الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(12) باب الجبار الذي لا دية فيه ومن ظهرت براءته مما اتهم به لم يحبس ولم يعزر
[1800]
عَن أَنَسٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: اذهَب فَاضرِب عُنُقَهُ. فَأَتَى عَلِيٌّ فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: اخرُج، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، فَأَخرَجَهُ، فَإِذَا هُوَ مَجبُوبٌ لَيسَ لَهُ ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ لَمَجبُوبٌ مَا لَهُ ذَكَرٌ.
رواه أحمد (1/ 83)، و (3/ 281)، ومسلم (2771).
[1801]
وعَن أَبِي هُرَيرَةَ: عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: العَجمَاءُ جَرحُهَا جُبَارٌ، وَالبِئرُ جُبَارٌ، وَالمَعدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الخُمسُ.
ــ
(12)
ومن باب: الجُبَار الذي لا دية فيه
(قوله: العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس) هكذا جاء هذا الحديث بمجموع هذه الأمور. فظاهره: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في وقت واحد متصلة مجموعة، فيكون فيه حجَّة لمالك على أبي حنيفة: في أن الركاز ليس هو المعدن؛ إذ قد عدل عن لفظ المعدن إلى اسم آخر في مساق واحد، وذكره بعده. فلو كان الركاز هو المعدن لقال: والمعدن جُبار وفيه الخمس. وكان يكون أيسر، وأفصح، وأبعد عن الإشكال، بل لو ذكر لفظ المعدن نفسه بدل الرِّكاز فقال: وفي المعدن الخمس؛ لكان مستقبحًا عند الفصحاء، فإنَّه وضع الظاهر موضع المضمر من غير فائدة، ولا تفخيم، بل مع ما يجرُّه من اللَّبس. وهذا النوع من الكلام ركيك، ويُجَلُّ كلام الشارع أن يحمل عليه. ويحتمل
رواه أحمد (2/ 239)، والبخاريُّ (6912)، ومسلم (1710)(45)، وأبو داود (3085)، والترمذيُّ (1377)، والنسائي (5/ 44)، وابن ماجه (2673).
* * *
ــ
أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذه الأمور في أوقات مختلفة، فجمعها الرَّاوي، وساقها سياقة واحدة، وحينئذ لا يكون فيه حجَّة على ما ذكرناه، لكن الظاهر الأول، والله تعالى أعلم.
و(الجُبار): الذي لا قود فيه، ولا دية، ولا شيء. وهو بضم الجيم، على وزن: غُرَاب. و (العجماء) - ممدودة، مهموزة-: اسم جنس لجميع البهائم، سُمِّيت بذلك لأنَّها لا تنطق. فظاهر قوله:(العَجمَاء جرحها جُبار) أن ما انفردت البهيمة بإتلافه لم يكن فيه شيء، وهذا مُجمعٌ عليه. فلو كان معها قائد، أو سائق، أو راكب، فحملها أحدهم على شيء فأتلفته لزمه حكم المُتلَف. فإن كانت جناية مضمونة بالقصاص، وكان الحمل عمدًا؛ كان فيه القصاص. ولا يختلف فيه؛ لأنَّ الدَّابة كالآلة. وإن كان عن غير قصد كانت فيه الدية على العاقلة. وفي الأموال الغرامة في مال الجاني قصدًا كان أو غير قصد. وهذا كلُّه لا يختلف فيه إن شاء الله تعالى.
واختلفوا فيما أصابته برجلها أو ذنبها. فلم يُضمِّن مالك، والليث، والأوزاعي صاحبها، وضَمَّنه الشافعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة. واختلفوا في الضَّارِيَة. فجمهورهم على أنَّها كغيرها. ومالك وبعض أصحابه يُضَمِّنُونَه.
