الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(19) باب النهي عن وسم الوجوه وأين يجوز الوسم
؟
[2028]
عَن جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَن الضَّربِ فِي الوَجهِ، وَعَن الوَسمِ فِي الوَجهِ.
رواه مسلم (2116)، وأبو داود (2564)، والترمذي (1710).
ــ
(19)
ومن باب النهي عن وسم الوجوه وأين يجوز الوسم
نهيه صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم فيه يدلّ على احترام هذا العضو، وتشريفه على سائر الأعضاء الظاهرة، وذلك لأنه الأصل في خلقة الإنسان، وغيره من الأعضاء خادم له؛ لأنَّه الجامع للحواس التي تحصل بها الإدراكات المشتركة بين الأنواع المختلفة، ولأنَّه أول الأعضاء في الشخوص، والمقابلة، والتحدُّث، والقصد، ولأنَّه مدخل الروح ومخرجه، ولأنه مقر الجمال والحسن، ولأن به قوام الحيوان كله: ناطقه وغير ناطقه. ولما كان بهذه المثابة احترمه الشرع، ونهى أن يُتعرَّض له بإهانة، ولا تقبيح، ولا تشويه. وقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال:(اتق الوجه، فإنَّ الله تعالى خلق آدم على صورته)(1) أي: على صورة المضروب. ومعنى ذلك - والله أعلم -: أن المضروب من ولد آدم، ووجهه كوجهه في أصل الخلقة، ووجه آدم عليه السلام مكرمٌ مشرف؛ إذ قد شرفه الله تعالى بأن خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأقبل عليه بكلامه، وأسجد له ملائكته. وإذا كان هذا الوجه يشبه ذلك الوجه فينبغي أن يحترم كاحترامه.
ولما سمع ذلك الصحابي النهي عن الوسم، وفهم ذلك المعنى قال: والله لا أسمه، مبالغة في الامتثال والاحترام.
و(الوسم): الكي بالنار. وأصله: العلامة. يقال: وسم الشيء يسمه: إذا
(1) رواه أحمد (2/ 347)، والبخاري (2559)، ومسلم (2612)(114 - 116).
[2029]
وعن ابنَ عَبَّاسٍ قال: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا مَوسُومَ الوَجهِ، فَأَنكَرَ ذَلِكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا أَسِمُهُ إِلَّا فِي أَقصَى شَيءٍ مِن الوَجهِ، فَأَمَرَ بِحِمَارٍ لَهُ فَكُوِيَ فِي جَاعِرَتَيهِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَن كَوَى الجَاعِرَتَينِ.
رواه مسلم (2118).
ــ
أعلمه بعلامة يعرف بها. ومنه: السيماء: العلامة، ومنه قوله تعالى:{سِيمَاهُم فِي وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُودِ} ومعروف الرواية: (الوسم) بالسين المهملة، وقد رواه بعضهم بالشين المعجمة (1)، وهو وَهمٌ؛ لأنَّ الوشم إنما هو غرز الشفاه والأذرع بالإبرة، وتسويدها بالنؤور، وهو: الكحل، أو ما شابهه. والوسم: كي. فكيف يجعل أحدهما مكان الآخر؟ !
و(الجاعرتان): مؤخر الوركين المشرفان مما يلي الدُّبر. وسُميا بذلك: لأن الجعر - وهو البعر - يقع عليهما.
و(قوله: قال: والله! لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه) ظاهر مساق هذا الحديث في كتاب مسلم: أن القائل: هو ابن عباس راوي الخبر، وليس كذلك؛ لما صحَّ من رواية البخاري في التاريخ، وفي رواية أبي داود في مصنفه: أن القائل هو: العباس والد عبد الله. وهو أوَّل من كوى في الجاعرتين، لا ابنه.
و(الميسم): المكوى. و (الظهر) هنا: الإبل التي يُحمل عليها.
