الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(8) باب الحكم في اللقطة والضوال
[1817]
عَن زَيدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
ــ
(8)
ومن باب: حكم اللقطة والضوال
قد تقدم القول في اللقطة وإنشادها في كتاب الحجِّ. و (العِفَاص): الوعاء. وأصله: جلدٌ يلبسه رأس القارورة. يقال: عفصت القارورة: شددت عليها العِفاص. و (الوكاء): الخيط الذي يشدُّ به الوعاء. تقول: عفصتُ عفصًا: إذا شددت العِفاص، فإن جعلت العِفاص؛ قلت: أعفصته. وتقول: أوكيت إيكاءً، والشيءَ مُوكى، كما تقول: أعطيت إعطاء، والشيء مُعطَى.
والكلام في اللقطة في مسائل:
الأولى: في حدِّها، وهي عندنا: وجدان مالٍ معصوم (1) لمعصوم معرَّض للضياع، فيدخل في المال كلُّ ما يُتمَّول من جمادٍ وحيوانٍ. ونعني بالمعصوم: كل مال لمالكه حرمة شرعيَّة، فيدخل فيه مال المسلم، والذمِّي، والمعاهد، ويخرج عنه مال الحربي؛ إذ لا حرمة له. وأموال الجاهلية؛ إذ هي ركاز، ويدخل فيه القليل من المال والكثير منه، سواء كان في عامر من (2) الأرض أو غامرها، مدفونًا أو غير مدفون. وتحرزنا بقولنا:(مُعرَّض للضياع) عمَّا يكون في حرز مُحترم، أو عليه حافظ.
المسألة الثانية: في أقسام اللقطة، وهي: جمادٌ، وحيوان. والحيوان: إنسان وغير إنسان، والإنسان إمَّا صغير أو كبير. فالصغير إن علم: أنه مملوك؛ فهو
(1) من (ج 2).
(2)
مستدرك من (ج 2).
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَن اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعرِف عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا،
ــ
لُقطة. وإلا فهو اللقيط، ويجب حفظه، والقيام به على المسلمين؛ إذا كان ذلك في بلادهم وجوب كفاية، وله أحكام مذكورة في الفروع. ولا يكون المملوك الكبير لُقطة إلا إن كان مِمَّن لا يفهم. وأمَّا غير الإنسان: فإبل، وبقر، وغنم، وخيل، وبغال، وحمير.
المسألة الثالثة: في بيان حكمها. فأمَّا الجماد: فاختلف في حكم التقاطه؛ فذهب الشافعي إلى استحباب ذلك مطلقًا، وعندنا فيه تفصيل. فقيل: لا يجب إلا أن يكون بين قوم غير مأمونين، والإمام عدل؛ فيجب أخذها بنيَّة الحفظ على من وثق بأمانة نفسه، فإن علم خيانة نفسه حرم الأخذ عليه، وإن ظن ذلك كره له، وإذا كانت بين مأمونين، ووثق بأمانة نفسه، فقيل: يستحب له أخذها بنيَّة الحفظ. وروي عن ابن القاسم كراهة التقاطها؛ إلا أن يكون لها قدر وبال. وكذلك روى أشهب في الدنانير، فأمَّا الدرهم وما لا بال فيه (1)؛ فلا أحِبُ له أن يأخذه. وقد رويت عن مالك الكراهة مطلقًا. وباقي ما يتعلّق بها من المسائل يأتي مع البحث في الحديث.
و(قوله: اعرف عِفاصها ووكاءها)، وفي رواية:(وعددها) هذا الأمر للملتقط بتعرف هذه الأمور الثلاثة تفيد إباحة حل وكائها، والوقوف على عينها، وعددها للملتقط. وفائدة ذلك: أنَّه إذا جاء من عرف أولئك الأوصاف دفعت له، كما قال:(فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها، فادفعها إليه) وظاهره: اشتراط معرفة مجموع تلك الأوصاف، وأنها تدفع له بغير بيِّنة. وقد اختلف في المسألتين.
