المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(7) باب تحريم الدماء والأموال والأعراض - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - جـ ٥

[أبو العباس القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌(22) كتاب القسامة والقصاص والديات

- ‌(1) باب في كيفية القسامة وأحكامها

- ‌(2) باب القصاص في العين وحكم المرتد

- ‌(3) باب القصاص في النفس بالحجر

- ‌(4) باب من عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنية العاض

- ‌(5) باب القصاص في الجراح

- ‌(6) باب لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وتكرار إثم من سن القتل، وأنه أول ما يقضى فيه

- ‌(7) باب تحريم الدماء والأموال والأعراض

- ‌(8) باب الحث على العفو عن القصاص بعد وجوبه

- ‌(9) باب دية الخطأ على عاقلة القاتل، وما جاء في دية الجنين

- ‌(23) كتاب الحدود

- ‌(1) باب حد السرقة وما يقطع فيه

- ‌(2) باب النهي عن الشفاعة في الحدود إذا بلغت الإمام

- ‌(3) باب حد البكر والثيب إذا زنيا

- ‌(4) باب إقامة الحد على من اعترف على نفسه بالزنا

- ‌(5) باب يحفر للمرجوم حفرة إلى صدره وتشد عليه ثيابه

- ‌(6) باب من روى أن ماعزا لم يحفر له ولا شد ولا استغفر له

- ‌(7) باب لا تغريب على امرأة ويقتصر على رجم الزاني الثيب ولا يجلد قبل الرجم

- ‌(8) باب إقامة حكم الرجم على من ترافع إلينا من زناة أهل الذمة

- ‌(9) باب إقامة السادة الحد على الأرقاء

- ‌(10) باب الحد في الخمر وما جاء في جلد التعزير

- ‌(11) باب من أقيم عليه الحد فهو كفارة له

- ‌(12) باب الجبار الذي لا دية فيه ومن ظهرت براءته مما اتهم به لم يحبس ولم يعزر

- ‌(24) كتاب الأقضية

- ‌(1) باب اليمين على المدعى عليه والقضاء باليمين والشاهد

- ‌(2) باب حكم الحاكم في الظاهر لا يغير حكم الباطن والحكم على الغائب

- ‌(3) باب الاعتصام بحبل الله وأن الحاكم المجتهد له أجران في الإصابة وأجر في الخطأ

- ‌(4) باب لا يقضي القاضي وهو على حال تشوش عليه فكره، ورد المحدثات، ومن خير الشهداء

- ‌(5) باب تسويغ الاجتهاد

- ‌(6) باب اختلاف المجتهدين في الحكم لا ينكر

- ‌(7) باب للحاكم أن يصلح بين الخصوم، وإثم الخصم الألد

- ‌(8) باب الحكم في اللقطة والضوال

- ‌(9) باب الاستظهار في التعريف بزيادة على السنة إذا ارتجى ربَّها

- ‌(10) باب النهي عن لقطة الحاج وعن أن يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه

- ‌(11) باب الأمر بالضيافة والحكم فيمن منعها

- ‌(12) باب الأمر بالمواساة بالفضل وجمع الأزواد إذا قلت

- ‌(25) كتاب الصيد والذبائح وما يحل أكله من الحيوان وما لا يحل

- ‌(1) باب الصيد بالجوارح وشروطها

- ‌(2) باب الصيد بالسهم ومحدد السلاح وإذا غاب الصيد

- ‌(3) باب النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير

- ‌(4) باب إباحة أكل ميتة البحر وإن طفت

- ‌(5) باب النهي عن لحوم الحمر الأهلية، والأمر بإكفاء القدور منها

- ‌(6) باب في إباحة لحوم الخيل وحمر الوحش

- ‌(7) باب ما جاء في أكل الضب

- ‌(8) باب ما جاء في أن الضب والفأر يتوقع أن يكونا مما مسخ

- ‌(9) باب أكل الجراد والأرانب

- ‌(10) باب الأمر بإحسان الذبح وحد الشفرة

- ‌(11) باب النهي عن صبر البهائم وعن اتخاذها غرضا وعن الخذف

- ‌(12) باب من ذبح لغير الله ولعنه

- ‌(26) كتاب الأشربة

- ‌(1) باب تحريم الخمر

- ‌(2) باب الخمر من النخيل والعنب

- ‌(3) باب النهي عن اتخاذ الخمر خلا، وعن التداوي بها، وعن خلط شيئين مما يبغي أحدهما على الآخر