وهذه الأحاديث كلها تدلُّ على جواز كي الحيوان لمصلحة العلامة في كل الأعضاء إلا في الوجه. وهو مستثنى من تعذيب الحيوان بالنار؛ لأجل المصلحة الرَّاجحة. وإذا كان كذلك، فينبغي أن يقتصر منه على الخفيف الذي يحصل به المقصود، ولا يبالغ في التعذيب، ولا التشويه. وهذا لا يختلف فيه الفقهاء إن شاء الله تعالى.
(1) في (ج 2): المثلثة.
[2030]
وعن أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا وَلَدَت أُمُّ سُلَيمٍ قَالَت لِي: يَا أَنَسُ، انظُر هَذَا الغُلَامَ، فَلَا يُصِيبَنَّ شَيئًا حَتَّى تَغدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَنِّكُهُ. قَالَ: فَغَدَوتُ، فَإِذَا هُوَ فِي الحَائِطِ وَعَلَيهِ خَمِيصَةٌ حُوَيتِيَّةٌ، وَهُوَ يَسِمُ الظَّهرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيهِ من الفَتحِ.
وفي رواية: قَالَ: فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مِربَدٍ يَسِمُ غَنَمًا. قَالَ شُعبَةُ: وَأَكثَرُ عِلمِي أَنَّهُ قَالَ: فِي آذَانِهَا.
رواه أحمد (3/ 105 و 106)، والبخاريُّ (5470)، ومسلم (2119)(109 و 110)، وأبو داود (2563).
ــ
وفيه ما يدل على استحسان استخراج المولود الذكر عند ولادته لمن يرتجى بركة دعوته من العلماء، والفضلاء. وينبغي لذلك المرجو بركته أن يحنك الصَّبي بتمر إن كان، أو بما يتنزل منزلته، كالزبيب، والتين، كما كانت العادة الجارية عندنا بالأندلس، لكنَّهم كانوا يخرجونه يوم السابع، وذلك عدولٌ عن مقتضى هذا الحديث، فإنَّه أُخرج إثر ولادته، قبل أن يصيب لبنًا، أو غيره. والكل واسعٌ، والأول أحسن اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه رضي الله عنهم.
وقول أنس رضي الله عنه: (وعليه خميصة حُويتيَّة) الخميصة: كساء أسود مربع. وقال الأصمعي: الخمائص: ثياب خز، أو صوف معلمة، كانت من لباس الناس. واختلف الرواة في (حويتية) فرواها العذري بالحاء المهملة، وبعد الواو الساكنة تاء باثنتين من فوقها مفتوحة، بعدها نون. ورواية الهروي:(حُونِية) بضم الحاء وكسر النون بعد الواو. وعند الفارسي: (خُوَيتِية) بضم الخاء المعجمة، وفتح الواو، وسكون الياء باثنتين من تحتها، بعدها تاء. ورواه البخاري:(خريثية) منسوبة إلى خُريث - رجل من قضاعة -. وضبطها ابن مُفَوَّز: (حَونَبِية) بفتح الحاء المهملة، وفتح النون بعدها، وكسر الباء بواحدة من تحتها.
[2031]
وعنه قَالَ: رَأَيتُ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المِيسَمَ، وَهُوَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ.
رواه أحمد (3/ 284 و 290)، والبخاريُّ (5824)، ومسلم (2119)(112).
* * *
ــ
قلت: ومع هذا الاضطراب لم نحصل من هذه اللفظة على تحقيق، وأشبه ما فيها: ما رواه البخاري.
و(المربد): أصله للإبل، فيحتمل أن كان مربدًا للإبل، وأدخلت فيه الغنم. ويحتمل أن يكون استعاره لحظيرة الغنم.
وكونه صلى الله عليه وسلم يسم الإبل والغنم بيده؛ يدلُّ على تواضعه صلى الله عليه وسلم، وعلى أن الفضل في امتهان الرجل نفسه في الأعمال التي لا تزري بالإنسان شرعًا، وخصوصًا: إذا كان ذلك في مصلحة عامة، كما وسم صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة بيده. ويحتمل أن تكون مباشرته للكي بيده ليرفق بالبهائم في الوسم، ولا يبالغ في ألمها. والله تعالى أعلم.
* * *