الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية: عليكم من غير واو.
رواه أحمد (6/ 37)، والبخاريُّ (2935)، ومسلم (2165)(10 و 11)، وابن ماجه (3698).
* * *
(12) باب في احتجاب النساء وما يخفف عنهن من ذلك
[2079]
عَن عَائِشَةَ: أَنَّ أَزوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يَخرُجنَ بِاللَّيلِ، إِذَا تَبَرَّزنَ، إِلَى المَنَاصِعِ - وَهُوَ صَعِيدٌ أَفيَحُ - وَكَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ يَقُولُ
ــ
وقوله لعائشة: (مه) معناه: اكففي. كما تقدَّم.
و(قوله: لا تكوني فاحشة) أي: لا يصدر عنك كلام فيه جفاء. والفحش: ما يستفحش من الأقوال، والأفعال. غير أنَّه قد كثر إطلاقه على الزنى، وهو غير مراد هنا قطعًا. وهذا منه صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها أمر بالتثبت، والرفق، وترك الاستعجال، وتأديبٌ لها لما نطقت به من اللَّعنة وغيرها، والله تعالى أعلم.
(12)
ومن باب احتجاب النساء وما يُخفَّف عنهن من ذلك
قوله: (كن يخرجن بالليل يتبرَّزن إلى المناصع) يتبرَّزن: يخرجن إلى البَرَاز- بفتح الباء - وهو الموضع الذي يُتبرَّز فيه؛ أي: يظهر. والبروز: الظهور، ومنه:{وَتَرَى الأَرضَ بَارِزَةً} أي: ظاهرة. مستوية لا يحجبها شيء، كما قال تعالى:{لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمتًا}
و(المناصع): موضع خارج المدينة.
و(قوله: وهو صعيد أفيح) أي: أرض مستوية متسعة، وذلك كناية عن
لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: احجُب نِسَاءَكَ، فَلَم يَكُن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفعَلُ، فَخَرَجَت سَودَةُ بِنتُ زَمعَةَ، زَوجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيلَةً مِن اللَّيَالِي، عِشَاءً، وَكَانَت امرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ: أَلَا قَد عَرَفنَاكِ، يَا سَودَةُ! حِرصًا عَلَى أَن يُنزَلَ الحِجَابُ. قَالَت
ــ
خروجهن إلى الحدث؛ إذ لم يكن لهم كنف في البيوت؛ كانوا لا يتخذونها استقذارًا، فكانت النساء يخرجن بالليل إلى خارج البيوت، ويبعدن عنها إلى هذا الموضع. وقد نصَّت على هذا عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك.
وقول عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (احجب نساءك) مصلحة ظهرت لعمر فأشار بها، ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أن تلك المصلحة خفيت عليه، لكنَّه كان ينتظر الوحي في ذلك، ولذلك لم يوافق عمر على ذلك حين أشار عليه به، لا سيما وقد كانت عادة نساء العرب ألا يحتجبن لكرم أخلاق رجالهم، وعفاف نسائهم غالبًا، ولذلك قال عنترة:
وأغُضُّ طرفي ما بدت لي جارتي
…
حتى يواري جارتي مأواها
فلما لم يكن هنالك ريبة؛ تركهم، ولم ينههم استصحابًا للعادة، وكراهة لابتداء أمرٍ أو نهي؛ فإنَّه كان يحبُّ التخفيف عن أمته.
ففيه من الفقه: الإشارة على الإمام بالرأي، وإعادة ذلك إن احتاج إليها، وجواز إشارة المفضول على الفاضل، وجواز إعراض المشار عليه، وتأخير الجواب إلى أن يتبيَّن له وجه يرتضيه.
وقول عمر رضي الله عنه في هذا الحديث: (ألا قد عرفناك يا سودة) يقتضي: أن ذلك كان من عمر رضي الله عنه قبل نزول الحجاب؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها قالت فيه: حرصًا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الحجاب. والرواية الأخرى تقتضي أن ذلك كان بعد نزول الحجاب، فالأولى أن يحمل ذلك على أن عمر تكرر منه هذا القول قبل نزول الحجاب وبعده، ولا بُعد فيه. ويحتمل
عَائِشَةُ: فَأُنِزَلَ الحِجَابُ.
رواه البخاريُّ (146)، ومسلم (2170)(18).
