الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(18) باب في الفأل الصالح وفي الشؤم
[2163]
عن أبي هُرَيرَةَ قَالَ: سَمِعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا طِيَرَةَ، وَخَيرُهَا الفَألُ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الفَألُ؟ قَالَ: الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسمَعُهَا أَحَدُكُم.
رواه أحمد (2/ 266)، والبخاريُّ (2755)، ومسلم (2223)(110).
ــ
أحدها: النسيان المتقدّم، كما قال أبو سلمة.
وثانيها: أنهما لما كانا خبرين متغايرين (1) لا ملازمة بينهما جاز للمحدِّث أن يحدِّث بأحدهما ويسكت عن الآخر حسبما تدعو إليه الحاجة الحالية.
وثالثها: أن يكون خاف اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين، فسكت عن أحدهما، حتى إذا أمن من ذلك حدَّث بهما جميعًا.
ورابعها: أن يكون حمله على ذلك وجه غير ما ذكرناه لم يطَّلع عليه أحدًا.
وعلى الجملة: فكل ذلك محتمل، غير أن الذي يقطع بنفيه النسخ على ما قرَّرناه، والله أعلم.
(18)
ومن باب: الفأل الصالح
قوله صلى الله عليه وسلم لا طيرة، وخيرها الفأل، حاصل الطيرة أن يسمع الإنسان قولًا أو يرى أمرًا يخاف منه ألا يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله، والفأل نقيض ذلك، وهو أن يسمع الإنسان قولًا حسنًا أو يرى شيئًا يستحسنه يرجو منه
(1) في (ز) و (م 2): متعارضين.
[2164]
ونحوه عن أنس.
رواه البخاريُّ (5756 و 5776)، ومسلم (2204)(111 و 112)، وأبو داود (3916)، والترمذيُّ (1615).
ــ
أن يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله، وهذا معنى ما فسَّر به النبي صلى الله عليه وسلم الفأل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الطيرة ويعجبه الفأل.
وروى الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا راشد! يا نجيح! وهو حديث حسن (1) صحيح غريب (2).
وروى أبو داود عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث غلامًا سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح به ورُئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه رُئي كراهية ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإذا أعجبه اسمها فرح بها ورُئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رُئي كراهية ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم (3).
وروى قاسم بن أصبغ عن بريدة بن حصيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتطير، ولكن يتفاءل، فركب بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم يتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ ، فقال: بريدة. فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: برد أمرنا وصلح، ثم قال: ممن؟ ، قال: من أسلم. قال لأبي بكر: سلمنا، ثم قال: ممن؟ ، قال: من بني سهم. قال: خرج سهمنا (4) - وذكر الحديث.
وإنما كان يعجبه الفأل لأنَّه تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل، فيحسُن الظَّن بالله عز وجل، وقد قال الله تعالى: أنا عند ظن
(1) زيادة من (ز) و (م 3).
(2)
رواه الترمذي (1616).
(3)
رواه أبو داود (3920).
(4)
رواه ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 174) بهامش الإصابة، وذكره ابن الأثير في أسد الغابة (1/ 396).
[2165]
وعَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدوَى وَلَا طِيَرَةَ، إِنَّمَا الشُّؤمُ فِي ثَلَاثَةٍ: المَرأَةِ، وَالفَرَسِ، وَالدَّارِ.
رواه البخاريُّ (5753 و 5772)، ومسلم (2225)(116)، وأبو داود (3922)، والترمذي (2825)، والنسائي (6/ 220)، وابن ماجه (86).
ــ
عبدي بي (1)، وإنما كان يكره الطيرة لأنَّها من أعمال أهل الشرك ولأنها تجلب ظن السوء بالله تعالى، كما قد روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الطيرة شرك - ثلاثا - وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل (2)؛ أي: من اعتقد في الطيرة ما كانت الجاهلية تعتقده فيها فقد أشرك مع الله تعالى خالقًا آخر، ومن لم يعتقد ذلك فقد تشبَّه بأهل الشرك، ولذلك قال وما منا أي: ليس على سنتنا.
وقوله إلا هي إلا الاستثنائية، ومعنى ذلك أن المتطيِّر ليس على سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يمضي لوجهه ويعرض عنها، غير أنه قد لا يقدر على الانفكاك (3) عنها بحيث لا تخطر له مرة واحدة، فإنَّ إزالة تأثيرها من النفوس لا تدخل تحت استطاعتنا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن الحكم - لما قال له: ومنا رجال يتطيَّرون - فقال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدَّهم، وفي بعض النسخ فلا يضرَّهم، لكنه إذا صحَّ تفويضه إلى الله تعالى وتوكله عليه وداوم على ذلك أذهب الله تعالى ذلك عنه، ولذلك قال: ولكن الله يذهبه بالتوكل (4)، وقد روى أبو أحمد بن عدي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا (5).
(1) رواه أحمد (3/ 491)، وابن حبان (633) الإحسان.
(2)
رواه أبو داود (3910)، وابن ماجه (3538).
(3)
في (م 2): الانكفاف.
(4)
رواه أحمد (5/ 447)، ومسلم (537)، وأبو داود (930) و (3282).