فأمَّا المسألة الأولى: فقال ابن القاسم: لا بدَّ من ذكر جميعها؛ يعني:
(1) في (ج 2): له.
ثُمَّ عَرِّفهَا سَنَةً،
ــ
الوكاء، والعِفاص، والعدد. ولم يعتبر أصبغ العدد. وظاهر الحديث حجَّة لابن القاسم، ولأصبغ التمسك بالحديث الذي ليس فيه ذكر العدد. وحجَّة ابن القاسم أوضح؛ لأن من ذكر شيئًا حجَّة على من سكت عنه، ولأنَّه من باب حمل المطلق على المقيد، فإذا أتى بجميع أوصافها؛ فهل يُحَلَّف مع ذلك أو لا؟ قولان. النَّفي لابن القاسم. وتحليفه لأشهب.
ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وغيرهم. وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا تدفع له (1) إلا إذا أقام بينة أنها له. والأول أولى؛ لنصّ الحديث على ذلك، ولأنَّه لو كان إقامة البيِّنة شرطًا في الدَّفع لما كان لذكر العِفاص، والوكاء، والعدد معنًى؛ فإنَّه يستحقها بالبيِّنة على كل حال، ولما جاز سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فإنه تأخير للبيان عن وقت الحاجة. وقال أصبغ: إن عرف العِفاص وحده استُبرئ له، فإن جاء أحدٌ، وإلا أُعطيها. وقال ابن عبد الحكم: لو أصاب تسعة أعشار الصفة، وأخطأ العشر لم يعطها إلا أن يصف العدد، فيصاب أقل. وقال أشهب: إن عرف منها وصفين، ولم يعرف الثالث دفعت إليه.
و(قوله: ثم عرِّفها سنة) تعريفها هو: أن ينشدها في مجتمعات الناس، وحيث يظن أن ربَّها هنالك، أو قربه، فيعرفها تعريفًا لا يضرُّ به، ولا يُخُفِي أمرها. والتعريف واجبٌ؛ لأنَّه مأمورٌ به. ثمَّ يختص الوجوب بسنة في المال الكثير؛ الذي لا يفسد، ولا ينقص منها. وهو قول فقهاء الأمصار. ولم يذهب أحدٌ منهم إلى زيادة على السنة إلا شيء روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنَّه قال: يعرفها ثلاثة أعوام. وإلا: ما تقدَّم من الخلاف في لقطة الحاجِّ.
فأما الشيء القليل التافه؛ الذي لا يتعلَّق به نفس مالكه كالتمرة، والكِسرة، فلا تعريف فيه. وقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال: (لولا أني أخاف أن تكون من
(1) في (ل 1) و (م 2) و (م 3): إليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الصَّدقة لأكلتها) (1)، ولم يعرِّفها.
ولو كانت من القليل الذي تتعلَّق به النفس غالبًا، فهل يُعرَّف أو لا؟ وإذا عُرِّف؛ فهل يُعرَّف سنة، أو يجزئ أقل من ذلك؟ كل ذلك مختلف فيه. فظاهر رواية ابن القاسم: أنَّه يُعرَّف سنة كالكثير. وهو قول الشافعي. وقال ابن القاسم في الكتاب: يُعرِّفه أيَّامًا. وبه قال ابن وهب، ولم يحدد الأيام، بل بحسب ما يظن أن مثلها يطلب فيها. وهذا كالحبل، والمخلاة، والدَّلو، والعصا، والسَّوط، والسِّقاء، والنَّعال. وقال أشهب: إن لم يعرفها فأرجو أن يكون واسعًا (2). وقال بعض العلماء: لا يلزم تعريف شيء من ذلك، وألحقوه بالقسم الأول. وفيه بُعدٌ؛ لأنَّ ما تتشُّوف النفسُ إليه فالغالب: أن صاحبه يطلبه، فلا بدَّ من تعريفه، ولكنه لا ينتهي التعريف فيه إلى السَّنة؛ لأنَّ صاحبه لا يستديم طلبه فيها غالبًا، فحينئذ تضيع استدامة التعريف. فإن قيل: فقد جاء في كتاب أبي داود من حديث جابر: رخَّص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوط، والعصا، والحبل، وأشباهه، يلتقطه الرَّجل ينتفع به (3). وظاهره: أنه لا يحتاج مثل هذا إلى تعريف.