ــ
أن يحمل ذلك على أن بعض الرواة ضمَّ قصة إلى أخرى، والأول أولى؛ فإنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة عظيمة، وأنفة شديدة من أن يطلع أحدٌ على حرم النبي صلى الله عليه وسلم حتى صرح له بقوله: احجب نساءك؛ فإنَّهن يراهن البر والفاجر. ولم يزل ذلك عنده إلى أن نزل الحجاب وبعده. فإنه كان قصده: ألا يخرجن أصلًا، فأفرط في ذلك فإنَّه مفض إلى الحرج والمشقة، والإضرار بهن، فإنَّهن محتاجات إلى الخروج، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما تأذَّت بذلك سودة:(قد أذن لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكنَّ).
و(قوله: فأنزل الحجاب) أي: آية الحجاب؛ وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤذَنَ لَكُم} إلى قوله: {وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} كذلك روي عن أنس وابن مسعود رضي الله عنهما؛ غير أن هذا يتوجَّه عليه إشكال، وهو: أن حديث أنس وابن مسعود (1) يقتضي: أن سبب نزولها هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أعرس بزينب اجتمع عنده رجال فجلسوا في بيته، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا المجلس حتى ثقلوا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية (2). وحديث عائشة يقتضي أن الحجاب إنَّما نزل بسبب قول عمر: احجب نساءك. ويزول ذلك الإشكال بأن يقال: إن الآية نزلت عند مجموع السَّببين. فيكون عمر قد تقدَّم قوله: احجب نساءك، وكرر ذلك عليه إلى أن اتفقت قصة بناء زينب، فصدقت نسبة نزول الآية لكل واحد من ذينك السَّببين.
(1) ما بين حاصرتين سقط من (م 2).
(2)
رواه مسلم (1428).
[2080]
وعنها قَالَت: خَرَجَت سَودَةُ، بَعدَمَا ضُرِبَ عَلَيهَا الحِجَابُ، لِبعض حَاجَتَهَا، وَكَانَت امرَأَةً جَسِيمَةً تَفرَعُ النِّسَاءَ جِسمًا، لَا تَخفَى عَلَى مَن يَعرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا سَودَةُ! وَاللَّهِ مَا تَخفَينَ عَلَينَا، فَانظُرِي كَيفَ تَخرُجِينَ، قَالَت: فَانكَفَأَت رَاجِعَةً وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيتِي، وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرقٌ، فَدَخَلَت فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي خَرَجتُ، فَقَالَ لِي عُمَرُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَت: فَأُوحِيَ إِلَيهِ، ثُمَّ رُفِعَ عَنهُ، وَإِنَّ العَرقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَد أُذِنَ لَكُنَّ أَن تَخرُجنَ لِحَاجَتِكُنَّ.
رواه مسلم (2170)(17).
ــ
قلت: وهذا الحجاب الذي أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وخُصِّصن به هو في الوجه والكفين.
قال القاضي عياض: لا خلاف في فرضه عليهن في الوجه والكفين الذي اختلف في ندب غيرهن إلى ستره، قالوا: ولا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، ولا ظهور أشخاصهن، وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج إلى البراز، وقد كن إذا خرجن جلسن للناس من وراء حجاب، وإذا خرجن لحاجة حجبن وسترن.
و(قوله: تفرع النساء جسمًا) أي: طولًا. يقال: فرعت القوم: إذا طلتهم. و (انكفأت) صوابه بالهمزة، بمعنى: انقلبت وانصرفت. يقال: كفأت القوم كفئًا: إذا أرادوا وجها فصرفتهم إلى غيره، فانكفؤوا. ووقع لبعض الرواة: انكفت - بحذف الهمزة والألف -، وكأنه لما سهل الهمزة بقيت الألف ساكنة، فلقيها ساكن فحذفت.
و(العرق) - بفتح العين وسكون الراء -: العظم الذي عليه اللحم. واعترقت العظم، وتعرَّقته: إذا تتبعت ما عليه من اللحم. والعراق: العظم الذي لا لحم عليه.
