الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) باب اختلاف المجتهدين في الحكم لا ينكر
[1814]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ: عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَينَمَا امرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئبُ، فَذَهَبَ بِابنِ إِحدَاهُمَا، فَقَالَت هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابنِكِ أَنتِ، وَقَالَت الأُخرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلكُبرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيمَانَ بنِ دَاوُدَ عليهما السلام فَأَخبَرَتَاهُ،
ــ
يَصِلُوا إلى بني قريظة. وعجَّلوا السَّير، فجمعوا بين المقصودين، فأقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم كلًا منهم على ما ظهر له من اجتهاده، فكان فيه حجَّة لمن يقول: إنَّ كلَّ مجتهد مصيبٌ؛ إذ لو كان أحد الفريقين مخطئًا لعيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال: إنه إنما سكت عن تعيين المخطئ؛ لأنَّه غير آثم، بل مأجور، فاستغنى عن تعيينه، والله أعلم.
[(6) ومن باب: اختلاف المجتهدين بالحكم لا ينكر](1)
(قوله: فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى) قد أشكل هذا على كثير من الشارحين، حتى قال بعضهم: إن هذا لم يكن من داود حكمًا، وإنَّما كان فتيا. وهذا فاسدٌ لنصِّه؛ على أنه قضى، ولأن فتيا النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه سواء؛ إذ يجب تنفيذ ذلك. وقالت طائفة أخرى: إن ذلك كان من شرع داود أن يحكم به للكبرى؛ يعني: من حيث هي كبرى. وهذا أيضًا فاسدٌ؛ لأنَّ اللفظ ليس نصًّا في ذلك، ولأن الكُبر والصغر طَردٌ محض عند الدعاوي، كالطول والقصر، والسّواد والبياض؛ إذ لا يوجب شيء من ذلك ترجيح أحد المتداعيين، حتى يحكم له، أو عليه لأجل ذلك، وهذا مما يقطع به من فهم ما جاءت به الشرائع، كما بيَّنَّاه في الأصول، والذي ينبغي أن يقال: إن داود عليه السلام إنما حكم للكبرى لسبب اقتضى عنده
(1) ما بين حاصرتين ليس في الأصول، واستدرك من التلخيص.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ترجيح قولها، ولم يذكره في الحديث بعينه؛ إذ لم تَدعُ حاجةٌ إليه، فيمكن أن يقال: إن الولد كان في يد الكبرى، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البيِّنة، فقضى به لها إبقاء لما كان على ما كان. وهذا تأويل حسن لا يمنعه اللفظ، وتشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية التي يبعد اختلاف الشرائع فيها. فإن قيل: فإن كان داود عليه السلام قضى بسبب شرعي، فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه؟ !
فالجواب: أن سليمان عليه السلام لم يتعرَّض لحكم أبيه بالنقض، وإنَّما احتال حيلة لطيفة، ظهر له بسببها صدق الصغرى. وهي: أنَّه لَمَّا قال: هات السكين أشقه بينهما! فقالت الصغرى: لا. ظهر له من قرينة الشفقة في الصغرى، وعدم ذلك في الكبرى مع ما عساه انضاف إلى ذلك من القرائن ما حصل له العلم بصدقها فحكم لها. ولعله كان ممن سُوِّغ له أن يحكم بعلمه، ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الجزم والجِدّ في ذلك، فقضى بالولد للصغرى. ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين، فلما مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنَّه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين، وبعدها، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول، ولكن من باب: تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب. والله أعلم.
وفي هذا الحديث: أن الأنبياء عليهم السلام سُوِّغ لهم الحكم بالاجتهاد، وهو مذهب المحققين من الأصوليين، ولا يُلتفت لقول من يقول: إن الاجتهاد إنما يسُوِّغ عند فقد النَّصِّ، والأنبياء عليهم السلام لا يفقدون النصّ، فإنَّهم مُتَمِكِّنون من استطلاع الوحي وانتظاره؛ لأنَّا نقول: إذا لم يأتهم الوحي في الواقعة صاروا كغيرهم في البحث عن معاني النصوص التي عندهم. والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين: أنَّهم معصومون عن الغلط والخطأ، وعن التقصير في اجتهادهم، وغيرهم ليس كذلك.
فَقَالَ: ائتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَينَكُمَا! فَقَالَت الصُّغرَى: لَا، يَرحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغرَى.
قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ: وَاللَّهِ إِن سَمِعتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَومَئِذٍ، مَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا المُديَةَ.
رواه أحمد (2/ 322)، رمسلم (1720)(20)، والنسائي (8/ 235).
ــ
وفيه من الفقه: استعمال الحكَّام الحيل التي تُستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء، والفطنة، وممارسة أحوال الخليقة. وقد يكون في أهل التقوى فراسةٌ دينية، وتوسُّمات نورِّية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
و(قولها: لا) أي: لا تفعل. ثمَّ دعت له بقولها: (يرحمك الله) فينبغي للقارئ أن يقف على (لا) وقيفة؛ حتى يتبيَّن للسامع: أن ما بعده كلام مستأنف؛ لأنَّه إذا وصل بما بعده توهَّم السَّامع: أنَّه دعاء عليه، وهو دعاء له. وقد روي عن أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه أنه قال لرجل سمعه يقول مثل ذلك القول: لا تقل هكذا، وقل: يرحمك الله، لا.
قلت: وقد يزول ذلك الإبهام بزيادة (واو)، فيقال: لا، ويرحمك الله.
وفيه حجَّة لمن يقول: إن الأمّ تَستَلِحقُ، وليس مشهور مذهب مالك، ولا يلحق الولد عند مالك بإحداهما إلا ببيِّنة. وقد تقدم القول في الاستلحاق في النكاح.
* * *