المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) باب العين حق، والسحر حق، واغتسال العائن - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - جـ ٥

[أبو العباس القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌(22) كتاب القسامة والقصاص والديات

- ‌(1) باب في كيفية القسامة وأحكامها

- ‌(2) باب القصاص في العين وحكم المرتد

- ‌(3) باب القصاص في النفس بالحجر

- ‌(4) باب من عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنية العاض

- ‌(5) باب القصاص في الجراح

- ‌(6) باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وتكرار إثم من سن القتل، وأنه أول ما يقضى فيه

- ‌(7) باب تحريم الدماء والأموال والأعراض

- ‌(8) باب الحث على العفو عن القصاص بعد وجوبه

- ‌(9) باب دية الخطأ على عاقلة القاتل، وما جاء في دية الجنين

- ‌(23) كتاب الحدود

- ‌(1) باب حد السرقة وما يقطع فيه

- ‌(2) باب النهي عن الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام

- ‌(3) باب حد البكر والثيب إذا زنيا

- ‌(4) باب إقامة الحد على من اعترف على نفسه بالزنا

- ‌(5) باب يحفر للمرجوم حفرة إلى صدره وتشد عليه ثيابه

- ‌(6) باب من روى أن ماعزا لم يحفر له ولا شد ولا استغفر له

- ‌(7) باب لا تغريب على امرأة ويقتصر على رجم الزاني الثيب ولا يجلد قبل الرجم

- ‌(8) باب إقامة حكم الرجم على من ترافع إلينا من زناة أهل الذمة

- ‌(9) باب إقامة السادة الحد على الأرقاء

- ‌(10) باب الحد في الخمر وما جاء في جلد التعزير

- ‌(11) باب من أقيم عليه الحد فهو كفارة له

- ‌(12) باب الجبار الذي لا دية فيه ومن ظهرت براءته مما اتهم به لم يحبس ولم يعزر

- ‌(24) كتاب الأقضية

- ‌(1) باب اليمين على المدعى عليه والقضاء باليمين والشاهد

- ‌(2) باب حكم الحاكم في الظاهر لا يغير حكم الباطن والحكم على الغائب

- ‌(3) باب الاعتصام بحبل الله وأن الحاكم المجتهد له أجران في الإصابة وأجر في الخطأ

- ‌(4) باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره، ورد المحدثات، ومن خير الشهداء

- ‌(5) باب تسويغ الاجتهاد

- ‌(6) باب اختلاف المجتهدين في الحكم لا ينكر

- ‌(7) باب للحاكم أن يصلح بين الخصوم، وإثم الخصم الألد

- ‌(8) باب الحكم في اللقطة والضوال

- ‌(9) باب الاستظهار في التعريف بزيادة على السنة إذا ارتجى ربَّها

- ‌(10) باب النهي عن لقطة الحاج وعن أن يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه

- ‌(11) باب الأمر بالضيافة والحكم فيمن منعها

- ‌(12) باب الأمر بالمواساة بالفضل وجمع الأزواد إذا قلت

- ‌(25) كتاب الصيد والذبائح وما يحل أكله من الحيوان وما لا يحل

- ‌(1) باب الصيد بالجوارح وشروطها

- ‌(2) باب الصيد بالسهم ومحدد السلاح وإذا غاب الصيد

- ‌(3) باب النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير

- ‌(4) باب إباحة أكل ميتة البحر وإن طفت

- ‌(5) باب النهي عن لحوم الحمر الأهلية، والأمر بإكفاء القدور منها

- ‌(6) باب في إباحة لحوم الخيل وحمر الوحش

- ‌(7) باب ما جاء في أكل الضب

- ‌(8) باب ما جاء في أن الضب والفأر يتوقع أن يكونا مما مسخ

- ‌(9) باب أكل الجراد والأرانب

- ‌(10) باب الأمر بإحسان الذبح وحد الشفرة

- ‌(11) باب النهي عن صبر البهائم وعن اتخاذها غرضا وعن الخذف

- ‌(12) باب من ذبح لغير الله ولعنه

- ‌(26) كتاب الأشربة

- ‌(1) باب تحريم الخمر

- ‌(2) باب الخمر من النخيل والعنب

- ‌(3) باب النهي عن اتخاذ الخمر خلا، وعن التداوي بها، وعن خلط شيئين مما يبغي أحدهما على الآخر

- ‌(4) باب النهي عما ينتبذ فيه

- ‌(5) باب نسخ ذلك والنهي عن كل مسكر

- ‌(6) باب كل شراب مسكر خمر وحرام وما جاء في إثم من شربه

- ‌(7) باب كم المدة التي يشرب إليها النبيذ

- ‌(8) باب كيفية النبيذ الذي يجوز شربه

- ‌(9) باب استدعاء الشراب من الخادم والشرب في القدح

- ‌(10) باب شرب اللبن، وتناوله من أيدي الرعاء من غير بحث عن كونهم مالكين

- ‌(11) باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وذكر الله تعالى عليهما