- ‌(4) باب النهي عما ينتبذ فيه

- ‌(5) باب نسخ ذلك والنهي عن كل مسكر

- ‌(6) باب كل شراب مسكر خمر وحرام وما جاء في إثم من شربه

- ‌(7) باب كم المدة التي يشرب إليها النبيذ

- ‌(8) باب كيفية النبيذ الذي يجوز شربه

- ‌(9) باب استدعاء الشراب من الخادم والشرب في القدح

- ‌(10) باب شرب اللبن، وتناوله من أيدي الرعاء من غير بحث عن كونهم مالكين

- ‌(11) باب الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وذكر الله تعالى عليهما

- ‌(12) باب بيان أن الأمر بذلك من باب الإرشاد إلى المصلحة وأن ترك ذلك لا يمنع الشرب من ذلك الإناء

- ‌(13) باب النهي عن الشرب قائما، وعن اختناث الأسقية، والشرب من أفواهها

- ‌(14) باب النهي عن التنفس في الإناء وفي مناولة الشراب الأيمن فالأيمن

- ‌(27) كتاب آداب الأطعمة

- ‌(1) باب التسمية على الطعام

- ‌(2) باب الأمر بالأكل باليمين والنهي عن الأكل بالشمال

- ‌(3) باب الأكل مما يليه والأكل بثلاث أصابع

- ‌(4) باب لعق الأصابع والصحفة وأكل اللقمة إذا سقطت

- ‌(5) باب من دعي إلى الطعام فتبعه غيره

- ‌(6) باب إباحة تطييب الطعام وعرض من لم يدع

- ‌(7) باب من اشتد جوعه تعين عليه أن يرتاد ما يرد به جوعه

- ‌(8) باب جعل الله تعالى قليل الطعام كثيرا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر كثير من آداب الأكل

- ‌(9) باب في أكل الدباء والقديد

- ‌(10) باب في أكل التمر مقعيا، وإلقاء النوى بين إصبعين، وأكل القثاء بالرطب

- ‌(11) باب النهي عن القران في التمر عند الجهد

- ‌(12) باب بركة عجوة المدينة وأنها دواء

- ‌(13) باب الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، واجتناء الكباث الأسود

- ‌(14) باب نعم الإدام الخل

- ‌(15) باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم الثوم

- ‌(16) باب الأكل مع المحتاج بالإيثار

- ‌(17) باب إطعام الجائع وقسمة الطعام على الأضياف عند قلته، وبركة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(18) باب يخبأ لمن غاب من الجماعة نصيبه

- ‌(19) باب الحض على تشريك الفقير الجائع في طعام الواحد وإن كان دون الكفاي

- ‌(20) باب المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء

- ‌(21) باب النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة

- ‌(28) كتاب الأضاحي

- ‌(1) باب في التسمية على الأضحية وفي وقتها وأن من ذبح قبله أعاد

- ‌(2) باب إعادة ما ذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام

- ‌(3) باب ما يجوز في الأضاحي من السن

- ‌(4) باب ما يختار في الأضحية

- ‌(5) باب الذبح بما أنهر الدم والنهي عن السن والظفر

- ‌(6) باب النهي عن أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث

- ‌(7) باب الرخصة في ذلك

- ‌(8) باب إذا دخل العشر وأراد أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره

- ‌(29) كتاب اللباس

- ‌(1) باب تحريم لباس الحرير والتغليظ فيه على الرجال وإباحته للنساء

- ‌(2) باب ما يرخص فيه من الحرير

- ‌(3) باب من لبس ثوب حرير غلطا أو سهوا نزعه أول أوقات إمكانه

- ‌(4) باب الرخصة في لبس الحرير للعلة

- ‌(5) باب النهي عن لبس القسي والمعصفر

- ‌(6) باب لباس الحبرة والإزار الغليظ والمرط المرحل

- ‌(7) باب اتخاذ الوساد والفراش من أدم والأنماط ولم يجوز أن يتخذ من الفرش

- ‌(8) باب إثم من جر ثوبه خيلاء ومن تبختر وإلى أين يرفع الإزار

- ‌(9) باب إرخاء طرفي العمامة بين الكتفين

- ‌(10) باب النهي عن تختم الرجال بالذهب وطرحه إن لبس

- ‌(11) باب لبس الخاتم الورق وأين يجعل

- ‌(12) باب في الانتعال وآدابه

- ‌(13) باب النهي عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد وفي وضع إحدى الرجلين على الأخرى مستلقيا

