الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) باب القصاص في الجراح
[1766]
عَن أَنَسٍ: أَنَّ أُختَ الرُّبَيِّعِ أُمَّ حَارِثَةَ جَرَحَت إِنسَانًا،
ــ
قلت: وهو الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأً اطَّلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاةٍ، ففقأت عينه لم يكن عليك جناح)(1)، وأيضًا: فقد رام النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعن بالمدراة في عين من أراد أن يطَّلع من حُجرٍ في باب بيته. وقال: (لو أعلم أنك تطَّلع لطعنت به في عينك)(2)، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يريد أن يفعل ما لا يجوز، أو ما يؤدي إلى ديةٍ. وأيضًا: فقد جاء عنه أنه قال: (من اطَّلع في بيت قومٍ بغير إذنهم فقد حلَّ لهم أن يفقؤوا عينه)(3). وأمَّا من زعم: أنه يضمن، فمن حُجَّته: أنَّه لو نظر إنسان إلى عورة آخر لما أباح ذلك منه فقء عينه، ولما سقط عنه الضمان بالاتفاق. [فهذا أول بنفي الضمان] (4). وحملوا قوله:(لا جناح عليك) أي: لا إثم. ومنهم من قال: يحمل الحديث على أنَّه رماه بحصاةٍ. ولم يرد فقء عينه، فانتفى عنه الإثم لذلك.
قلت: وهذا تحريف وتبديل، لا تأويل، ولا قياس مع النصوص.
(5)
ومن باب: القصاص في الجراح
(قوله: إن أخت الرُّبيِّع أم حارثة جرحت إنسانًا) كذا وقع هذا اللفظ في كتاب
(1) رواه أحمد (2/ 243)، والبخاري (6902)، ومسلم (2158)، والنسائي (8/ 61).
(2)
رواه أحمد (5/ 330)، والبخاري (6241)، ومسلم (2156)(40)، والترمذي (2709)، والنسائي (8/ 60 - 61).
(3)
البخاري (6888)، ومسلم (2158).
(4)
في (ج 2): وكذلك هذا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مسلم. قال القاضي عياض: المعروف: أن الرَّبيع هي صاحبة القصة. وكذا جاء الحديث في البخاري في الروايات الصحيحة: أنها الرَّبيع بنت النضر، وأخت أنس بن النَّضر، وعمَّة أنس بن مالك. وأن الذي أقسم هو أخوها أنس بن النَّضر، وكذا في المصنفات، وجاء مفسَّرًا عند البخاري وغيره: أنها لطمت جارية، فكسرت ثنيَّتها. ورواية البخاري هذه تدل: على أن الإنسان المجروح المذكور في رواية مسلم هو جارية. فلا يكون فيه حجَّة لمن ظن أنَّه رجل، فاستدلَّ به: على أن القصاص جار بين الذكر والأنثى فيما دون النفس. والصحيح: أن الإنسان ينطلق على الذكر والأنثى وهو من أسماء الأجناس. وهي تعمُّ الذكر والأنثى، كالفرس يعمُّ الذكر والأنثى. والجمهور من السلف والخلف على جريان القصاص بين الذكر والأنثى، فيقتل الذكر بالأنثى إلا خلافًا شاذًّا عن الحسن وعطاء، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب. وهم محجوجون بقوله تعالى:{وَكَتَبنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ} فعمَّ، وبأنه قد تقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي بالجارية (1). فأمَّا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَاصُ فِي القَتلَى} ؛ فإنما اقتضت بيان حكم النوع إذا قتل نوعه، فبيَّنت حكم الحرِّ إذا قتل حرًّا، والعبد إذا قتل عبدًا، والأنثى إذا قتلت أنثى. ولم تتعرض لأحد النَّوعين إذا قتل الآخر، لكن بين ذلك بقوله تعالى:{وَكَتَبنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ} وبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بسنَّته لما قتل اليهودي بالمرأة. وأمَّا القِصاص بين الرَّجل والمرأة فيما دون النفس: فهو قول الجمهور أيضًا، وخالفهم في ذلك ممن يرى القصاص بينهما في النفس أبو حنيفة، وحمَّاد، فقالا: لا قصاص بينهما فيما دون النفس. وهما محجوجان بإلحاق ما دون النَّفس على طريق الأحرى والأولى. وذلك: أنهما قد وافقا الجمهور: على أن الرَّجل يقتل بالمرأة مع عظم حرمة
(1) انظر الحديث في التلخيص برقم (2063 و 2064).
فَاختَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: القِصَاصَ القِصَاصَ! . فَقَالَت أُمُّ الرَّبِيعِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُقتَصُّ مِن فُلَانَةَ؟ ! وَاللَّهِ لَا يُقتَصُّ مِنهَا،
ــ
النَّفس. ولا شكَّ: أن حرمة ما دون النفس أهونُ من حرمة النَّفس. فكان القِصاص فيها أحرى وأولى. وفي المسألتين مباحث مستوفاة في علم الخلاف.
و(قوله: القصاصَ، القصاصَ! ) الرِّواية بنصب القصاص في اللفظين. ولا يجوز غيره. وهو منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره. تقديره: ألزمكم القصاص. أو: أقيموا القصاص. غير أن هذا الفعل لا تظهره العرب قطّ؛ لأنهم استغنوا عنه بتكرار اللفظ. كما قالوا: الجدارَ الجدارَ (1). والصبي، الصبي.
ولما فهم أنس بن النضر - على ما ذكره البخاري، أو أمّ الرَّبيع على ما ذكره مسلم - لزوم القصاص؛ عظم عليه أن تكسر ثنية الجانية، فبذلوا الأرش؛ فلم يرضَ أولياء المجني عليها به، فكلَّم أهلها في ذلك، فأبَوا، فلما رأى امتناعهم من ذلك، وأن القصاص قد تعيَّن قال: أيُقتَصُّ من فلانة، والله لا يُقتصُّ منها؟ ! ثقة منه بفضل الله تعالى، وتعويلًا عليه في كشف تلك الكُربة، لا أنه ردَّ حكم الله وعانده، بل هو مُنزَّهٌ عن ذلك لما علم من فضله، وعظيم قدره، وبشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بما له عند الله تعالى من المنزلة. وهذا التأويل أولى من تأويل من قال: إن ذلك القسم كان منه على جهة الرَّغبة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للأولياء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر ذلك عليه بقوله:(سبحان الله! كتاب الله القصاص). ولو كان رَغِبَهُ لما أنكره. وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمَّاه قسمًا، وأخبر: أنه قسم على الله، وأن الله تعالى قد أبرَّه فيه لما قال:(إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه).
ففيه: العمل بشرع من قبلنا إذا صحَّ عندنا، ولم يثبت في شرعنا ناسخ له. ولا مانع منه. وقد اختلف في ذلك الفقهاء، والأصوليون. وفي المذهب فيه
(1) في (ع): الحذارَ الحذارَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: سُبحَانَ اللَّهِ، يَا أُمَّ الرَّبِيعِ، القِصَاصُ كِتَابُ اللَّهِ. قَالَت: لَا وَاللَّهِ، لَا يُقتَصُّ مِنهَا أَبَدًا، قَالَ: فَمَا زَالَت حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِن عِبَادِ اللَّهِ مَن لَو أَقسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ.
رواه أحمد (3/ 128)، والبخاري (2806)، ومسلم (1675)، وأبو داود (4595)، والنسائي (8/ 26 - 27)، وابن ماجه (2649).
* * *
ــ
قولان، ووجه هذا الفقه قوله:(كتاب الله القصاص)، وليس في كتاب الله القصاص في السِّن إلا في قوله تعالى حكاية عمَّا حكم به في التوراة في قوله تعالى:{وَكَتَبنَا عَلَيهِم فِيهَا} الآية، إلى قوله:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}
وفيه: القصاص في السِّن إذا قُلِعَت أو طُرِحَت. وفي كسرها وكسر عظام الجسد خلاف؛ هل يُقتَصُّ منها، أو لا؟ فذهب مالك إلى القصاص في ذلك كلِّه إذا أمكنت المماثلة وما لم يكن مخوفًا، كعظم الفخذ، والصُّلب، أخذًا بقوله تعالى:{فَمَنِ اعتَدَى عَلَيكُم فَاعتَدُوا عَلَيهِ بِمِثلِ مَا اعتَدَى عَلَيكُم} وبقوله: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ} وذهب الكوفيون، والليث، والشافعي: إلى أنَّه لا قود في كسر عظم ما خلا السِّن لعدم الثقة بالمماثلة. وفيه ما يدلّ على كرامات الأولياء.
* * *