- ‌(12) باب بيان أن الأمر بذلك من باب الإرشاد إلى المصلحة وأن ترك ذلك لا يمنع الشرب من ذلك الإناء

- ‌(13) باب النهي عن الشرب قائما، وعن اختناث الأسقية، والشرب من أفواهها

- ‌(14) باب النهي عن التنفس في الإناء وفي مناولة الشراب الأيمن فالأيمن

- ‌(27) كتاب آداب الأطعمة

- ‌(1) باب التسمية على الطعام

- ‌(2) باب الأمر بالأكل باليمين والنهي عن الأكل بالشمال

- ‌(3) باب الأكل مما يليه والأكل بثلاث أصابع

- ‌(4) باب لعق الأصابع والصحفة وأكل اللقمة إذا سقطت

- ‌(5) باب من دعي إلى الطعام فتبعه غيره

- ‌(6) باب إباحة تطييب الطعام وعرض من لم يدع

- ‌(7) باب من اشتد جوعه تعين عليه أن يرتاد ما يرد به جوعه

- ‌(8) باب جعل الله تعالى قليل الطعام كثيرا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر كثير من آداب الأكل

- ‌(9) باب في أكل الدباء والقديد

- ‌(10) باب في أكل التمر مقعيا، وإلقاء النوى بين إصبعين، وأكل القثاء بالرطب

- ‌(11) باب النهي عن القران في التمر عند الجهد

- ‌(12) باب بركة عجوة المدينة وأنها دواء

- ‌(13) باب الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، واجتناء الكباث الأسود

- ‌(14) باب نعم الإدام الخل

- ‌(15) باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم الثوم

- ‌(16) باب الأكل مع المحتاج بالإيثار

- ‌(17) باب إطعام الجائع وقسمة الطعام على الأضياف عند قلته، وبركة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(18) باب يخبأ لمن غاب من الجماعة نصيبه

- ‌(19) باب الحض على تشريك الفقير الجائع في طعام الواحد وإن كان دون الكفاي

- ‌(20) باب المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء

- ‌(21) باب النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

- ‌(28) كتاب الأضاحي

- ‌(1) باب في التسمية على الأضحية وفي وقتها وأن من ذبح قبله أعاد

- ‌(2) باب إعادة ما ذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام

- ‌(3) باب ما يجوز في الأضاحي من السن

- ‌(4) باب ما يختار في الأضحية

- ‌(5) باب الذبح بما أنهر الدم والنهي عن السن والظفر

- ‌(6) باب النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث

- ‌(7) باب الرخصة في ذلك

- ‌(8) باب إذا دخل العشر وأراد أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره

- ‌(29) كتاب اللباس

- ‌(1) باب تحريم لباس الحرير والتغليظ فيه على الرجال وإباحته للنساء

- ‌(2) باب ما يرخص فيه من الحرير

- ‌(3) باب من لبس ثوب حرير غلطا أو سهوا نزعه أول أوقات إمكانه

- ‌(4) باب الرخصة في لبس الحرير للعلة

- ‌(5) باب النهي عن لبس القسي والمعصفر

- ‌(6) باب لباس الحبرة والإزار الغليظ والمرط المرحل

- ‌(7) باب اتخاذ الوساد والفراش من أدم والأنماط ولم يجوز أن يتخذ من الفرش

- ‌(8) باب إثم من جر ثوبه خيلاء ومن تبختر وإلى أين يرفع الإزار

- ‌(9) باب إرخاء طرفي العمامة بين الكتفين

- ‌(10) باب النهي عن تختم الرجال بالذهب وطرحه إن لبس

- ‌(11) باب لبس الخاتم الورق وأين يجعل

- ‌(12) باب في الانتعال وآدابه

- ‌(13) باب النهي عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد وفي وضع إحدى الرجلين على الأخرى مستلقيا

- ‌(14) باب ما جاء في صبغ الشعر والنهي عن تسويده والتزعفر

- ‌(15) باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إلا أن تكون الصورة رقما

- ‌(16) باب كراهية الستر فيه تماثيل وهتكه وجعله وسائد وكراهية كسوة الجدر

- ‌(17) باب أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون

- ‌(18) باب في الأجراس والقلائد في أعناق الدواب

- ‌(19) باب النهي عن وسم الوجوه وأين يجوز الوسم

- ‌(20) باب النهي عن القزع وعن وصل شعر المرأة

- ‌(21) باب في لعن المتنمصات والمتفلجات للحسن

- ‌(22) باب النهي عن الزور وهو ما يكثرن به الشعور وذم الكاسيات العاريات والمتشبع بما لم يعط

