الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(14) باب النهي عن التنفس في الإناء وفي مناولة الشراب الأيمن فالأيمن
[1905]
عن أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَن يُتَنَفَّسَ فِي الإِنَاءِ.
رواه البخاريُّ (5630)، ومسلم (267) في الأشربة (121)، والترمذيُّ (1890)، والنسائي (1/ 43).
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية، وأن يشرب من أفواهها. ذكره أبو بكر بن أبي شيبة من رواية الزهري. وقد خرَّج الزبيري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى قربة، فخنثها، وشرب من فيها (1). وهذا - إن صحَّ - محمله: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه لم يكن هنالك شيء يضر، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يستقذر منه شيء، بل كان كلُّ ما يستقذر من غيره يستطاب منه، وتطيب به الأشياء.
ومن باب: النهي عن التَّنَفُّس في الإناء
نهيه صلى الله عليه وسلم عن التنفس في الإناء إنما هو لئلا يتنفس فيه فيتقذر الماء ببزاقٍ يخرج من الفم، أو بريح كريهة تتعلَّق بالماء، أو بالإناء، وعلى هذا: فإذا لم يتنفس في الإناء فليشرب في نفسٍ واحد ما شاء. قاله عمر بن عبد العزيز. وأجازه جماعة؛ منهم: ابن المسيِّب، وعطاء بن أبي رباح، ومالك بن أنس. وكره ذلك قومٌ؛ منهم: ابن عباس، وطاوس، وعكرمة، وقالوا: هو شرب الشيطان. والقول الأول أظهر لقوله صلى الله عليه وسلم للذي قال: إنه لا يروى من نفس واحدٍ: (أَبِنِ القَدَحَ عن فِيكَ، ثم تَنَفَّس)(2). وظاهره: أنه أباح له الشرب في نفس واحدٍ إذا كان يَروى منه.
(1) رواه الترمذي (1892) من حديث عبد الله بن أنيس.
(2)
رواه مالك في الموطأ (2/ 925)، وأبو داود (3722)، والترمذي (1888).
[1906]
وعَن أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: إِنَّهُ أَبرَأُ وأَروَى وَأَمرَأُ. قَالَ أَنَسٌ: وأَنَا أَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا.
وفي رواية: في الإناء.
رواه البخاري (5631)، ومسلم (2028)(123)، وأبو داود (3727)، والترمذيُّ (1885)
ــ
و(قول أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثًا)، وفي رواية:(في الإناء) قد حمل بعضهم هذا الحديث على ظاهره، وهو أن يتنفس في الإناء (1) ثلاثًا. وقال: فعل ذلك ليبيِّن به جواز ذلك. ومنهم من علل جواز ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم بأنه لم يكن يُتَقَذَّرُ منه شيء، بل الذي يُتَقَذَّرُ من غيره يُستطاب منه، فإنَّهم كانوا إذا بزق، أو تنخع تدلكوا بذلك، وإذا توضأ اقتتلوا على فضل وضوئه، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى.
قلت: وحمل هذا الحديث على هذا ليس بصحيح؛ بدليل بقية الحديث، فإنَّه قال:(إنه أروى، وأبرأ، وأمرأ، وهذه الثلاثة الأمور إنما تحصل بأن يشرب في ثلاثة أنفاس خارج القدح، فأما إذا تنفس في الماء وهو يشرب: فلا يأمن الشَّرَق، ويحصل تقذير الماء، وقد لا يروى إذا سقط من بزاقه شيء، أو خالطه من رائحة نفسه إن كانت هنالك رائحة كريهة. وعلى هذا المعنى حمل الحديث الجمهور. وهو الصواب إن شاء الله تعالى نظرًا إلى المعنى، ولبقية الحديث، ولقوله للرجل: (أَبِنِ القدح عن فيك). ولا شك: أن هذا من مكارم الأخلاق، ومن باب النظافة، وما كان صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء من مكارم الأخلاق ثم لا يفعله.
و(أروى) من الرِّي؛ أي: أكثر رَيَّا. و (أمرأ) و (أبرأ) قيل: إنهما بمعنى
(1) في (ج 2): الماء.
[1907]
وعَن أَنَس بن مالك قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَأَنَا ابنُ عَشرٍ، وَمَاتَ وَأَنَا ابنُ عِشرِينَ، وَكُنَّ أُمَّهَاتِي يَحثُثنَنِي عَلَى خِدمَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَينَا دَارَنَا، فَحَلَبنَا لَهُ مِن شَاةٍ دَاجِنٍ، وَشِيبَ لَهُ مِن بِئرٍ فِي الدَّارِ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - وَأَبُو بَكرٍ عَن شِمَالِهِ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعطِ أَبَا بَكرٍ، فَأَعطَاهُ أَعرَابِيًّا عَن يَمِينِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الأَيمَنَ فَالأَيمَنَ.
