الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(16) باب لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة ولا نوء ولا غول
[2160]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: لَا عَدوَى، ولا
ــ
وذكر المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان فخرج هاربًا منه، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها سُكَر، فقدم عليه رسول لعبد الملك فقال له: ما اسمك؟ فقال: طالب بن مدرك. فقال: أوَّه! ما أراني راجعًا إلى الفسطاط - فمات في تلك القرية.
وروى أبو عمر عن الأصمعي قال: لما وقع طاعون الجارف بالبصرة فني أهلها على ريح (1)، وامتنع الناس من دفن موتاهم، فدخلت السباع البصرة على ريح الموتى، وخلت سكَّة بني جرير فلم يُبقِ الله فيها سوى جارية، فسمعت صوت الذئب في سِكَّتهم ليلًا، فأنشأت تقول:
ألا أيها الذئب المنادي بسحرةٍ
…
إلي أنبئك الذي قد بدا لِيَا
بدا لي أني قد نُعِيتُ وإنني
…
بَقيَّة قومٍ ورَّثوني البواكيا
وإنِّي بلا شكٍّ سأتبَعُ مَن مضى
…
ويتبعني مِن بَعدُ مَن كان تالِيَا
(16)
ومن باب لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة ولا غول
لا في هذا الحديث وإن كانت نفيًا لما ذكر بعدها فمعناها النهي عن الالتفات لتلك الأمور والاعتناء بها؛ لأنَّها في أنفسها ليست بصحيحة، وإنما هي
(1) ما بين حاصرتين زيادة من (م 2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
من أوهام جهَّال العرب، وبيان ذلك أنهم كانوا يعتقدون أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم وأعداهم، وكذلك في الإبل، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأبطله، ثم إنهم لما أوردوا على النبي صلى الله عليه وسلم الشبهة الحاملة لهم على ذلك حين قالوا: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها - قطع حجتهم وأزاح شبهتهم بكلمة واحدة، وهي قوله: فمن أعدى الأول؟ ، ومعنى ذلك أن البعير الأجرب الذي أجرب هذه الصحاح - على زعمهم - من أين جاءه الجرب؟ أمن بعير آخر فيلزم التسلسل؟ أو من سبب غير البعير فهو الذي فعل الجرب في الأول والثاني وهو الله تعالى الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء؟
وهذه الشبهة التي وقعت لهؤلاء هي التي وقعت للطبائعيين أولًا وللمعتزلة ثانيًا؛ فقال الطبائعيون بتأثيرات الأشياء بعضها في بعض وإيجادها إياها وسموا المؤثر طبيعة، وقالت المعتزلة بنحو ذلك في أفعال الحيوانات والمتولدات، وقالوا: إن قدرهم مؤثرة فيها بالإيجاد، وإنهم خالقون لأفعالهم مستقلون باختراعها. واستند الكل ممن ذكر للمشاهدة الحسية، وربما نسبوا منكر ذلك إلى إنكار البديهة، وهذا غلط فاحش، وسببه أنهم التبس عليهم إدراك الحس بإدراك العقل، فإنَّ الذي شاهدوه إنَّما هو تأثير شيء عند شيء آخر، وهذا حظ الحس، أما تأثيره فيه فلا يدرك حسًّا بل عقلًا، فإنَّ الحس إنما أدرك وجود شيء عند شيء وارتفاعه عند ارتفاعه، أما إيجاده به فليس للحس فيه مدخل، فأما المتقاربات في الوجود على حالة واحدةٍ فالعقل هو الذي يفرق، فيحكم بتلازم بعضها بعضًا عقلًا ويحكم بتلازم بعضها بعضا (1) عادة مع جواز التبدُّل عقلًا، ولقد أحسن من قال من العقلاء النظار الفضلاء: إياك والانخداع بالوجود والارتفاع!
واستيفاء الكلام على هذا في علم الكلام.
(1) في (ج 2): لبعض. وفي (م 2) و (ز): ببعض.