- ‌(14) باب ما جاء في صبغ الشعر والنهي عن تسويده والتزعفر

- ‌(15) باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إلا أن تكون الصورة رقما

- ‌(16) باب كراهية الستر فيه تماثيل وهتكه وجعله وسائد وكراهية كسوة الجدر

- ‌(17) باب أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون

- ‌(18) باب في الأجراس والقلائد في أعناق الدواب

- ‌(19) باب النهي عن وسم الوجوه وأين يجوز الوسم

- ‌(20) باب النهي عن القزع وعن وصل شعر المرأة

- ‌(21) باب في لعن المتنمصات والمتفلجات للحسن

- ‌(22) باب النهي عن الزور وهو ما يكثرن به الشعور وذم الكاسيات العاريات والمتشبع بما لم يعط

- ‌(30) كتاب الأدب

- ‌(1) باب في أحب الأسماء إلى الله وأبغضها إليه

- ‌(2) باب قوله عليه الصلاة والسلام: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، وفي التسمية بأسماء الأنبياء والصالحين

- ‌(3) باب ما يكره أن يسمى به الرقيق

- ‌(4) باب في تغيير الاسم بما هو أولى والنهي عن الاسم المقتضي للتزكية

- ‌(5) باب تسمية الصغير وتحنيكه والدعاء له

- ‌(6) باب تكنية الصغير وندائه بيا بني

- ‌(7) باب الاستئذان وكيفيته وعدده

- ‌(8) باب كراهية أن يقول: أنا، عند الاستئذان، والنهي عن الاطلاع في البيت وحكم المطلع إن فقئت عينه

- ‌(9) باب نظرة الفجأة، وتسليم الراكب على الماشي، وحق الطريق

- ‌(10) باب حق المسلم على المسلم، والسلام على الغلمان

- ‌(11) باب لا يبدأ أهل الذمة بالسلام وكيفية الرد عليهم إذا سلموا

- ‌(12) باب في احتجاب النساء وما يخفف عنهن من ذلك

- ‌(13) باب النهي عن المبيت عند غير ذات محرم وعن الدخول على المغيبات

- ‌(14) باب اجتناب ما يوقع في التهم ويجر إليه

- ‌(15) باب من رأى فرجة في الحلقة جلس فيها وإلا جلس خلفهم

- ‌(16) باب النهي عن أن يقام الرجل من مجلسه، ومن قام من مجلسه ثم رجع إليه عن قرب فهو أحق به

- ‌(17) باب الزجر عن دخول المخنثين على النساء

- ‌(18) باب امتهان ذات القدر نفسها في خدمة زوجها وفرسه؛ لا يغض من قدرها

- ‌(19) باب النهي عن مناجاة الاثنين دون الثالث

- ‌(20) باب جواز إنشاد الشعر وكراهية الإكثار منه

- ‌(21) باب في قتل الحيات وذي الطفيتين والأبتر

- ‌(22) باب المبادرة بقتل الحيات إلا أن تكون من ذوات البيوت؛ فلا تقتل حتى تستأذن ثلاثا

- ‌(23) باب قتل الأوزاغ وكثرة ثوابه في أول ضربة

- ‌(24) باب كراهية قتل النمل إلا أن يكثر ضررها

- ‌(25) باب فيمن حبس الهر

- ‌(26) باب في كل ذي كبد أجر

- ‌(27) باب النهي عن سب الدهر

- ‌(28) باب النهي عن تسمية العنب كرما

- ‌(29) باب النهي عن أن يقول سيد: عبدي وأمتي، أو غلام: ربي أو ربك

- ‌(30) باب لا يقل أحد: خبثت نفسي وما جاء أن المسك أطيب الطيب

- ‌(31) باب من عرض عليه طيب أو ريحان فلا يرده، وبماذا يستجمر

- ‌(32) باب تحريم اللعب بالنرد

- ‌(33) باب مناولة السواك الأكبر

- ‌(31) كتاب: الرقى والطب

- ‌(1) باب في رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(2) باب العين حق، والسحر حق، واغتسال العائن

- ‌(3) باب ما جاء أن السموم وغيرها لا تؤثر بذاتها

- ‌(4) باب ما كان يرقي به رسول الله صلى الله عليه وسلم المرضى، وكيفية ذلك

- ‌(5) باب مماذا يرقى

- ‌(6) باب لا يرقى برقى الجاهلية ولا بما لا يفهم

- ‌(7) باب أم القرآن رقية من كل شيء

- ‌(8) باب الرقية بأسماء الله والتعويذ

- ‌(9) باب لكل داء دواء، والتداوي بالحجامة

- ‌(10) باب التداوي بقطع العرق والكي والسعوط

- ‌(11) باب الحمى من فيح جهنم، فابردوها بالماء

- ‌(12) باب التداوي باللدود والعود الهندي

- ‌(13) باب التداوي بالشونيز والتلبينة

- ‌(14) باب التداوي بالعسل

- ‌(15) باب ما جاء أن الطاعون إذا وقع بأرض فلا يخرج منها فرارا، ولا يقدم عليها

- ‌(16) باب لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة ولا نوء ولا غول

