الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(15) باب ما جاء أن الطاعون إذا وقع بأرض فلا يخرج منها فرارا، ولا يقدم عليها
[2157]
عن أُسَامَة بن زيد قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الطَّاعُونُ رِجزٌ أُرسِلَ عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ - أَو: عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم -
ــ
(15)
ومن باب ما جاء في الطاعون
قوله الطاعون رجز أرسل على من كان قبلكم، قد جاء هذا اللفظ مفسَّرا في الرواية الأخرى، حيث قال: إن هذا الوجع - أو السُّقمُ - رجز عذب به بعض الأمم (1)، فقد فسَّر الطاعون بالمرض والرجز بالعذاب، والطاعون زنة فاعول من الطعن، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالًا على الموت العام (2) بالوباء على ما قاله الجوهري. وقال غيره: أصل الطَّاعون القروح الخارجة في الجسد. والوباء: عموم الأمراض. قال: وطاعون عَمواس إنما كان طاعونًا وقروحًا.
قلت: ويشهد لصحَّة هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سُئل عن الطاعون، فقال: غُدَّة كغدَّة البعير تخرج في المراق (3) والآباط (4)، وقال غير واحد من العلماء: تخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله من البدن.
قلت: وحاصله أن الطاعون مرض عام يكون عنه موت عام، وقد يسمَّى بالوباء، ويُرسله الله نقمة وعقوبة لمن يشاء من عصاة عبيده وكفرتهم، وقد يرسله
(1) في (م) والتلخيص: بعض الأمم قبلكم.
(2)
في (ز): القادم.
(3)
"المراق": ما رقَّ من أسفل البطن.
(4)
رواه أحمد عن عائشة (6/ 145 و 255) بلفظ: "غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفارُّ منها كالفارِّ من الزحف". وانظر: التمهيد (6/ 212).
فَإِذَا سَمِعتُم بِهِ بِأَرضٍ فَلَا تَقدَمُوا عَلَيهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرضٍ وَأَنتُم بِهَا فَلَا تَخرُجُوا فِرَارًا مِنهُ.
ــ
شهادة ورحمة للصالحين من عباده، كما قال معاذ في طاعون الشام: إنه شهادة ورحمة لكم، ودعوة نبيكم. قال أبو قلابة: يعني بدعوة نبيكم أنه صلى الله عليه وسلم دعا أن يجعل فناء أمته بالطَّعن والطَّاعون (1). كذا جاءت الرواية عن أبي قلابة بالواو، قال بعض علمائنا: والصحيح بالطَّعن أو الطاعون بأو التي هي لأحد الشيئين؛ أي: لا ي تمع ذلك عليهم.
قلت: ويظهر لي أن الروايتين صحيحتا المعنى، وبيانه أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بأمته المذكورة في الحديث إنما هم أصحابه؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم قد دعا لجميع أمته ألا يهلكهم بسنة عامة ولا بتسليط أعدائهم عليهم فأجيب إلى ذلك، فلا تذهب بيضتهم ولا معظمهم بموت عام ولا بعدوٍّ على مقتضى هذا الدعاء.
والدعاء المذكور في حديث أبي قلابة يقتضي أن يفنى جميعهم بالقتل والموت العام، فتعيَّن أن يصرف الأول إلى أصحابه لأنَّهم هم الذين اختار الله لمعظمهم الشهادة بالقتل في سبيل الله وبالطاعون الذي وقع في زمانهم فهلك به بقيتهم، فعلى هذا قد جمع الله لهم كلا الأمرين، فتبقى الواو على أصلها من الجمع، أو تحمل أو على التنويعية والتقسيمية، والله تعالى أعلم.