- ‌(30) كتاب الأدب

- ‌(1) باب في أحب الأسماء إلى الله وأبغضها إليه

- ‌(2) باب قوله عليه الصلاة والسلام: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، وفي التسمية بأسماء الأنبياء والصالحين

- ‌(3) باب ما يكره أن يسمى به الرقيق

- ‌(4) باب في تغيير الاسم بما هو أولى والنهي عن الاسم المقتضي للتزكية

- ‌(5) باب تسمية الصغير وتحنيكه والدعاء له

- ‌(6) باب تكنية الصغير وندائه بيا بني

- ‌(7) باب الاستئذان وكيفيته وعدده

- ‌(8) باب كراهية أن يقول: أنا، عند الاستئذان، والنهي عن الاطلاع في البيت وحكم المطلع إن فقئت عينه

- ‌(9) باب نظرة الفجأة، وتسليم الراكب على الماشي، وحق الطريق

- ‌(10) باب حق المسلم على المسلم، والسلام على الغلمان

- ‌(11) باب لا يبدأ أهل الذمة بالسلام وكيفية الرد عليهم إذا سلموا

- ‌(12) باب في احتجاب النساء وما يخفف عنهن من ذلك

- ‌(13) باب النهي عن المبيت عند غير ذات محرم وعن الدخول على المغيبات

- ‌(14) باب اجتناب ما يوقع في التهم ويجر إليه

- ‌(15) باب من رأى فرجة في الحلقة جلس فيها وإلا جلس خلفهم

- ‌(16) باب النهي عن أن يقام الرجل من مجلسه، ومن قام من مجلسه ثم رجع إليه عن قرب فهو أحق به

- ‌(17) باب الزجر عن دخول المخنثين على النساء

- ‌(18) باب امتهان ذات القدر نفسها في خدمة زوجها وفرسه؛ لا يغض من قدرها

- ‌(19) باب النهي عن مناجاة الاثنين دون الثالث

- ‌(20) باب جواز إنشاد الشعر وكراهية الإكثار منه

- ‌(21) باب في قتل الحيات وذي الطفيتين والأبتر

- ‌(22) باب المبادرة بقتل الحيات إلا أن تكون من ذوات البيوت؛ فلا تقتل حتى تستأذن ثلاثا

- ‌(23) باب قتل الأوزاغ وكثرة ثوابه في أول ضربة

- ‌(24) باب كراهية قتل النمل إلا أن يكثر ضررها

- ‌(25) باب فيمن حبس الهر

- ‌(26) باب في كل ذي كبد أجر

- ‌(27) باب النهي عن سب الدهر

- ‌(28) باب النهي عن تسمية العنب كرما

- ‌(29) باب النهي عن أن يقول سيد: عبدي وأمتي، أو غلام: ربي أو ربك

- ‌(30) باب لا يقل أحد: خبثت نفسي وما جاء أن المسك أطيب الطيب

- ‌(31) باب من عرض عليه طيب أو ريحان فلا يرده، وبماذا يستجمر

- ‌(32) باب تحريم اللعب بالنرد

- ‌(33) باب مناولة السواك الأكبر

- ‌(31) كتاب: الرقى والطب

- ‌(1) باب في رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(2) باب العين حق، والسحر حق، واغتسال العائن

- ‌(3) باب ما جاء أن السموم وغيرها لا تؤثر بذاتها

- ‌(4) باب ما كان يرقي به رسول الله صلى الله عليه وسلم المرضى، وكيفية ذلك

- ‌(5) باب مماذا يرقى

- ‌(6) باب لا يرقى برقى الجاهلية ولا بما لا يفهم

- ‌(7) باب أم القرآن رقية من كل شيء

- ‌(8) باب الرقية بأسماء الله والتعويذ

- ‌(9) باب لكل داء دواء، والتداوي بالحجامة

- ‌(10) باب التداوي بقطع العرق والكي والسعوط

- ‌(11) باب الحمى من فيح جهنم، فابردوها بالماء

- ‌(12) باب التداوي باللدود والعود الهندي

- ‌(13) باب التداوي بالشونيز والتلبينة

- ‌(14) باب التداوي بالعسل

- ‌(15) باب ما جاء أن الطاعون إذا وقع بأرض فلا يخرج منها فرارا، ولا يقدم عليها

- ‌(16) باب لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة ولا نوء ولا غول

- ‌(17) باب لا يورد ممرض على مصح

- ‌(18) باب في الفأل الصالح وفي الشؤم

- ‌(19) باب النهي عن الكهانة، وعن إتيان الكهان، وما جاء في الخط

- ‌(20) باب في رمي النجوم للشياطين عند استراق السمع

الفصل: ‌(2) باب العين حق، والسحر حق، واغتسال العائن

يُؤذِيكَ، مِن شَرِّ كُلِّ نَفسٍ أَو عَينِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشفِيكَ، بِاسمِ اللَّهِ أَرقِيكَ.