- ‌(17) باب لا يورد ممرض على مصح

- ‌(18) باب في الفأل الصالح وفي الشؤم

- ‌(19) باب النهي عن الكهانة، وعن إتيان الكهان، وما جاء في الخط

- ‌(20) باب في رمي النجوم للشياطين عند استراق السمع

الفصل: ‌(7) باب تحريم الدماء والأموال والأعراض

[1769]

وعنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَوَّلُ مَا يُقضَى بَينَ النَّاسِ يَومَ القِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ.

رواه أحمد (1/ 440)، والبخاري (6864)، ومسلم (1678)، والترمذي (1397)، والنسائي (7/ 83)، وابن ماجه (2617).

* * *

(7) باب تحريم الدماء والأموال والأعراض

[1770]

عَن أَبِي بَكرَةَ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَد استَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ،

ــ

و(قوله: إن أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدِّماء) هذا يدل: على أنه ليس في حقوق الآدميين أعظم من الدماء. ولا تعارض بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب به العبد من عمله الصلاة)(1) لأنَّ كل واحد منهما أول في بابه. فأول ما ينظر فيه من حقوق الله الصلاة. فإنَّها أعظم قواعد الإسلام العملية. وأول ما ينظر فيه من حقوق الآدميين الدِّماء؛ لأنَّها أعظم الجرائم. وقد تقدم هذا في كتاب الصلاة.

(7)

ومن باب: تحريم الدماء والأموال والأعراض

قوله: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) اختلف في (معنى هذا اللفظ)(2) على أقوال كثيرة. وأشبه ما فيها ثلاثة أقوال:

(1) رواه النسائي (7/ 83).

(2)

في (ع): هذا المعنى.

ص: 42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أحدها: قاله إياس بن معاوية، وذلك: أن المشركين كانوا يحسبون السنة اثني عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا، فكان الحجُّ يكون في رمضان، وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السَّنة [بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يومًا، فحجَّ أبو بكر رضي الله عنه سنة تسع في ذي القعدة](1)، بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم. فلما كان في العام المقبل وافق الحجّ ذا الحجَّة في العشر، ووافق ذلك الأهلة. وقد روي أن أبا بكر إنما حجَّ في ذي الحجة.

الثاني: روي عن ابن عباس أنَّه قال: كانوا إذا كانت السنة التي ينسأ فيها، قام خطيبهم وقد اجتمع إليه الناس يوم الصَّدر فقال: أيها الناس! إني قد نسأت العام صفرًا الأول. يعني: المُحَرَّم. فيطرحونه من الشهور، ولا يعتدُّون به. ويبدؤون العدَّة، فيقولون لصفر وشهر ربيع الأول: صفران، ولربيع الآخر وجمادى الأولى: شهرا ربيع، ولجمادى الآخرة ورجب: جماديان، ولشعبان: رجب، ولرمضان: شعبان، وهكذا إلى محرَّم. ويبطلون من هذه السَّنة شهرًا، فيحجون في كل شهر حجتين. ثم ينسأ في السَّنة الثالثة صفرًا الأوّل في عدَّتهم، وهو الآخر في العدَّة المستقيمة، حتى تكون حجتهم في صفر حجتين. وكذلك الشهور كلها حتى يستدير الحجَّ في كل أربع وعشرين سنة إلى المحرم الشهر الذي ابتدؤوا فيه النَّساء. ونحوه قال ابن الزبير، إلا أنه قال: يفعلون ذلك في كل ثلاث سنين، يزيدون شهرًا. قيل: وكانوا يقصدون بذلك موافقة شهور العجم لشهور الأهلة حتى تأتي الأزمان واحدة.

الثالث: قيل: كانت العرب تحجُّ عامين في ذي القعدة، وعامين في ذي الحجة، فصادفت حجَّة أبي بكر رضي الله عنه ذا القعدة من السَّنة الثانية. وصادفت حجَّة النبي صلى الله عليه وسلم ذا الحجة بالاستدارة.