وقوله فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه، على ظاهر هذا الحديث عمل عمر والصحابة معه رضي الله عنهم أجمعين - لما رجعوا من سَرغ حين أخبرهم بهذا الحديث عبد الرحمن بن عوف، وإليه صاروا. وقالت عائشة رضي الله عنها: الفرار من الوباء كالفرار من الزحف، وإنما نهي عن القدوم عليه أخذًا بالحزم والحذر
(1) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 311) وقال: رواه أحمد (5/ 248)، وأبو قلابة لم يدرك معاذ بن جبل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والتحرُّز من مواضع الضرر، ودفعًا للأوهام المشوشة (1) لنفس الإنسان. وإما نهي عن الفرار منه لأنَّ الكائن في الموضع الذي الوباء فيه لعلَّه قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادي الوباء مشقات السفر فيتضاعف الألم ويكثر الضرر فيهلكون بكل طريق ويطرحون في كل فجوة ومضيق، ولذلك يقال: قلَّما فرَّ أحد من الوباء فسلم. ويكفي من ذلك موعظة قوله تعالى: {أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم وَهُم أُلُوفٌ حَذَرَ المَوتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} قال الحسن: خرجوا حذرًا من الطاعون فأماتهم الله تعالى في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفًا، وقيل غير هذا. وقالت طائفة أخرى: إنه يجوز القدوم على الوباء والفرار منه، وحكي ذلك عن عمر رضي الله عنه فإنَّه ندم على رجوعه من سرغ، وقال: اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ. وكتب إلى عامله بالشام بأنه إذا (2) وقع عندكم الوباء فاكتب حتى أخرج إليه. وكتب إلى أبي عبيدة في الطاعون، فعزم عليه أن يقدم عليه مخافة أن يصيبه الطاعون. وروي عن مسروق والأسود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أنهم فرُّوا من الطاعون، وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: تفرَّقوا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال. واعتمد أصحاب هذا القول على أن الآجال محدودة والأرزاق مقدَّرة معدودة، فلا يتقدَّم شيء على وقته، ولا يتأخر شيء عن أجله، فالواجب صحة الاعتماد على الله والتسليم لأمر الله، فإنَّ الله تعالى لا رادَّ لأمره ولا معقب لحكمه، فالقدوم على الوباء والفرار سيان بالنسبة إلى سابق الأقدار.
وتأوَّل بعضهم الحديث بأن مقصوده التحذير من فتنة الحي فيعتقد أن
(1) في (م 3): المرسوسة.
(2)
في الأصول: (قد) وصححنا ذلك من إكمال إكمال المعلم للأبي ليستقيم المعنى.
وَقَالَ أَبُو النَّضرِ: لَا يُخرِجُكُم إِلَّا فِرَارا مِنهُ.
رواه أحمد (5/ 206)، والبخاريُّ (5728)، ومسلم (2218)، والترمذي (1065).
ــ
هلاك من هلك من أجل قدومه على الوباء ونجاة من نجا من أجل فراره، قالوا: وهذا نحو نهيه عن الطيرة والقرب من المجذوم مع قوله لا عدوى، فمن خرج من بلاد الطاعون أو قدم عليها جاز له ذلك إذا أيقن أن قدومه لا يعجل له أجلًا أخره الله تعالى وأن فراره لا يؤخر عنه أجلًا عجَّله الله تعالى، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: الطاعون فتنة على المقيم والفار؛ أما الفارُّ فيقول: بفراري نجوت! وأما المقيم فيقول: أقمت فمت! وإلى نحو هذا أشار مالك حين سُئل عن كراهية النظر إلى المجذوم، فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء: إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه، وسُئل أيضًا مالك عن البلد يقع فيه الموت وأمراض، فهل يكره الخروج (1) إليه؟ فقال: ما أرى بأسًا، خرج أو أقام. قيل: فهذا يشبه ما جاء في الحديث من الطاعون! قال: نعم.
قلت: وهذا فيه نظر سيأتي إن شاء الله في حديث ابن عباس.
وقوله في حديث أبي النضر لا يخرجكم إلا فرارًا منه رويناه بالنصب والرفع، وعلى الروايتين فهو مشكل؛ لأنَّه يفيد بحكم ظاهره أنه لا يجوز لأحد أن يخرج من الوباء إلا من أجل الفرار، وهذا محال، وهو نقيض مقصود الحديث من أوله إلى آخره قطعًا، ولما ظهر هذا الفساد قيَّده بعض رواة الموطأ الإفرار بهمزة مكسورة وسكون الفاء، توهَّم فيه أنه مصدر، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه لا يقال
(1) في (ز) و (م 3): يخرج.