و(قوله: قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن) لا خلاف في أن المرأة إن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تخرج لما تحتاج إليه من أمورها الجائزة لكنها تخرج على حال بذاذة، وتستُّر، وخشونة ملبس؛ بحيث يستر حجم أعضائها، غير متطيِّبة، ولا متبرِّجة بزينة، ولا رافعة صوتها. وعلى الجملة فالحال التي يجوز لها الخروج عليها: أن تكون بحيث لا تمتد لها عين، ولا تميل إليها نفس، وما أعدم هذه الحالة في هذه الأزمان؛ لما يظهرن من الزينة والطيب، والتبختر في الملابس الحسان، فمسامحتهن في الخروج على تلك الحال فسوق وعصيان. فإن قيل: فما الزينة التي اسثنى الله تعالى لهن إظهارها في قوله: {وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا} فالجواب: إن ذلك اختلف فيه. فقال ابن مسعود: إنها الثياب. يعني بذلك: ثيابها التي تستتر بها، ولا تُستَر هي، كالملحفة، والخمار. وعلى هذا فلا يجوز أن تبدي مما تحت ذلك شيئًا؛ لا كحلًا، ولا خاتمًا، ولا غير ذلك مما يستر بالملحفة والخمار. وقال ابن عباس والمسور: هي الكحل، والخاتم؛ يعني: أن العين لا يمكن سترها، وقد تتناول بيد الخاتم ما تحتاج إليه. وقال الحسن ومالك: هو الوجه، والكفان؛ لأنَّهما ليسا بعورة؛ إذ يجب كشفهما عليها في الإحرام عبادة، ويظهر ذلك منها في الصلاة، وهما اللذان يبدوان منها عادة. والكلُّ محومون على أن المستثنى: هو ما يتعذر ستره إما عادة، وإما عبادة، وقد دلَّ على أن المطلوب من المرأة ستر ما تتمكن من ستره؛ قول الله تعالى:{وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤمِنِينَ يُدنِينَ عَلَيهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدنَى أَن يُعرَفنَ فَلا يُؤذَينَ}
فالخمار ما يلف على الرأس، والحلق، والجلباب اختلف فيه. فقال الحسن: هو الرداء. وقال ابن جبير: المقنعة. وقال قطرب: هو كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها. وقال أبو عبيدة: أدنى الجلباب أن تغطي وجها إلا قدر ما تبصر منه.
فرع: إذا قلنا: إن الوجه والكفين ليسا بعورة، وإنه يجوز لها كشفهما؛ فإذا كانت بارعة الجمال، وجب عليها أن تستر وجهها لئلا تفتن الناس، فتكون من
[2081]
عن ابنَ مَسعُودٍ قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذنُكَ عَلَيَّ أَن يُرفَعَ الحِجَابُ، وَأَن تَسمِعَ سِوَادِي، حَتَّى أَنهَاكَ.
رواه أحمد (1/ 404)، ومسلم (2169)، وابن ماجه (139).
* * *
ــ
المميلات اللاتي قد توعدن بالنار، وللكلام في هذا متسع، وفيما ذكرناه مَقنَعٌ.
وقوله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رضي الله عنه: (إذنك علي أن يرفع الحجاب وأن تسمع (1) سوادي) الرواية في: (أن يرفع) أن يبنى لما لم يسم فاعله. ولا يجوز غيرها. وسببه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لعبد الله إذنًا خاصًّا به، وهو أنه إذا جاء بيت النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الستر قد رفع دخل من غير إذن بالقول، ولم يجعل ذلك لغيره إلا بالقول. كما قال تعالى:{لا تَدخُلُوا بُيُوتًا غَيرَ بُيُوتِكُم حَتَّى تَستَأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهلِهَا} وبقوله تعالى: {لا تَدخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤذَنَ لَكُم} . ولذلك كانت الصحابة رضي الله عنهم تذكر ذلك في فضائل ابن مسعود، فتقول: كان ابن مسعود يُؤذن له إذا حجبنا، وكأن ابن مسعود كان له من التبسُّط في بيت النبي صلى الله عليه وسلم والانبساط ما لم يكن لغيره: لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من حاله، ومن خلقه، ومن إلفه لبيته.
ويستفاد من هذا الحديث أن ربَّ المنزل لو جعل رفع ستر بيته علامة على الإذن في الدخول إليه لاكتفي بذلك عن الاستئذان بالقول.
و(السَّواد) بكسر السين: الرواية، وهو السِّرار. تقول: ساودته مساودة وسوادًا؛ أي: ساررته. وأصله: إدناء سوادك من سواده - بفتح السين - وهو: الشخص.
(1) كذا في كل نسخ المفهم، وفي صحيح مسلم: تستمع.