رواه أحمد (3/ 28)، ومسلم (2186)(40)، والترمذي (972)، وابن ماجه (3523).

* * *

(2) باب العين حق، والسحر حق، واغتسال العائن

[2128]

عَن ابنِ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: العَينُ حَقٌّ،

ــ

و(قوله: من شرِّ كلِّ نفسٍ - أو: عين -) هذا شك من الرَّاوي في أي اللفظين قال، مع أن معناهما واحد، فإن النَّفس يقال على الإصابة بالعين، يقال: أصابت فلانًا نفس؛ أي: عين. والنافس: العائن. قاله القتبي. وتطلق النفس على أمور أخر ليس شيء منها يراد بهذا الحديث. والله تعالى أعلم.

(2)

ومن باب العين حق، والسِّحر حق، واغتسال العائن (1)

(قوله: العين حقٌّ) أي: ثابت موجود، لا شكَّ فيه. وهذا قول علماء الأمَّة، ومذهب أهل السُّنَّة. وقد أنكرته طوائف من المبتدعة، وهم محجوجون بالأحاديث النُّصوص الصَّريحة، الكثيرة الصحيحة، وبما يشاهد من ذلك في الوجود. فكم من رجل أدخلته العين القبر، وكم من جمل ظهير أحلَّتهُ القِدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال:{وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِن أَحَدٍ إِلا بِإِذنِ اللَّهِ} ولا يلتفت إلى مُعرِضٍ عن الشرع والعقل، يتمسك في إنكار ذلك؛ باستبعاد ليس له أصل، فإنا نشاهد من خواصِّ الأحجار، وتأثير السِّحر،

(1) هذا العنوان ليس في الأصول، واستدركناه من التلخيص.

ص: 565

وَلَو كَانَ شَيءٌ سَابَقَ القَدَرَ سَبَقَتهُ العَينُ، وَإِذَا استُغسِلتُم فَاغسِلُوا.

رواه مسلم (2188)(42)، والترمذي (2062).

ــ

وسموم الحيوانات ما يُقضَى منها العجب، ويُتحقَّق أنَّ كل ذلك فعل مسبِّب كلَّ سبب. ولا يلتفت أيضًا إلى قول من قال من المثبتين للعين: إنَّ العائن تنبعث من عينه قوةٍ سُمِّيَّة تتصل بالمعين فيهلك، أو يفسد، كما تنبعث قوة سُمِّيَّة من الأفعى والعقرب تتصل باللَّديغ فتهلكه؛ لأنَّا نقول لهؤلاء: إن كنتم تريدون بالقوَّة أن هناك معنى يقتضي ذلك الضرر بذاته، وأن ذلك ليس فعلًا لله تعالى فذلك كفر؛ لأنَّه جحد لما علم من الشرع والعقل؛ من: أنه لا خالق إلا الله عز وجل، ولا فاعل على الحقيقة إلا هو. وإن كان يريد بذلك: أن الله تعالى هو الفاعل للسبب والمسبب؛ فهو الحق الصَّريح، غير أن إطلاق لفظ القوَّة في هذا المعنى ليس بحسن عند المتشرِّعين ولا صحيح.

و(قوله: ولو كان شيء سابق القَدَر لسبقته العين) هذا إغياءٌ في تحقيق إصابة العين، ومبالغة فيه تجري مجرى التمثيل، لا أنَّه يمكن أن يردَّ القدر شيء، فإنَّ القدر عبارة عن سابق علم الله تعالى ونفوذ مشيئته، ولا رادَّ لأمره، ولا معقب لحكمه، وإنَّما هذا خرج مخرج قولهم: لأطلبنَّك ولو تحت الثَّرى. أو: لو (1) صعدت إلى السَّماء، ونحوه مما يجري هذا المجرى، وهو كثير (2).

و(قوله: وإذا استغسلتم فاغسلوا) هذا خطابٌ لمن يُتَّهم بأنَّه عائن، فيجب عليه ذلك، ويُقضى عليه به إذا طُلِب منه ذلك، لا سيما إذا خيف على المعين الهلاك. وهذا الغسل هو الذي سمَّاه في بعض طرق حديث سهل بن حنيف: بالوضوء، وذلك: أن عامر بن ربيعة نظر إلى سهل متجرِّدًا فقال: ما رأيت كاليوم

(1) كذا في (ج) وفي بقية النسخ: ولو.