فالجواب: أن هذا لا يصحُّ رفعه؛ لأنَّه من رواية المغيرة بن زياد، عن أبي الزبير، عن جابر. وقد رواه المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير، عن جابر، قال: كانوا، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم. والمغيرة بن مسلم أصلح حديثًا، وأصح من حديث المغيرة بن زياد. هكذا قاله أبو محمد عبد الحق.
قلت: مع أن حديث أبي الزبير عن جابر لا يؤخذ منه إلا ما ذكر فيه سماعه منه؛ لأنَّه كان يُدلِّس في حديث جابر، ولم يذكر سماعه في هذا الحديث، سلمنا صحته، لكنه يحتمل أن تكون هذه الإباحة بعد التعريف. ويعتضدُ هذا بما رواه
(1) رواه البخاري (2431)، ومسلم (1071)، وأبو داود (1651 و 1652).
(2)
لعل المقصود: أن الأمر فيه متسع.
(3)
رواه أبو داود (1717).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أبو محمد بن أبي حاتم عن حكيمة بنت غيلان عن أبيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من التقط لقطة يسيرة، درهمًا، أو حبلا، أو شبه ذلك؛ فليعرفه ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك فليعرِّفه ستة أيام)(1). وأصح من هذا وأحسن ما خرَّجه النسائي عن عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ لقطة فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها، ووكاءها، ولا يكتم، ولا يُغيِّب، فإن جاء صاحبها، فهو أحق بها، وإن لم يجئ صاحبها فهو (2) مال الله يؤتيه من يشاء) (3)، وهذا عام في كل لُقطة.
و(قوله: فليشهد ذوي عدلٍ) أمرٌ للملتقط بأن يشهد على نفسه بأنه وجد كذا، على جهة الاحتياط للُّقطة مخافة طارئ يطرأ على الملتقط من موت، أو آفة، أو طروء خاطر خيانةٍ.
و(قوله: ولا يكتم، ولا يُغيِّب) يعني به: أنَّه يعرِّفها بأعمِّ أوصافها، ويستدعي من المُدَّعي أخصَّ أوصافها المميَّزة لها، كما تقدم.
وأمَّا ما رواه أبو داود (4) من حديث علي رضي الله عنه: أنَّه وجد دينارًا فرهنه في درهم لحمًا، وأنه أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأقرَّه، ولم يُنكر عليه تصرَّفه في الدينار بالرَّهن. فلا حجَّة فيه لمن يستدلُّ به: على أن القليل من اللقطة لا يُعرَّف؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه إنما فعل ذلك في حال ضرورة؛ لأنه دخل بيته والحسن والحسين يبكيان من الجوع، فخرج فوجد الدينار، ففعل ذلك حين لم يجد شيئًا آخر، وفي مثل هذه الحال تحل الميتة، فأحرى التصرف في الوديعة، ثم إنَّه لم يُتلف عين الدينار، وإنَّما رهنه، فلمَّا جاء صاحبه، افتَكَّهُ ودفعه إليه. وذكر في هذا الحديث:
(1) رواه البيهقي (6/ 195). وانظر: المجمع (4/ 169).
(2)
في الأصول: وإلا فهو، وما أثبتناه أنسب للسياق، وموافق لرواية النسائي.
(3)
رواه النسائي في الكبرى (5808).
(4)
رواه أبو داود (1716).