(1) ما بين حاصرتين سقط من (ع).

ص: 43

السَّنَةُ اثنَا عَشَرَ شَهرًا، مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ،

ــ

والأشبه القول الأول؛ لأنَّه هو الذي استفيد نفيه من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار) أي: زمان الحجِّ عاد إلى وقته الأصلي؛ الذي عينه الله تعالى له يوم خلق السماوات والأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه، ونفذ بها حكمه. ثم قال:(السَّنة اثنا عشر شهرًا) ينفي بذلك الزيادة التي زادوها في السنَّة؛ وهي الخمسة عشر يومًا بتحكمهم. ثمَّ هذا موافق لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ} فتعيَّن الوقت الأصلي، وبطل التحكُّم الجهلي. والحمد لله الولي.

قلت: وهذه أقوال سلف هذه الأمَّة، وعلماء أهل السُّنة، وقد تكلَّم على هذا الحديث بعض من يدَّعي علم التعديل بقولٍ صدر عنه من غير تحقيق ولا تحصيل، فقال: إن الله سبحانه أول ما خلق الشمس أجراها في برج الحمل، وكأن الزمان الذي أشار إليه (1) النبي صلى الله عليه وسلم صادف حلول الشمس في برج الحمل.

قلت: وهذا تقوُّل بما لم يصحّ نقله؛ إذ مقتضى قوله: إن الله تعالى خلق البروج قبل الشمس، وأنه أجراها في أول برج الحمل. وهذا لا يتوصل إليه إلا بالنقل عن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ولا نقلا صحيحا عنهم بشيء من ذلك. ومن ادَّعاه فليُسنده. ثمَّ: إن العقل يجوز خلاف ما قال. وهو: أن يخلق الله تعالى الشمس قبل البروج. ويجوز أن يخلق ذلك دفعة واحدة. ثم إن علماء التعديل قد اختبروا كلام ذلك الرجل فوجدوه خطأ صراحًا؛ لأنَّهم اعتبروا بحساب التعديل اليوم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك القول، فوجدوا الشمس فيه في برج الحوت، بينها وبين الحمل عشرون درجة. ومنهم من قال: عشر درجات، والله تعالى أعلم.

و(قوله: منها أربعة حرم) أي: من الاثني عشر شهرًا، وأولها المحرم.

(1) في (ج 2): به.

ص: 44

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

سُمي بذلك: لتحريم القتال فيه. ثمَّ صفر. سُمي بذلك: لخلوِّ مكة من أهلها فيه. وقيل: وقع فيه وباءٌ فاصفرَّت وجوههم. أبو عبيد: لصفر الأواني من اللَّبن. ثم الربيعان: لارتباع الناس فيهما؛ أي: لإقامتهم في الربيع. ثم جماديان، وسُميا بذلك: لأن الماء جمد فيهما. ثم رجب، سُمي بذلك: لترجيب العرب إياه؛ أي: لتعظيمهم له، أو لأنَّه لا قتال فيه. والأرجب: الأقطع. ثم شعبان. وسُمي بذلك: لتشعب القبائل فيه. ثم رمضان. وسمي بذلك: لشدَّة الرمضاء فيه. ثم شوَّال. وسُمي بذلك: لأن اللقاح تشول فيه أذنابها. ثم ذو القعدة، سُمي بذلك لقعودهم فيه عن الحرب. ثم ذو الحجَّة، وسمي بذلك: لأن الحجَّ فيه. ويجوز في (فاء): ذي القعدة وذي الحجَّة الفتح والكسر، غير أن الفتح في (ذي القعدة) أفصح.

وسميت الحُرُم حرمًا: لاحترامها وتعظيمها بما خصَّت به من أفعال البر، وتحريم القتال، وتشديد أمر البغي والظلم فيها.

وذلك: أن العرب كانت في غالب أحوالها، ومعظم أوقاتها قبل مجيء الإسلام أهل غارة، ونهب، وقتال، وحرب، يأكل القوي الضعيف، ويصول على المشروف الشريف، لا يرجعون لسلطان قاهر، ولا لأمر جامع، وكانوا فوضى فضا (1)، من غلب سلب، ومن عز بزَّ (2)، لا يأمن لهم سِرب، ولا يستقر بهم حال. فلطف الله بهم بأن جعل في نفوسهم احترام أمور يمتنعون فيها من الغارة، والقتال، والبغي، والظلم، فيأمن بعضهم من بعض، ويتصرَّفون فيها في حوائجهم، ومصالحهم، فلا يهيج فيها أحدٌ أحدًا، ولا يتعرَّض له، حتى إن الرَّجل يلتقي فيها بقاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له بشيء، ولا بغدر؛ بما جعل الله في قلوبهم من تعظيم تلك الأمور. ولا يبعد أن يكون أصل ذلك مشروعًا لهم من دين إبراهيم وإسماعيل؛ كالحجِّ، والعمرة، وغيرهما مما كان عندهم من شرائعهما.