(2)

ما بين حاصرتين زيادة من (ج 2).

ص: 566

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ولا جلد عذراء، فوُعِك سهل مكانه، فأُخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لعامر:(علام يقتل أحدكم أخاه! ألا برَّكت! إن العين حقٌّ، توضأ له) فتوضأ عامر (1). وفي الطريق الأخرى زيادة الغَسل؛ قال: فغسل وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، فَصُبَّ عليه.

وصفته عند العلماء: أن يؤتى بقدح من ماء، ولا يوضع القدح بالأرض، فيأخذ منه غرفة، فيتمضمض بها، ثم يمجها في القدح، ثم يأخذ منه ما يغسل به وجهه، ثمَّ يأخذ بشماله ما يغسل به كفه اليمنى، ثم بيمينه ما يغسل به كفه اليسرى، وبشماله ما يغسل به مرفقه الأيمن، ثم بيمينه ما يغسل به مرفقه الأيسر، ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين، ثمَّ قدمه اليمنى، ثمَّ اليسرى، ثمَّ ركبته اليمنى، ثم اليسرى على الصَّفة والرتبة المتقدمة، وكل ذلك في القدح، ثم داخلة الإزار، وهو الطرف الذي يلي حِقوَهُ الأيمن. وقد ذكر بعضهم: أن داخلة الإزار يكنى به عن الفَرج. وجمهور العلماء على ما قلناه. فإذا استكمل هذا صبَّه خلفه من على رأسه. هكذا نقل أبو عبد الله المازري، وقال: هذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه.

قال القاضي عياض: وبه قال الزهري، وأخبر: أنه أدرك العلماء يصفونه، ويستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل، وزاد: أن غسل وجهه إنَّما هو صبَّة واحدة بيده اليمنى، وكذلك سائر أعضائه، وليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء، وغسل داخلة الإزار هو إدخاله وغسله في القدح، ثم يقوم الذي يأخذ القدح، فيصبَّه على رأس المعين من ورائه على جميع جسده، يستغفله به (2). وقيل: يغسله بذلك، ثم يكفأ الإناء على ظهر الأرض.

وقد روي عن ابن شهاب: أنه بدأ بغسل الوجه قبل المضمضة، وأنه لا يغسل

(1) رواه أبو داود (3880).

(2)

ما بين حاصرتين زيادة من (ج 2).

ص: 567

[2129]

وعَن عَائِشَةَ قَالَت: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَهُودِيٌّ مِن

ــ

القدمين جميعهما، بل أطرافهما من عند أصول أصابعه. وقيل في داخلة الإزار: الموضع الذي تمسُّه داخلة الإزار. وقيل: أراد وركه؛ إذ هو معقد الإزار. وقد روي في حديث سهل: أن العائن غسل صدره مع ما ذكره، وأنه صلى الله عليه وسلم أمره فحسا من الماء حسوات. والمعتمد على ما رواه مالك. والله تعالى أعلم.

وفي حديث سهل من الفقه أبواب. فمنها: العائن على الوضوء المذكور؛ على الوجه المذكور. وقيل: لا يُجبر، وأن من اتُّهم بأمرٍ أُحضر للحاكم، وكُشف عن أمره. وأن العين قد تقتل، لقوله صلى الله عليه وسلم:(علام يقتل أحدكم أخاه؟ )(1) وأن الدُّعاء بالبركة يذهب أثر العين بإذن الله تعالى. وأن أثر العين إنما هو عن حسد كامن في القلب. وأن من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة الناس دفعًا لضرره. قال بعض العلماء: يأمره الإمام بلزوم بيته، وإن كان فقيرًا رزقه ما يقوم به، وكف أذاه عن الناس. وفيه جواز النشر (2) والتطبب بها.

فرع: لو انتهت إصابة العين (3) إلى أن يُعرف بذلك ويُعلَم من حاله أنه كلَّما تكلم بشيء معظَّمًا له، أو متعجبًا منه أصيب ذلك الشيء، وتكرر ذلك بحيث يصير ذلك عادة، فما أتلفه بعينه غَرِمَه. وإن قتل أحدًا بعينه عامدًا لقتله قتل به، كالسَّاحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرً. وأما عندنا فيقتل على كل حال. قتل بسحره أو لا؛ لأنَّه كالزنديق. وسيأتي.

وقول عائشة رضي الله عنها: (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي) هذا الحديث يدل على أن السحر موجود، وأن له أثرًا في المسحور. وقد دلَّ على ذلك مواضع كثيرة من الكتاب والسُّنة بحيث يحصل بذلك القطع بأن السِّحر حق، وأنه موجودٌ،

(1) رواه أبو داود (3880).

(2)

جمع نشرة، وهي كالتعويذ والرُّقْية.