[2158]
وعنه، عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الوَجَعَ - أَو السَّقَمَ - رِجزٌ عُذِّبَ بِهِ بَعضُ الأُمَمِ قَبلَكُم، ثُمَّ بَقِيَ بَعدُ بِالأَرضِ، فَيَذهَبُ المَرَّةَ وَيَأتِي الأُخرَى، فَمَن سَمِعَ بِهِ بِأَرضٍ فَلَا يَقدَمَنَّ عَلَيهِ، وَمَن وَقَعَ بِأَرضٍ وَهُوَ بِهَا فَلَا يُخرِجَنَّهُ الفِرَارُ مِنهُ.
رواه مسلم (2218)(96).
[2159]
وعَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرغَ لَقِيَهُ أَهلُ الأَجنَادِ - أَبُو عُبَيدَةَ بنُ الجَرَّاحِ
ــ
أفرُّ - رباعيًّا، وإنما يقال فرَّ، ومصدره فرار ومفرّ، كما قال تعالى:{قُل لَن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرتُم مِنَ المَوتِ أَوِ القَتلِ} وقال: {أَينَ المَفَرُّ} وقد أشكل هذا الكلام على كثير من العلماء الأعلام حتى قالت جماعة: إن إدخال إلا فيه غلط. وقال بعضهم: إنها زائدة. كما قد تزاد لا في مثل قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسجُدَ} ؛ أي: ما منعك أن تسجد. وقال بعض النحويين: إن إلا هنا للإيجاب؛ لأنها توجب بعض ما نفاه من الجملة ونهى عنه من الخروج، فكأنه قال: لا تخرجوا منها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارًا - وأباح الخروج لغرض آخر. والأقرب أن تكون زائدة، والصحيح إسقاطها كما قد صح في الروايات الأخر.
وقوله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، كان هذا الخروج منه بعدما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خيَّاط، وكان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه، وكان قد خرج قبل ذلك إلى الشام لما حاصر أبو عبيدة إيلياء وهي البيت المقدَّس عندما سأل أهلها أن يكون صلحهم على يدي عمر، فقدم وصالحهم ثم رجع، وذلك سنة ست عشرة من الهجرة.
وقوله حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، سرغ رويناه بفتح الراء
وَأَصحَابُهُ - فَأَخبَرُوهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَد وَقَعَ بِالشَّامِ.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادعُ لِي المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ! فَدَعَوتُهُم فَاستَشَارَهُم، وَأَخبَرَهُم أَنَّ الوَبَاءَ قَد وَقَعَ بِالشَّامِ فَاختَلَفُوا؛ فَقَالَ بَعضُهُم: قَد خَرَجتَ لِأَمرٍ وَلَا نَرَى أَن تَرجِعَ عَنهُ. وَقَالَ بَعضُهُم: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا نَرَى أَن تُقدِمَهُم عَلَى هَذَا الوَبَاءِ. فَقَالَ: ارتَفِعُوا عَنِّي! ثُمَّ قَالَ: ادعُ لِي الأَنصَارَ! فَدَعَوتُهُم لَهُ، فَاستَشَارَهُم فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهَاجِرِينَ، وَاختَلَفُوا كَاختِلَافِهِم، فَقَالَ: ارتَفِعُوا عَنِّي! ثُمَّ قَالَ: ادعُ
ــ
وسكونها، وهي قرية بتبوك - قاله ابن حبيب. قال ابن وضاح: بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة، وقيل: هي آخر عمل الحجاز.
ففيه بيانُ ما يجب على الإمام من تفقُّد أحوال رعيته ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك وإن طال.
والأمراء جمع أمير، وكان قد قسَّم الشام على أربعة أمراء، تحت كل واحدٍ منهم جند وناحية: أبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حَسَنة، ويزيد بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل - ثم لم يمت عمر حتى جمع الشام لمعاوية.
وفيه دليل على إباحة العمل والولاية لمن كانت له أهلية ذلك من العلم والصلاح إذا اعتقدوا أنهم متمكنون من العمل بالحق والقيام به، فإذا عملوا بذلك حصل لهم أجر أئمة العدل.