واختلفوا فيما رعت المواشي. فضَمَّن مالك ربَّها ما أفسدته ليلًا دون ما أفسدته نهارًا. وبه قال الشافعي، والجمهور. ومعتمد التفرقة: أن على أرباب الحوائط والمراعي حفظها نهارًا؛ إذ غالب المواشي أنَّها تسرح فيه، ولا تنضبط، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل، فكأن رعي النهار تمكين من أرباب الزروع للماشية من الرَّعي، ورَعي الليل تسليط من أرباب المواشي على الرَّعي. وقال أبو حنيفة:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لا ضمان فيما رعته المواشي ليلًا ولا نهارًا تمسُّكًا منه بالحديث. وهذا إنما يليق بأهل الظاهر لا بأبي حنيفة. وقال الليث، وسحنون: يضمن ما رعت نهارًا.
و(قوله: والبئر جُبار) يعني: إذا حفرها الإنسان في ملكه على الوجه الجائز. فلو حفرها في ملك غيره بغير إذنه، أو في طريق فهلك فيها شيء؛ ضمنه عند مالك، والشافعي. فإن هلك فيها إنسان كانت ديته على الجاني. وكذلك لو حفرها لسارق؛ فهلك فيها. وقال الليث: لا دية فيه ولا ضمان. وكذلك الحكم في المعدن. فلو انهار المعدن على العملة؛ فإن كان ربُّ المعدن قد غرَّهم؛ كانت دياتهم على عاقلته، وإن لم يَغرَّهُم فهلكوا فيه؛ لم يلزمه شيء ولا عاقلته.
والركاز عند مالك هو: ما يوجد (1) من دفين الجاهلية. فخمسه لبيت مال المسلمين، وأربعة أخماسه لواجده. وهل هذا حُكم كل ركاز. أو يختلف ذلك بحسب نوعه وأرضه؟ فيه خلاف بين أصحابنا وغيرهم. وكله مذكور في كتبهم.
و(قوله في حديث أنس: أن رجلًا كان يُتهم بأمِّ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذه مارية أمّ إبراهيم، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها رجل قبطي، فتكلم المنافقون في ذلك وشنَّعوا، فأظهر الله براءتها بما ظهر من حال الرَّجل - وهذا نحو مِمَّا جرى لعائشة رضي الله عنها حتَّى برَّأها الله تعالى، وأظهر من حال المرمي أنَّه حصور. كل ذلك مبالغةٌ في صيانة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهار تكذيب من تَفَوَّهَ بشيء من ذلك.
و(قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: اذهب فاضرب عنقه) في هذا اللفظ إشكال، وهو: أنَّه صلى الله عليه وسلم كيف يأمر بضرب عنق هذا الرجل ولم يكن هناك موجبٌ للقتل، وقد ظهر ذلك حين انكشف حال الرَّجل؟ ويزول هذا الإشكال: بأن هذا الحديث رواه
(1) في (ل 1) و (م 3) و (ج 2): يؤخذ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أبو بكر البزار، فساق فيه أكمل من هذا، وأوضح، فقال فيه: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كثر على مارية في قبطي ابن عم لها كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(خذ هذا السيف فانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله) قال: قلت: يا رسول الله! أكون في أمرك كالسِّكة المحماة، لا يثنيني شيء، حتى أمضي لما أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال:(بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب)(1)، وذكر الحديث بنحو ما تقدم. فهذا يدلّ على أن أمره بقتله إنَّما كان بشرط أن يجده عندها على حالة تقتضي قتله. ولما فَهِمَ عنه علي ذلك سأله، فبيَّن له بيانًا شافيًا، فزال ذلك الإشكال، والحمد لله ذي الجلال. ويحتمل أن يقال: إن ذلك خرج من النبي صلى الله عليه وسلم مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر على موجب الغيرة الجِبِلِّيَّة. والأول أليق وأسلم. والله بحقائق الأمور أعلم.
وفيه من الفقه: إعمال النظر، والاجتهاد، وترك الجمود على الظواهر، وأنَّه يجوز الاطلاع على العورة عند الضرورة، كتحمُّل شهادة الزنى، كما صار إليه مالك.
* * *
(1) رواه البزار كما في كشف الأستار (1491)، وانظر: مجمع الزوائد (4/ 329).