وفي رواية: فَأَعطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَعرَابِيَّ وَتَرَكَ أَبَا بَكرٍ، وَعُمَرَ.
ــ
واحد؛ أي: أحسن شربًا. والباء تبدل من الميم في مواضع. و (أمرأ) من قوله تعالى: {هَنِيئًا مَرِيئًا} يقال: استمرأت الطعام: إذا استحسنته واستطبته. وعلى هذا المعنى الذي صار إليه الجمهور يكون الشراب المذكور بمعنى: الشرب مصدرًا، لا بمعنى الشراب الذي هو المشروب. فتأمله، فإنَّه حسنٌ معنًى، وفصيحٌ لغةً، فإنَّه يقال: شرب شُربًا وشرابًا بمعنى واحد.
و(قول أنس: وكن أُمَّهاتي) هذا على لغة قوله صلى الله عليه وسلم: يتعاقبون فيكم ملائكة (1). و (يَحثُثنَنِي) أي: يَحضُضنَنِي. حثَّ، وحضَّ، ورغَّب بمعنى واحد. و (شِيبَ) أي: خلط بالماء ومزج ليبرد.
وإنما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأعرابي لأنه كان عن يمينه، فبيَّن: أن ذلك سُنَّة، ولذلك قال: الأيمن فالأيمن أي: أعط الأيمن، وابدأ به. وقيل أيضًا: إنه قصد استئلافه، فإنَّه كان من كبراء قومه، فلذلك جلس عن يمينه. والأول أظهر، ولا يبعد قصد المعنى الثاني.
(1) رواه أحمد (2/ 486)، والبخاري (555)، ومسلم (632)، والنسائي (1/ 240).
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ الأَيمَنُونَ الأَيمَنُونَ الأَيمَنُونَ، قَالَ أَنَسٌ: فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ، فَهِيَ سُنَّةٌ.
رواه أحمد (3/ 113)، والبخاريُّ (5619)، ومسلم (2029)(124 - 126)، وأبو داود (3726)، والترمذي (1893)، وابن ماجه (3425).
[1908]
وعَن سَهلِ بنِ سَعدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنهُ، وَعَن يَمِينِهِ غُلَامٌ، وَعَن يَسَارِهِ أَشيَاخٌ، فَقَالَ لِلغُلَامِ: أَتَأذَنُ أَن أُعطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الغُلَامُ: لَا وَاللَّهِ، لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنكَ أَحَدًا ......
ــ
و(قول أنس: فهي سُنَّة، فهي سُنَّة) يعني: مناولة الشراب الأيمن فالأيمن. وهل تجري هذه السُّنَّة في غير الشراب، كالمأكول، والملبوس، وغيرهما من جميع الأشياء؟ قال المهلَّب وغيره: نعم. وقال مالك: إن ذلك في الشراب خاصة. قال أبو عمر: ولا يصحُّ ذلك عن مالك.
قال القاضي عياض: ويشبه أن يكون معنى قول مالك: إن ذلك في الشراب خاصة: أنه فيه جاءت السنة بتقديم الأيمن فالأيمن، وغيره إنما هو من باب الاجتهاد والقياس.
و(قوله صلى الله عليه وسلم: الأيمنون الأيمنون) هذا مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: الأيمنون أولى. والغلام الذي كان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن عباس، وإنما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم الغلام، ولم يستأذن الأعرابي في الحديث الآخر، وبدأ به قبل أبي بكر لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حال الغلام: أن ذلك الاستئذان لا يخجله ولا ينفره لرياضته، وحسن خلقه، ولِينه بخلاف الأعرابي؛ فإنَّ الجفاء والنُّفرة غالبة على الأعراب، فخاف عليه أن يصدر منه سوء أدب. والله تعالى أعلم.
و(قول الغلام: والله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا) قول أبرزه ما كان عنده من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته، واغتنام بركته مع صغر سِنِّه.
قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ.
وفي رواية: فأعطاه إياه (مكان) فتله.
رواه أحمد (5/ 333)، والبخاري (5620)، ومسلم (2030)(127 و 128).
* * *
ــ
و(قوله: فتلَّه في يده) أي: ألقاه فيه. قاله ابن الأنباري. قال: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فَتُلَّت في يدي)(1) أي: ألقيت. وقال ابن الأعرابي: معناه: فَصُبَّت.
و(التل): الصَّبُّ. يقال: تل، يتل - بكسر التاء-: إذا صَبَّ. وقال غيره: التل: الصَّرعُ، والدَّفع. ومنه قوله تعالى:{وَتَلَّهُ لِلجَبِينِ} ؛ أي: صرعه.
(1) رواه أحمد (2/ 396) وفيه: فوضعت، مكان: فَتُلَّت.