فَإِن جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا فَشَأنَكَ بِهَا. قَالَ: فَضَالَّةُ الغَنَمِ؟ قَالَ: لَكَ أَو لِأَخِيكَ أَو لِلذِّئبِ. قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَما لَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ وَتَأكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلقَاهَا رَبُّهَا.
ــ
أن النبي صلى الله عليه وسلم استدعى مدَّعِي الدينار، فسأله، فقال: سقط مني في السُّوق. فأمر عليًّا بافتكاكه، ثم دفعه إلى الرَّجل. من غير أن يسأله عن وصف من أوصاف الدينار، فيحتمل أن يكون اكتفى منه بقوله: أنَّه ضاع مني في السُّوق، وقد كان علي وحده في السُّوق؛ لأنَّ الدينار الواحد ليس فيه عدد، وقد لا يكون له وعاء، ولا وكاء، والدنانير متساوية الأشخاص غالبًا. ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه صاحبه بوحي، أو بقرائن، فلا حجَّة فيه على سقوط السؤال عن الأوصاف. والله تعالى أعلم.
وقد حصل من هذا: أن اللقطة لا بدَّ لها من تعريف؛ فإن كانت مما لها بال ومقدار عُرِّفت سنة. وإن كانت مما ليس لها ذلك المقدار؛ كان تعريفها بحسبها من غير حدٍّ بعدد مخصوص، ولا زمان مخصوص، بل على الاجتهاد. وأما التمرة، والكِسرة: فلا تحتاج إلى تعريف؛ لأنها مزهودٌ فيها، ولا تتشوف نفس صاحبها إليها. وهذا مذهب مالك وغيره. والله أعلم.
و(قوله: فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنُك بها -) أو: (فهي لك)، أو:(فاستنفقها)، وفي حديث أبي:(وإلا فاستمتع بها)(1). وفي كتاب الترمذي (2): (ثمَّ كُلها). وفي كتاب النسائي من حديث عياض بن حمار: (وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء)(3). أفادت هذه الروايات كلها: أن واجد اللقطة بعد التعريف أحق
(1) رواه مسلم (1723)(10) من رواية ابن نُمَيْر.
(2)
انظر: سنن الترمذي (3/ 657).
(3)
رواه النسائي في الكبرى (5809).
وفي رواية: فَإِن جَاءَ صَاحِبُهَا؛ فَعَرَفَ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا، فَأَعطِهَا إِيَّاهُ، وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ.
وفيها أنه صلى الله عليه وسلم: غَضِبَ عندما سئل عن ضالة الإبل حَتَّى احمَرَّت وَجنَتَاهُ.
رواه البخاري (2427 و 2428 و 2429 و 2438)، ومسلم (1722)(1 و 6)، وأبو داود (1704 - 1708)، والترمذيُّ (1372)، والنسائي في الكبرى (5814 - 5816).
ــ
بالنظر فيها من غيره، فلا ينتزعها منه السلطان ولا غيره. وهو قول أهل العلم. غير أن الأوزاعي قال: إن كان مالًا كثيرًا جعله في بيت المال.
واختلفوا إن كان غير مأمون؛ هل يتركها السلطان بيده، أو يأخذها منه؟ فعن الشافعي في ذلك قولان.
قال القاضي عياض: ومقتضى مذهب مالك، وأصحابه: أن يأخذها منه إن كان غير مأمون. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. فإذا أقرَّت بيده؛ فما الذي يفعل فيها؟ !
الجمهور: على أن له أن يمسكها عنده، ولا ضمان عليه؛ لأنَّها وديعة، كما جاء في بعض طرقه:(ولتكن وديعة عندك). وله أن يصرفها في مصالحه من أكل، أو انتفاع. وله أن يتصدَّق بها، ولا بدَّ في هذين من الضمان متى جاء صاحبها. وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب، وابنه، وابن مسعود، وعائشة، وعطاء، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة. غير أنه - أعني: أبا حنيفة - لم يُبح أكلها إلا للفقير. وشذَّ داود فأسقط عنه الضمان بعد السَّنة.