(1) يقال: أمرهم فوضى فضًا، أي: سواءٌ بينهم. وأمرهم فضًا بينهم، أي: لا أمير عليهم.

(2)

أي: مَن غلب أخذ السَّلَب.

ص: 45

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وهذه الأمور من الزمان: الأشهر الحرم. ومن المكان: حرم مكة. ومن الأموال: الهدي والقلائد. ويشهد لما ذكرناه قوله تعالى: {يَسأَلُونَكَ عَنِ الشَّهرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وقوله تعالى: {مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُمٌ} ثم قال: {ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} وقوله تعالى في الحرم: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وقوله: {أَوَلَم يَرَوا أَنَّا جَعَلنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِن حَولِهِم} وقوله: {وَإِذ جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمنًا} وقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الكَعبَةَ البَيتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} ومعنى كون هذه الأمور قيامًا للناس؛ أي: تقوم بها أحوالهم، وتنتظم بها مصالحهم من أمر أديانهم ومعايشهم. هذا معنى ما قاله المفسرون. فلما جاء الإسلام لم يزد تلك الأمور إلا تعظيمًا وتشريفًا، غير أنه لما حدَّ الحدود، وشرع الشرائع، ونصب العقوبات والزواجر؛ اتفقت كلمة المسلمين، والتزمت شرائع الدين، فأمن الناس على دمائهم ونفوسهم، وأموالهم، فامتنع أهل الظلم من ظلمهم، وكف أهل البغي عن بغيهم، واستوى في الحق القوي والضعيف، والمشروف والشريف. فمن صدر عنه بغي، أو عدوان، قمعته كلمة الإسلام، وأقيمت عليه الأحكام، فحينئذ لا يعيده شيء من تلك المحرَّمات، ولا يحول بينه وبين حكم الله تعالى أحدٌ من المخلوقات. فالحمد لله الذي هدانا لهذا الدِّين القويم، والمنهج المستقيم. وهو المسؤول بأن ينعم علينا بالدَّوام، والتَّمام، ويحشرنا في زمرة واسطة النظام محمد عليه الصلاة والسلام.

والهَدي: ما يُهدى من الأنعام إلى البيت الحرام، والقلائد يعني به: ما تُقلَّدُ به الهدايا؛ وذلك بأن يجعل في عنق البعير حبل يُعلَّق به نعل، كما تقدَّم في كتاب الحج. ويعني بذلك: أن الهدي مهما أُشعر وقُلِّد لم يجز لأحد أن يتملَّكه، ولا أن يأخذه إن وجده. بل يجب عليه أن يحمله إلى مكة إن أمكنه ذلك حتى يُنحَر هناك على ما تقدَّم.

ص: 46

ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهرُ مُضَرَ، الَّذِي بَينَ جُمَادَى وَشَعبَانَ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّ شَهرٍ هَذَا؟ . قُلنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيرِ اسمِهِ، قَالَ: أَلَيسَ ذَا الحِجَّةِ؟ . قُلنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ . قُلنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيرِ اسمِهِ، قَالَ: أَلَيسَ البَلدَةَ؟ . قُلنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ يَومٍ هَذَا؟ . قُلنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيرِ اسمِهِ، قَالَ: أَلَيسَ يَومَ النَّحرِ؟ . قُلنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُم، وَأَموَالَكُم - قَالَ: وَأَحسِبُهُ قَالَ -

ــ

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة متواليات) أي: يتلو بعضها بعضًا، كما قد قال في الرواية الأخرى:(ثلاثة سردٌ، وواحدٌ فرد).

و(قوله: رجب شهر مُضَر الذي بين جمادى وشعبان) هذه مبالغةٌ في تعيين هذا الشهر ليتميَّز عمَّا كانوا يتحكَّمون به من النَّساء، ومن تغيير أسماء الشهور. وقد تقدَّم: أنهم كانوا يسقطون من السَّنة شهرًا وينقلون اسم الشهر للَّذي بعده، حتى سَمُّوا شعبان رجبًا. ونسبة هذا الشهر لِمُضَر: إما لأنهم أول من عظمه، أو: لأنهم ك نوا أكثر العرب له تعظيمًا، واشتهر ذلك حتى عرف بهم.