وقوله ادعُ لي المهاجرين الأولين! فاستشارهم دليلٌ على استشارة أولي العلم والفضائل (1) وتقديم أهل السوابق، وهذا من عمر رضي الله عنه عمل بقوله تعالى:{وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ} وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه غير مرّة، وإن كان أكمل الناس عقلًا وأغزرهم علمًا، ولكن كان ذلك ليسنَّ ويطيب قلوب أصحابه.
والمهاجرون الأولون من صلَّى إلى
(1) في (م 3): الفضل.
لِي مَن كَانَ هَاهُنَا مِن مَشيَخَةِ قُرَيشٍ مِن مُهَاجِرَةِ الفَتحِ! فَدَعَوتُهُم فَلَم يَختَلِف عَلَيهِ رَجُلَانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَن تَرجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقدِمَهُم عَلَى هَذَا الوَبَاءِ. فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصبِحٌ عَلَى ظَهرٍ، فَأَصبِحُوا عَلَيهِ! فَقَالَ أَبُو عُبَيدَةَ بنُ الجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَو غَيرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيدَةَ! وَكَانَ عُمَرُ يَكرَهُ خِلَافَهُ - نَعَم، نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ! أَرَأَيتَ لَو كَانَت لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَت وَادِيًا لَهُ عُدوَتَانِ إِحدَاهُمَا خَصبَةٌ وَالأُخرَى
ــ
القبلتين، وأما من لم يُسلِم إلا بعد تحويل القبلة فلا يعدُّ في الأولين.
والمشيخة الشيوخ، وفيها لغات بكسر الشين وفتحها، والكسر أشهر. ويقال أيضًا: شيوخًا ومشايخ. وهذه كلها جمع شيخ، مع زيادة الميم. فأمَّا من غير ميم فهو جمع شيوخ وأشياخ وشِيخان وشِيَخَة - بكسر الشين، فأمَّا بالفتح فهي مؤنثة شِيخ، فأمَّا الشَّيَخ فهو مصدر شاخ يشيخ، ويقال فيه شيخوخة.
ومهاجرة الفتح هم الذين هاجروا قبل الفتح بيسير، وقيل: هم مسلمة الفتح - وفيه بُعد؛ لأنَّ الهجرة قد ارتفعت بعد الفتح، وإنما أخرهم عمر عن غيرهم لتأخرهم في الإسلام والهجرة، ولكن استشارهم لشيخهم ولكمال خبرتهم للأمور، ولما استشارهم لم يختلف عليه منهم أحد، فترجَّح عنده رأيهم ونادى في الناس إنِّي مصبح على ظهر؛ أي: على ظهر طريق، أو ظهر بعير - مرتحلًا، فأصبحوا عليه؛ أي: مرتحلين. وهذا يدلّ على أنه إنما عزم على الرجوع لرأي أولئك المشيخة لما ظهر أنه أرجح من رأي غيرهم ممن خالفهم، ووجه أرجحية هذا الرأي أنه جمع فيه بين الحزم والأخذ بالحذر وبين التوكل والإيمان بالقدر، وبيان ذلك بحجَّة عمر على أبي عبيدة رضي الله عنهما حين قال له أفرارا من قدر الله؟ ! ، وذلك أن أبا عبيدة ظهر له ألا يرجع ويتوكل على الله ويُسلم للقدر؛ لأنَّ ما يقدَّر عليه لا ينجيه منه رجوع ولا فرار، فأجابه عمر رضي الله عنه بأن قال له لو غيرك قالها! ؛ أي: ليت غيرك يقول ذلك القول.
جَدبَةٌ، أَلَيسَ إِن رَعَيتَ الخَصبَةَ رَعَيتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ وَإِن رَعَيتَ الجَدبَةَ رَعَيتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ - وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعضِ حَاجَتِهِ - فَقَالَ: إِنَّ عِندِي مِن هَذَا عِلمًا! سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِذَا سَمِعتُم بِهِ بِأَرضٍ فَلَا تَقدَمُوا عَلَيهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرضٍ وَأَنتُم بِهَا فَلَا تَخرُجُوا فِرَارًا مِنهُ. قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، ثُمَّ انصَرَفَ.