وموجب الخلاف اختلاف تلك الروايات، وذلك: أن ظاهر قوله: (فهي لك)، و (قوله: ثم كُلها)، و (قوله: وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء): التمليك، وسقوط الضمان، وبه اغتَرَّ داود، لكن قد أزال ذلك الظاهر، ودَحَضَه رواية العدل والضابط الحافظ الإمام يحيى بن سعيد عن يزيد - مولى المنبعث -: أنَّه سمع زيد بن خالد الجهني يقول: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؛ الذهب والورق فقال: (اعرف وكاءها،
[1818]
وعنه، قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَن اللُّقَطَةِ: الذَّهَبِ أَو الوَرِقِ، فَقَالَ: اعرِف وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفهَا سَنَةً، فَإِن لَم تَعترِف فَاستَنفِقهَا، وَلتَكُن وَدِيعَةً عِندَكَ، فَإِن جَاءَ طَالِبُهَا يَومًا مِن الدَّهرِ فَأَدِّهَا
ــ
وعِفاصها، ثمَّ عرِّفها سَنَة، فإن لم تُعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدَّهر، فأدِّها إليه) (1). فهذه أحسن الروايات، وأنصُّها على المطلوب، وهي المبيِّنة لتلك الظواهر الحاكمة عليها. والعجب من داود كيف صُرف عنها وهي بين يديه، وأنَّى تغافلَ عنها؛ وهي حجَّة عليه؟ لكن من حرم التوفيق استدبر الطريق.
و(قوله: ولتكن وديعة عندك) بعد قوله: (استنفقها) معناه: ولتكن في ضمانك على حُكم الوديعة؛ يعني: إذا أنفقها المُودَعُ عنده فإنَّه يضمنها، وإلا: فإذا أنفقها لم تبق عَينُها، فكيف تبقى وديعة إلا على ما ذكرناه؟ والله تعالى أعلم.
و(قوله: فضالةُ الغنم؟ ) فقال: (هي لك، أو لأخيك، أو للذئب) أي: لا بدَّ لها من حال من هذه الأحوال الثلاثة. و (أو) هذه للتقسيم والتنويع. ويفيد هذا: الغنم إذا كانت في موضع يخاف عليها فيه الهلاك جاز لملتقطها أكلها، ولا ضمان عليه؛ إذ قد سوّى بينه وبين الذئب، والذئب لا ضمان عليه، فالملتقط لا ضمان عليه. وهو مذهب مالك وأصحابه، وقد ضمَّنه الشافعي وأبو حنيفة تمسُّكًا ببقاء ملك ربِّها عليها، وبما قد روي من حديث عمرو بن يثربي (2): أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: (إن لقيتها لقحة تحمل شفرةً وأزنادًا فلا تمسَّها)(3). ولا حجَّة في شيء من ذلك؛
(1) هو حديث الباب الثاني رقم (2028).
(2)
هو عمرو بن يثربي الضمري، له صحبة، روى عنه عمارة بن حارثة "الجرح والتعديل"(6/ 269).
(3)
رواه أحمد (3/ 423 و 5/ 113)، وفيه: نعجة بدل لقحة.
إِلَيهِ. وَسَأَلَهُ عَن ضَالَّةِ الإِبِلِ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، دَعهَا. وذكر نحو ما تقدم.