طيرة، وَلَا صَفَرَ، وَلَا هَامَةَ. فَقَالَ أَعرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّملِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَجِيءُ البَعِيرُ الأَجرَبُ فَيَدخُلُ فِيهَا فَيُجرِبُهَا كُلَّهَا! قَالَ: فَمَن أَعدَى الأَوَّلَ؟
زاد في رواية: ولا نوء.
رواه أحمد (2/ 267)، والبخاريُّ (5717)، ومسلم (2220).
ــ
وفيه دليل على جواز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقلي إذا كان السائل (1) أهلًا لفهمه، فأمَّا أهل القصور فيخاطبون بما تحتمله عقولهم من الأمور الإقناعيات.
والطيرة قد تقدم الكلام فيها في الصلاة، ويأتي إن شاء الله.
والصفر تأخير المحرَّم إلى صفر، وهو النسيء الذي كانوا يفعلونه، وإلى هذا ذهب مالك وأبو عبيدة، وقيل: هو دودٌ في البطن يهيج عند الجوع، كانت العرب تراها أعدى من الجرب، وأنشدوا (2):
لا يتأرَّى لِمَا في القِدرِ يَرقُبُه
…
ولا يَعَضُّ على شُرسُوفِهِ الصَّفَرُ
وإلى هذا ذهب مطرِّف وابن وهب وابن حبيب، وهو اختيار أبي عبيدة.
والهامَّة مشدد الميم طائر تتشاءم به العرب، فإذا سقطت في دار أحدهم رآها ناعية له نفسه أو أحدًا من أهله، وإلى هذا التفسير ذهب مالك، وقيل: كانت العرب تعتقد أن عظام الميت أو رأسه ينقلب هامَّة يطير، ويسمى ذلك الطائر: الصَّدى - قال لبيد:
فلَيسَ النَّاسُ بَعدَكَ في نَعِيمٍ
…
ولا هُم غَيرَ أَصدَاءٍ وهامِ
(1) في (م 3) و (ز): السامع.
(2)
قائل هذا البيت هو أعشى باهلة، يرثي أخاه.
[2161]
وعن أبي الزُّبَيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بنَ عَبدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا عَدوَى، وَلَا صَفَرَ، وَلَا غُولَ.
وفي رواية: ولا طيرة بدل ولا صفر.
وذكُرُ أبو الزبير أَنَّ جَابِرًا فَسَّرَ لَهُم فقال: الصَّفَرُ البَطنُ. فَقِيلَ لِجَابِرٍ: كَيفَ؟ قَالَ: كَانَ يُقَالُ دَوَابُّ البَطنِ. وَلَم يُفَسِّر الغُولَ، قَالَ أَبُو الزُّبَيرِ: هَذِهِ الغُولُ الَّتِي تَغَوَّلُ.
رواه أحمد (3/ 382)، ومسلم (2222)(107 و 109).
* * *
ــ
قال الإمام أبو عبد الله: أما البُوم فالأنثى منه الهامَّة، والذكر منه يسمى الصَّدى.
قلت: وهذا يُشعر أن أبا عبد الله وقع له في هذا الحديث ولا بوم ففسَّره بما قال، ولم يقع في كتاب مسلم إلا قوله ولا نوء؛ أي: لا تصح نسبة الأمطار والرياح للنوء، وقد تقدَّم تفسيره في الإيمان.
والغول: كانت العرب تتحدَّث أن الغيلان تتراءى للناس في الفلوات فتتغول لهم تغوَّلًا؛ أي: تتلوَّن تلوَّنًا، فتضلّهم عن الطريق فتهلكهم. قال الجوهري: الغول - بالضم - من السَّعالى، والجمع: أغوال وغيلان. وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غُولٌ، يقال غالته غول إذا وقع في مهلكة.
ومقصود هذا الحديث إبطال ما كانت العرب تقوله وتعتقده في هذه الأمور، وألا يُلتفت لشيء من ذلك لا بالقلب ولا باللسان، والله أعلم.
* * *