ــ
فكأنه قال: لا يليق هذا القول بك لعلمك وفهمك، وإنما يليق ذلك بغيرك ممن قل علمه وقصر فهمه. ثم احتج عليه بأن قال نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله؛ إذ لا محيص للإنسان عما قدَّره الله عليه، لكن أمرنا الله بالتحرُّز من المخاوف والهلكات وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات والحذر وجلب المنافع ودفع الضرر، ثم المقصِّر في ذلك ملوم عادة وشرعًا ومنسوبٌ إلى التفريط عقلًا وسمعًا، وإن زعم أنه المتوكل على الله المسلِّم لأمر الله.
ولما بيَّن عمر ذلك المعنى بالمثال لاح الحق وارتفع الجدال، ثم لم يبرح عمر من مكانه حتى جاءه الحق ببرهانه، فحدَّثهم عبد الرحمن بما قاله في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسُرَّ بذلك عمر رضي الله عنه سرورًا ظهر لديه فحمد الله وأثنى عليه حيث توافق الرأي والسمع وارتفع الخلاف وحصل الجمع، فرجع من موضعه ذلك إلى المدينة سالِمًا موفورًا، وكان في سعيه ذلك مصيبًا مشكورًا.
وعند هذا يعلم الفطن العاقل أن تلك الأقوال التي حكيت عنه في ندمه على الرجوع من سرغ ومن فتياه بإباحة القدوم على الوباء والفرار منه لم يصح عنه شيء من ذلك، وكيف يندم على هذا النظر القويم ويرجع عن هذا المنهج المستقيم الذي قد تطابق عليه العقل والسمع واصطحب عليه الرأي والشرع! هذا ما لا يكون، فالحاكون عنه هم المتقوِّلون، والله تعالى أعلم.
ومن أعظم فوائد هذا الحديث إجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بالرأي والاجتهاد وقبول أخبار الآحاد كما بيَّنا ذلك في الأصول.
زاد في رواية: وَقَالَ لَهُ أَيضًا: لَو أنه رَعَى الجَدبَةَ وَتَرَكَ الخَصبَةَ أَكُنتَ مُعَجِّزَهُ؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَسِر إِذن! قَالَ: فَسَارَ حَتَّى أَتَى المَدِينَةَ، فَقَالَ: هَذَا المَحِلُّ - أَو هَذَا المَنزِلُ - إِن شَاءَ اللَّهُ.
وفي أخرى: فرجع عمر من سرغ.
رواه أحمد (1/ 194)، والبخاريُّ (5729)، ومسلم (2219)(98 و 99 و 100)، وأبو داود (3103).
* * *
ــ
وقوله هذا المحل؛ أي المدينة، يعني أنها المحل الذي لا يرغب عنه ولا يفضل غيره عليه وإن كثر خصب البلاد واتسع حال أهلها، يقال بكسر الحاء وفتحها، والفتح هو الأصل المطَّرد؛ لأنَّ ما كان على فعل يَفعُل الأصل فيه أن يأتي المكان منه بالفتح إلا أحرفًا سمع فيها الكسر والفتح.
تكميل: قال أبو عمر رحمه الله: لم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فرَّ من الطاعون إلا ما ذكره ابن المديني أن علي بن زيد بن جدعان هرب من الطاعون إلى السَّيالة (1)، فكان يجمع كل جمعة ويرجع، فكان إذا جمع صاحوا به: فرَّ من الطَّاعون! فطعن، فمات بالسَّيالة. وذكر أبو حاتم عن الأصمعي: هرب بعض البصريين من الطاعون فركب حمارًا له، ومضى بأهله نحو سَفَوان (2)، فسمع حاديًّا يحدو خلفه:
لن يُسبَقَ اللهُ على حمارٍ
…
ولا على ذِي منعةٍ طيَّار
إذ يأتي الحتف على مقدار
…
قد يصبح الله أمام الساري
(1)"السِّيالة": هي أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة.
(2)
"سَفَوان": ماء على قدر مرحلة من باب المربد بالبصرة.