(3)

في (ل 1) و (ز): العائن.

ص: 568

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وأن الشرع قد أخبر بذلك، كقصة سحرة فرعون، وبقوله تعالى فيها:{وَجَاءُوا بِسِحرٍ عَظِيمٍ} و {يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّهَا تَسعَى} إلى غير ذلك مما تضمنته تلك الآيات من ذكر السِّحر، والسَّحرة، وكقوله تعالى:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحرَ} إلى آخرها. وبالجملة: فهو أمر مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن وجوده، ووقوعه. فمن كذَّب بذلك فهو كافرٌ، مكذِّب لله ورسوله، منكر لما علم مشاهدة وعيانًا. ومنكر ذلك إن كان مُستسرًّا به فهو الزنديق، وإن كان مظهرًا فهو المرتد.

والسحر عند علمائنا: حيل صناعية يُتوصل إليها بالتعلم، والاكتساب، غير أنها لخفائها ودقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، فيندر وقوعها، وتستغرب آثارها لندورها. ومادَّته الوقوف على خواص الأشياء، والعلم بوجوه تركيبها، وأزمان ذلك. وأكثره تخييلات لا حقيقة لها، وإيهامات لا ثبوت لها، فتعظم عند من لا يعرفها وتشتبه على من لا يقف عليها. ولذلك قال تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيهِ مِن سِحرِهِم أَنَّهَا تَسعَى} مع أنه كان في عين الناظر إليه عظيمًا. وعن ذلك عبر الله تعالى بقوله: {وَجَاءُوا بِسِحرٍ عَظِيمٍ} لأن الحبال والعصي لم تخرج عن حقيقتها، وذلك بخلاف عصا موسى، فإنَّها انقلبت ثعبانًا مبينًا خرقًا للعادة، وإظهارًا للمعجزة. ولا ينكر أن السِحر له تأثير في القلوب بالحب والبغض، وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وبإدخال الآلام، وعظيم الأسقام؛ إذ كل ذلك مدرك بالمشاهدة، وإنكاره معاندة. وعلى ما قررناه فالسحر ليس بخرق عادة بل هو أمر عادي يتوصَّل إليه من يطلبه غالبًا؛ غير أنه يقل ويندر. فلا نقول: إن السَّاحر تنخرق له العادة؛ خلافًا لمن قال من أئمتنا وغيرهم: إن العادة تنخرق له. فإن أراد بذلك جواز انخراقها له عادة عقلًا فمسلّم، ما لم يدّع النبوة. فإنَّ حاصل ذلك أنه أمر ممكن. والله تعالى قادر على كل ممكن. وإن أراد بذلك: أن الذي وقع في الوجود خارق للعادة فهو

ص: 569

يَهُودِ بَنِي زُرَيقٍ، يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بنُ الأَعصَمِ، قَالَت: حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيهِ أَنَّهُ يَفعَلُ الشَّيءَ، وَمَا يَفعَلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَومٍ - أَو ذَاتَ

ــ

باطل بما قدَّمناه. واستيفاء مباحثه في علم الكلام.

وقولها: (حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله) قد جعل هذا بعض أهل الزَّيغ مطعنًا في النبوة. وقال: إذا انتهى الحال إلى هذا لم يوثق بقول من كان كذلك. والجواب: إن هذا صَدَر عن سوء فهم وعدم علم. أما سوء الفهم؛ فلأنها إنما أرادت أنه صلى الله عليه وسلم أخذ عن النساء، فكان قبل مقاربة الجماع يخيل إليه أنه يتأتى له ذلك، فإذا لابسه لم ينهض لغلبة مرض السحر عليه. وقد جاء هذا المعنى منصوصًا في غير كتاب مسلم. فقالت: حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء (1)، فلا يأتيهن. ولو لم يُنقل أن ذلك في الجماع لصح في غيره، كما صحَّ فيه. فيتخيل إليه أنه يُقدِم على الأكل، أو المشي مثلًا؛ لأنَّه لا يُحسُّ بمانع يمنعه منه. فإذا رام ذلك، وأخذ فيه لم يتأت له ذلك، لغلبة المرض الناشئ عن السحر. لا أنه صلى الله عليه وسلم أوجب له (2) خللًا في عقله، ولا تخليطًا في قوله؛ إذ قد قام برهان المعجزة على صدقه، وعصمة الله تعالى له عن الغلط فيما يبلغه بقوله وفعله. وأما عدم علم الطاعن: فقد سلبه الله تعالى العلم بأحكام النبوات، وما تدل عليه المعجزات. فكأنهم لم يعلموا أن الأنبياء من البشر، وأنه يجوز عليهم من الأمراض، والآلام، والغضب، والضجر، والعجز، والسحر، والعين، وغير ذلك، ما يجوز على البشر، لكنهم معصومون عمَّا يناقض دلالة المعجزة من معرفة الله تعالى، والصِّدق، والعصمة عن الغلط في التبليغ. وعن هذا المعنى عبَّر الله تعالى بقوله:{قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ} . من حيث البشرية: يجوز عليه ما يجوز عليهم. ومن حيث الخاصة النبويَّة: امتاز عنهم، وهو الذي شهد له العلي الأعلى؛ بأن بصره ما زاغ وما

(1) رواه البخاري رقم (5765).