ــ
قد اتفقنا على أن لواجدها أخذها، وأكلها. والأصل: أنَّه لا يجوز التصرُّف في ملك الغير؛ فقد تركنا ذلك (1) الأصل، فلا نتمسك به في باب اللقطة؛ لأن الشرع قد سلَّط الملتقط عليها، ولما كانت هذه مآلها الهلاك إن تُركت ولا ضمان؛ كان أكلها لواجدها أولى بغير ضمان؛ لأنَّه انتفع بها رجل مسلم، ولا حجَّة أيضًا في الحديث لأنَّه من رواية عمارة بن حارثة، وليس بالمشهور الرواية، ولو سُلِّم أنه صحيح فلا حجَّة فيه أيضًا؛ لأنَّ ذلك القول إنما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم جوابًا لمن قال له: أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي فأخذت شاة فأجزرتها؛ أعلي في ذلك شيء؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بذلك. فلم يسأله عن ضالة الغنم، بل عن غنم ابن عمِّه، وذلك عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يحل لامرئ من مال أخيه شيء إلا بطيب نفسٍ منه)(2). فحينئذ سأله عن ذلك، فأجابه بذلك. ويلحق بالغنم عند مالك: ما لا يبقى من الأطعمة، ويخافُ عليه الفساد، وكان بموضع لا ينحفظ فيه، ولا يوجد من يشتريه، فله أكله، ولا ضمان. وضمَّنه الإمامان، كما قدمناه، فإن كان شيء من ذلك قريبًا من العمران، وأمن الهلاك عليه فلا يجوز له أكله، ولا خلاف فيه، فإن شاء أخذها بنيَّة حفظها، وإن شاء تركها على ما تقدم.
و(قوله في ضالَّة الإبل: ما لك ولها؟ ) إلى آخر الكلام، وغضبه حين قال ذلك يدلُّ على تحريم التعرُّض لضالَّة الإبل؛ لأنَّها يؤمن عليها الهلاك لاستقلالها بمنافعها. وقد نصّ على ذلك بقوله في الرواية الأخرى:(دعها عنك). ومقتضاه:
(1) في (ج 2): هذا.
(2)
رواه أحمد (3/ 423 و 5/ 113)، والحاكم (1/ 193). وانظر: مجمع الزوائد (4/ 171).
وفي رواية: ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه.
رواه البخاريُّ (3436)، ومسلم (1722)(5 و 7)، وأبو داود (1706)، والترمذي (1373)، والنسائي في الكبرى (5811)، وابن ماجه (2507).
* * *
ــ
المنع من التصرف فيها مطلقًا، وأن تترك حيث هي. لكن هذا إذا لم تكن بأرض مسبعة. وعلى هذا يدلُّ قوله صلى الله عليه وسلم:(ضالة المسلم حرق النار)(1). قال العلماء: هكذا كان في أول الإسلام، وعلى ذلك استمر زمن أبي بكر، وعمر، فلمَّا كان زمن عثمان وعلي، وكثر فساد الناس، واستحلالهم: رأوا التقاطها، وضمَّها، والتعريف بها، وهذا كلُّه منهم وفاءً بمقصود هذا الحديث في لقطة الإبل؛ فإن مقصوده: أنها إذا أمن عليها الهلاك، وبقيت بحيث تتمكن مما تعيش به من الأكل والشرب حتى يجيء ربُّها، فيجدها سليمة، فحينئذ لا يتعرَّض لها أحدٌ، فلو تعذر شيء من ذلك، وخِيف عليها الهلاك أو السَّرق؛ التقطت، وحفظت؛ لأنَّها مال مسلم؛ فيجب حفظه، ولا تُؤكل. ولو كانت بالمواضع المنقطعة عن العمران البعيدة؛ لأنَّ سَوقها ممكن، ومؤونتها متيسرة بخلاف الغنم.
وهل يلحق بها البقر أو بالغنم؟ عندنا في ذلك قولان. فرأى مالك إلحاقها بالغنم لضعفها عن الامتناع عند انفرادها. ورأى ابن القاسم إلحاقها بالإبل إذا كانت بموضع لا يخاف عليها فيه من السِّباع.
قلت: وكأن هذا تفصيل أحوال، لا اختلاف أقوال. وقد بيَّنَّا: أن مثله جار في الإبل، فالأولى: إلحاقها بها.
وكذلك اختلف في التقاط الخيل، والبغال، والحمير. وظاهر قول ابن القاسم: أنها تلتقط. وقال أشهب، وابن كنانة: لا تلتقط.
(1) رواه أحمد (5/ 80).