(5)
رواه ابن عدي في الكامل (4/ 1523) وإسناده لين. انظر الفتح (12/ 323).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والشؤم نقيض اليمن، وهو من باب الطيرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: لا طيرة، إنما الشؤم في ثلاثة: المرأة، والفرس، والدار، وقد تخيل بعض أهل العلم أن التطيُّر بهذه الثلاثة مستثنى من قوله لا طيرة وأنه مخصوص بها، فكأنه قال: لا طيرة إلا في هذه الثلاثة، فمن تشاءم بشيء منها نزل به ما كره من ذلك. وممن صار إلى هذا القول ابن قتيبة، وعضد هذا بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: الطيرة على من تطيَّر (1)، وقال أبو عبد الله: إن مالكًا أخذ بحديث الشؤم في الدار والمرأة والفرس وحمله على ظاهره ولم يتأوَّله، فذكر في كتاب الجامع من العتبية (2) أنه قال: ربَّ دار سكنها قوم فهلكوا، وآخرون بعدهم فهلكوا - وأشار إلى حمل الحديث على ظاهره. ويعضد هذا حديث يحيى بن سعيد قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، دار سكنَّاها والعدد كثير والمال وافر، فذهب العدد وقلَّ المال (3)! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها ذميمة (4).
قلت: ولا يظن بمن قال هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذه الأشياء الثلاثة هو على نحو ما كانت الجاهلية تعتقد فيها وتفعل عندها، فإنَّها كانت لا تقدم على ما تطيرت به ولا تفعله بوجه بناء على أن الطيرة تضر قطعًا، فإنَّ هذا ظن خطأ، وإنما يعني بذلك أن هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه
(1) رواه ابن حبان (6123) من حديث أنس.
(2)
"العتبية": نسبة إلى مصنِّفها فقيه الأندلس: محمد بن أحمد العتبي القرطبي (ت 254 هـ) وهو مسائل في مذهب الإمام مالك.
(3)
في (ج 2): فقل العدد، وذهب المال.
(4)
رواه البيهقي (8/ 140).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه ويسكن له خاطره، ولم يُلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه أو مع امرأة يكرهها، بل قد فسح له في ترك ذلك كله، لكن مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفعَّال لما يريد وليس لشيء من هذه الأشياء أثر في الوجود، وهذا على نحو ما ذكرناه في المجذوم. فإن قيل: فهذا يجري في كل متطير به، فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ فالجواب ما نبَّهنا عليه من أن هذه ضروريَّة في الوجود ولا بدَّ للإنسان منها ومن ملازمتها غالبًا، فأكثر ما يقع التشاؤم بها فخصَّها بالذكر لذلك، فإن قيل (1): فما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء؟ فإنَّ الدار إذا تطير بها فقد وسع له في الارتحال عنها، وموضع الوباء قد منع من الخروج منه! فالجواب ما قاله بعض أهل العلم: إن الأمور بالنسبة إلى هذا المعنى ثلاثة أقسام؛
أحدها: ما لم يقع التأذي به ولا اطَّردت عادة به خاصة ولا عامَّة، لا نادرة ولا متكررة، فهذا لا يصغى إليه، وقد أنكر الشرع الالتفات إليه، كلقي غراب في بعض الأسفار، أو صراخ بومة في دار، ففي مثل هذا قال صلى الله عليه وسلم: لا طيرة (2) ولا تطيَّروا، وهذا القسم هو الذي كانت العرب تعتبره وتعمل عليه مع أنَّه ليس في لقاء الغراب ولا دخول البومة دارًا ما يشعر بأذى ولا مكروه، لا على جهة الندور ولا التكرار.
وثانيها: ما يقع به الضرر ولكنه يعمُّ، ولا يخص ويندر، ولا يتكرر، كالوباء، فهذا لا يقدِّم عليه عملًا بالحزم والاحتياط، ولا يُفَرُّ منه لإمكان أن يكون قد وصل الضَّرر إلى الفارِّ فيكون سفره سببا في محنته وتعجيلًا لهلكته كما قدمناه.
(1) ما بين حاصرتين سقط من (ع).
(2)
سبق تخريجه قبل قليل.
[2166]
وعنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِن يَكُن مِن الشُّؤمِ شَيءٌ حَقّا فَفِي الفَرَسِ وَالمَرأَةِ وَالدَّارِ.
رواه البخاريّ (5094)، ومسلم (2225)(117).
[2167]
وعن جابر بن عبد الله، عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِن كَانَ فِي شَيءٍ فَفِي الرَّبعِ وَالخَادِمِ وَالفَرَسِ
رواه مسلم (2227)(120)، والنسائي (6/ 220).
* * *
ــ
وثالثها: سببٌ يخص ولا يعم، ويلحق منه الضرر بطول الملازمة كالدار والفرس والمرأة، فيباح له الاستبدال والتوكل على الله تعالى، والإعراض عما يقع في النفوس منها من أفضل الأعمال، وقد وضح الجواب، والله الموفق للصواب.
وقد سلك العلماء في تأويل ذلك الحديث أوجهًا أخر؛
منها: أن بعضهم قال: إنما هذا منه صلى الله عليه وسلم خبر عن غالب عادة ما يتشاءم به لا أنه خبر عن الشرع، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّه تعطيل لكلام الشارع عن الفوائد الشرعية التي لبيانها أرسله الله سبحانه وتعالى، ومنهم من تأوَّل الشؤم المذكور في هذه الثلاثة فقال: الشؤم في المسكن ضيقه وسوء جيرانه، وفي المرأة سوء خلقها وألا تلد، وفي الفرس جماحه وألا يُغزى عليه. وهذا المعنى لا يليق بالحديث، ونسبته إلى أنه هو مراد الشرع من فاسد الحديث، وما ذكرناه أولى، والله تعالى أعلم.
وقوله إن يكن من الشؤم شيء حقًّا ففي الفرس والمرأة والدار، وفي اللفظ الآخر إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس، مقتضى هذا