و(قوله: أي شهر هذا؟ ) و: (أي بلد هذا؟ ) و: (أي يوم هذا؟ ) وسكوته بعد كل واحد منها؛ كان ذلك منه استحضارًا لفهومهم، وتنبيهًا لغفلتهم، وتنويهًا بما يذكره لهم؛ حتى يُقبلوا عليه بكليتهم، ويستشعروا عظمة حرمة ما عنه يخبرهم. ولذلك قال بعد هذا:(فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا). وهذا منه صلى الله عليه وسلم مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء، وإغياءٌ في التنفير عن الوقوع فيها؛ لأنَّهم كانوا قد اعتادوا فعلها، واعتقدوا حليتها، كما تقدَّم في بيان أحوالهم، وقبح أفعالهم.

ص: 47

وَأَعرَاضَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم، كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا، فِي بَلَدِكُم هَذَا، فِي شَهرِكُم هَذَا، وَسَتَلقَونَ رَبَّكُم فَيَسأَلُكُم عَن أَعمَالِكُم، فَلَا تَرجِعُوا بَعدِي كُفَّارًا يَضرِبُ بَعضُكُم رِقَابَ بَعضٍ،

ــ

و(قوله: وسَتَلقُون ربكم فيسألكم عن أعمالكم) أي: ستقفون في العرض موقف من لقي فحبس حتَّى تعرض عليه أعماله، فيسأل عنها، وهذا إخبارٌ بمقام عظيم، وأمر هائل، لا يُقدَرُ قدرُه، ولا يتصور هوله، أصبح الناس عن التذكر فيه معرضين، وعن الاستعداد له متشاغلين. فالأمر كما قال في كتابه المكنون:{قُل هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُم عَنهُ مُعرِضُونَ} فنسأل الله تعالى من فضله أن يوقظنا من رقدتنا، وينبهنا من غفلتنا، ويجعلنا ممن استعدَّ للقائه، وكُفِي فواجِئ نِقمَه وبلائه.

و(قوله: فلا ترجعوا بعدي كفارًا (1) يضرب بعضكم رقاب بعض) بهذا وأشباهه كفر الخوارج عليًّا، ومعاوية، وأصحابهما. وهذا إنما صدر عنهم؛ لأنَّهم سمعوا الأحاديث ولم تحط بها فهومهم، كما قرؤوا القرآن ولم يجاوز تراقيهم، فكأنهم ما قرؤوا قول الله عز وجل:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ فَأَصلِحُوا بَينَ أَخَوَيكُم} فأبقى عليهم اسم الإيمان وأخوّته، مع أنهم قد تقاتلوا، وبغت إحداهما على الأخرى، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} والقتل ليس بشرك بالاتفاق والضرورة. وكأنهم لم يسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارةٌ له)(2)، وقد تقدم هذا المعنى في كتاب: الإيمان.

(1) في (ج 2): ضلالًا.

(2)

رواه البخاري (7213)، ومسلم (1709)، والترمذي (1439)، والنسائي (7/ 142).

ص: 48

أَلَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعضَ مَن يُبَلِّغُهُ يَكُونُ أَوعَى لَهُ مِن بَعضِ مَن سَمِعَهُ. قَالَ: أَلَا هَل بَلَّغتُ؟ .

ــ

وإنَّما يُحمل الحديث على التشبيه تغليظًا؛ وذلك: أن المسلمين إذا تحاجزوا، وتقاتلوا؛ فقد ضلَّت الطائفة الباغية منهما، أو كلاهما إن كانتا باغيتين عن الحق، وكفرت حق الأخرى وحرَّمتها. وقد تشبَّهوا بالكفار. وكأنه صلى الله عليه وسلم اطَّلع على ما يكون في أمَّته من المِحَن والفتن، فحذَّر من ذلك، وغلَّظه بذلًا للنصيحة، ومبالغة في الشفقة صلى الله عليه وسلم.

و(قوله: ألا ليبلِّغ الشاهد الغائب) أمرٌ بتبليغ العلم، ونشره. وهو فرض من فروض الكفايات.

و(قوله: فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له ممن سمعه) حجة على جواز أخذ العلم والحديث عمَّن لا يفقه ما ينقل؛ إذا أدَّاه كما سمعه. وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم فيما خرَّجه الترمذي: (نضَّر الله امرأً سمع منَّا حديثًا فبلَّغه غيره كما سمعه، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه)(1).