(2)

أي المرض الناشئ عن السحر.

ص: 570

لَيلَةٍ - دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، أما شَعَرتِ أَنَّ اللَّهَ أَفتَانِي فِيمَا استَفتَيتُهُ فِيهِ؟ جَاءَنِي رَجُلَانِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِندَ رَأسِي وَالآخَرُ عِندَ رِجلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِندَ رَأسِي لِلَّذِي عِندَ رِجلَيَّ - أَو الَّذِي عِندَ رِجلَيَّ لِلَّذِي عِندَ رَأسِي -: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطبُوبٌ، قَالَ: مَن طَبَّهُ؟

ــ

طغى، وبأن فؤاده ما كذب ما رأى، وبأن قوله وحي يوحى، وأنه ما ينطق عن الهوى.

و(قوله: ثم دعا، ثم دعا) أي: إظهارًا للعجز والافتقار، وعلمًا منه: بأن الله هو الكاشف للكرب، والأضرار، وقيامًا بعبادة الدعاء عند الاضطرار.

و(قوله: أما شعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه) أي: أجابني فيما دعوته. فسمَّى الدعاء: استفتاء. والجواب: فتيا؛ لأنَّ الداعي طالب، والمجيب مسعفٌ، فاستعير أحدهما للآخر.

و(قوله: جاءني رجلان) أي: ملكان في صورة رجلين. وظاهره: أن ذلك كان في اليقظة. ويُحتمل أن يكون منامًا، ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي.

و(قوله: ما وجع الرَّجل؟ ) أي: ما مرضه؟ و (المطبوب): المسحور. يقال: طُبَّ الرَّجل: إذا سحر. قال ابن الأنباري: الطِّبُّ من الأضداد. يقال لعلاج المرض وللسِّحر.

قلت: وإنما قيل ذلك؛ لأنَّ أصل الطِّبَّ الحِذق بالشيء، والتفطن له، ولما كان علاج المريض والسِّحر؛ إنما يكونان عن فطنة وحِذق: قيل على كل واحد منهما: طبٌّ، ولمعاينهما: طبيب، وفي الطب ثلاث لغات: كسر الطاء، وفتحها، وضمها.

ص: 571

قَالَ: لَبِيدُ بنُ الأَعصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيءٍ؟ قَالَ: فِي مُشطٍ وَمُشَاطَةٍ، قَالَ وَجُفِّ طَلعَةِ ذَكَرٍ، قَالَ: فَأَينَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئرِ ذِي أَروَانَ. قَالَت: فَأَتَاهَا

ــ

و(المُشط) بضم الميم: واحد الأمشاط التي يمشط بها. والمشط أيضًا: نبت صغير يقال له: مشط الذيب. والمشط - أيضًا -: سلاميات ظهر القدم. ومشط الكتف: العظم العريض.

قلت: ويحتمل أن يكون الذي سحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم واحدًا من هؤلاء الأربعة.

و(المُشاطة) بالطاء: هو ما يسقط من الشعر عند المَشطِ. ووقع في البخاري: مشاقة - بالقاف - وهي الواحدة من مشاق الكتان (1). وقيل: هي المشاطة من الشعر. و (جف طلعة ذكر) روايتنا فيه بالفاء، وهي المشهورة. وقال أبو عمر: قد روي بالباء بواحدة تحتها. فبالفاء: هي وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي يكون عليه. وبالباء؛ قال شمر: أراد بالجب داخل الطلعة إذا أخرج عنها الكُفُرَّى (2)، كما يقال لداخل الرُّكية (3)، من أسفلها إلى أعلاها: جبٌّ. وقيل فيه: إنه من القطع؛ يعني به: ما قطع من قشورها.

و(قوله: في بئر ذي أروان) كذا هو في الأصل، وخارج الحاشية: في بئر ذروان. ووقع في البخاري في كتاب الدَّعوات (4): في ذروان بئر في بني زريق. وقال القتبي: الصواب: ذي أروان، كما في الأصل.

(1)"المشاقة": ما سقط من الكَتَّان أو الحرير ونحوها عند المشط.

(2)

"الكُفُرَّى": وعاء طلع النخل، وفي لفظها لغات.

