه لا تخفى.
* * *