فأمَّا نقل الحديث بالمعنى: فمن جوَّزه إنَّما جوَّزه من الفقيه العالم بمواقع الألفاظ. ومن أهل العلم من منع ذلك مطلقًا. وقد تقدَّم ذلك.

وفيه حجَّة: على أن المتأخر قد يفهم من الكتاب والسُّنة ما لم يخطر للمتقدم؛ فإن الفهم فضل الله يؤتيه من يشاء. لكن هذا يندر ويقل، فأين البحر من الوَشَل (2). والعَلُّ من العَلَلِ. ليس التكحُّل في العينين كالكَحَل.

و(قوله: ألا هل بلَّغت) استفهام على جهة التقرير؛ أي: قد بلغتكم ما

(1) رواه أحمد (1/ 437)، والترمذي (2657)، وابن ماجه (232).

(2)

"الوشل": الماء القليل يتحلب من جبلٍ أو صخرةٍ يقطر منه قليلًا، لا يتصل قطره.

ص: 49

وفي رواية: وأعراضكم - من غير شك - وفيها زيادة: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما، وإلى جزيعة من الغنم فقسمها بيننا.

ــ

أمرت بتبليغه لكم، فلا عُذر لكم؛ إذ لم يقع مني تقصير في التبليغ. ويحتمل: أن يكون على جهة استعلام ما عندهم، واستنطاقهم بذلك، كما تقدَّم في حديث جابر، حيث ذكر خطبته صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال:(وأنتم تسألون عنِّي، فما أنتم قائلون؟ ) قالوا: نشهد: أنك قد بلَّغت، وأدَّيت، ونصحت. فقال بإصبعه - السبابة - يرفعها إلى السماء، ويَنكُتها إلى الأرض (1):(اللهم اشهد - ثلاث مرات -)(2).

و(قوله: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما) وإلى جُزَيعَةٍ من الغنم فقسمها بيننا. (انكفأ): انقلب ومال. و (الملحة): أن يكون في الشاة لمعٌ سودٌ، ويكون الغالب البياض. و (الجزيعة): القطيعة. والجزع: منقطع الوادي. ورواية الكافة: (جزيعة) بالزاي. وقد قيَّدها بعضهم: (جذيعة) بالذَّال، وهو وَهمٌ.

قال الدارقطني: قوله: (ثم انكفأ إلى كبشين .. .) الخ، وهم من ابن عون فيما قيل؛ وإنما رواه ابن سيرين عن أنس.

قلت: إنما نسب هذا الوهم لابن عون؛ لأنَّ هذا الحديث قد رواه عن ابن سيرين أيوب السّختياني، وقرَّة بن خالد، وانتهى حديثهما في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجّه يوم النَّحر عند قوله:(ألا هل بلغت) في رواية أيوب. وزاد قرَّة إلى هذا: قالوا: نعم. قال: (اللهم اشهد). وبعد قوله: (ألا هل بلغت) زاد ابن عون عن ابن سيرين، عن أبي بكرة: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما .. . الخ. وهذا الكلام إنما كان من النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة عيد الأضحى؛ على ما رواه أيوب وهشام،

(1) في (م)، وصحيح مسلم: الناس.

(2)

رواه مسلم (1218).

ص: 50

وفي أخرى: قال أبو بكرة: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أي يوم هذا؟ .

رواه أحمد (5/ 37)، والبخاري (105)، ومسلم (1679)(29 و 30 و 31)، وأبو داود (1948)، وابن ماجه (233).

* * *

ــ

عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك؛ على ما ذكره مسلم في الضحايا، عنه، قال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى ثمَّ خطب، فأمر مَن كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحا. قال: وانكفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبشين أملحين، فذبحهما، فقام الناس إلى غنيمة، فتوزعوها. أو قال: فتجزعوها (1). فكأن ابن عون اختلط عليه الحديثان فساقهما مساقًا واحدًا. وأن ذلك كان في خطبة عرفة. وهو وَهمٌ لا شكَّ فيه.

وقد فهم بعض علمائنا: أن يوم الحج الأكبر يوم النحر من تعظيمه صلى الله عليه وسلم ليوم النَّحر بما ذكره في هذا الحديث. وفيه نظر، غير أنَّه قد ورد في بعض روايات البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أي يوم تعلمونه أعظم؟ )(2)، قالوا: يومنا هذا. وهذا حجَّة واضحة على ذلك. وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في كتاب الحج.

* * *

(1) رواه مسلم (1962).

(2)

رواه البخاري (6785).

ص: 51