(3)

"الرَّكِيَّة": البئر، وجمعها: ركيٌّ وركايا.

(4)

رواه البخاري (6391).

ص: 572

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِن أَصحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، وَاللَّهِ، لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وَلَكَأَنَّ نَخلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ. قَالَت: فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أَحرَقتَهُ؟ قَالَ: لَا، أَمَّا أَنَا فَقَد عَافَانِي اللَّهُ، وَكَرِهتُ أَن أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، فَأَمَرتُ بِهَا فَدُفِنَت.

رواه أحمد (6/ 63)، والبخاري (3175 و 5766)، ومسلم (2189)(43).

* * *

ــ

و(قوله: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين) فيه دليل: على جواز اليمين وإن لم يستحلف. ونقاعة الحنَّاء: الماء الذي يخرج فيه لونها إذا نقعت فيه. وتشبيهه نخلها برؤوس الشياطين يعني: أنَّها مستكرهة، مستقبحة المنظر، والمخبر. وهذا على عادة العرب إذا استقبحوا شيئًا شبهوه بأنياب أغوال، أو رؤوس الشياطين. وقد تقدَّم نحو هذا. ويعني - والله أعلم -: أن هذه الأرض التي فيها النخل والبئر خراب لا تعمر لرداءتها، فبئرها معطلة، ونخلها مشذَّبةٌ (1)، مهملة، وتغيُّر ماء البئر: إما لطول إقامته، وإما لما خالطه مما أُلقي فيه.

وقولها: (أفلا أحرقته) كذا صحَّت الرواية. وتعني به: السِّحر. ووقع في بعض النُّسخ: (أخرجته) كذا بدل (أحرقته) وهي أصوب؛ لأنَّها هي التي تناسب قوله: (لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شرًّا) أي: بإخراج السِّحر من البئر، فلعلَّه يعمل به، أو يضر أحدًا.

و(قوله: فأمرت بها فدفنت) أي: بالبئر؛ يعني: أنها ردمت على السحر الذي فيها؛ لما يخاف من ضرر السِّحر، ومن ضرر ماء ذلك البئر. هذا معنى ما ذكره بعض الشارحين لهذا الحديث. ووقع في رواية في الأم: قالت عائشة

(1) أي: مقطوعة الأغصان ومقشرة اللحاء.

ص: 573

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله! فأخرجته؟ تستفهمه: هل كان منه إخراج له؟ والرواية المتقدِّمة على العرض، وهما متقاربتان في المعنى. وفي كل الروايات فجواب النبي صلى الله عليه وسلم لها (1) واحدٌ، وهو: أنه لم يفعل ذلك، ولا وجد منه.

قلت: ويظهر لي: أن رواية: (أفلا أحرقته؟ ) أولى من غيرها؛ لأنَّه يمكن أن تكون استفهمته عن إحراق لبيد بن الأعصم؛ الذي صنع السِّحر فأجابها بالامتناع من ذلك؛ لئلا يقع بين الناس شرٌّ بسبب ذلك، فحينئذ يكون فيه حجَّة لمالك على قتل السَّاحر إذا عمل بسحره. وإنَّما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لما نبَّه عليه من خوف وقوع شرٌّ بين المسلمين واليهود؛ لما كان بينهم من العهد والذمَّة. فلو قتله: لثارت فتنة، ولتحدَّث الناس: أن محمَّدًا يقتل من عاهده وأمَّنه. وهذا نحو مِمَّا راعاه في الامتناع من قتل المنافقين، حيث قال:(لئلا يتحدَّث الناس: أن محمَّدًا يقتل أصحابه)(2) فيكون ذلك منفرًا عن الدُّخول في دينه، وفي عهده. والله تعالى أعلم.

وقد تقدَّم: أن السَّاحر عند مالك كالزنديق؛ لأنَّ العمل عنده بالسِّحر كفر مُستَسرٌّ به، فلا تُقبل توبة السَّاحر، كما لا تقبل توبة الزنديق؛ إذ لا طريق لنا إلى معرفة صدق توبته. وقال الشافعي: إن عمل السَّحر، وقتل به؛ فإن قال: تعمدت القتل؛ قتل. وإن قال: لم أتعمده لم يقتل، وكانت فيه الدِّية. وإنما صار مالك: إلى أن السحر كفرٌ؛ لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِن أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحنُ فِتنَةٌ فَلا تَكفُر} أي: بالسحر. ويتأيَّد ذلك بأن الساحر لا يتم له سحره حتى يعتقد أن سحره ذلك مؤثرٌ بذاته وحقيقته، وذلك كفر.

(1) في (ج 2): هو.

(2)

انظر: سيرة ابن هشام (2/ 291).

ص: 574