الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(10) باب الحد في الخمر وما جاء في جلد التعزير
[1793]
عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَد شَرِبَ الخَمرَ،
ــ
الجمهور. واختلف في الرِّجال. فالجمهور على أنهم يجلدون قيامًا. قاله الشافعي، وغيره. وقال مالك: قعودًا. واتفقوا: على أن الجلد كيفما وقع أجزأ. ولا يُمدُّ المجلود، ولا يُربط. وتُترك له يداه عند الجمهور. قال ابن مسعود: لا يحل في هذه الأُمَّة تجريدٌ، ولا مَدٌّ. والضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلِمًا؛ لا يجرح، ولا يبضع، ولا يُخرج الضارب يده من تحت إبطه. وبه قال الجمهور، وعلي، وابن مسعود. وأتي عمر برجلٍ في حدٍّ، فأُتي بسوط بين سوطين، وقال للضارب: اضرب، ولا يُرى إبطك، وأعط كل عضو حقَّه. واتفقوا: على أنه لا يضرب في الوجه؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا يُضرب في الفرج عند العلماء. والجمهور على اتِّقاء الرأس. وقال أبو يوسف: يُضرب في الرأس. وقد روي: أن عمر ضرب صَبِيغًا (1) في رأسه، وكان تَعزِيرًا، لا حدًّا.
قلت: وإنَّما منع من الضرب في الفرج مخافة الموت. فيجب أن تُتَّقَى المقاتل كلُّها، كالدماغ، والقلب، وما أشبه ذلك. وهذا لا يُختَلف فيه إن شاء الله تعالى.
(10)
ومن باب: الحدّ في الخمر
(قوله: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فجلده) ظاهره يقتضي: أن الخمر بمجرَّده موجبٌ للحدِّ؛ لأن الفاء للتعليل، كقولهم: سها فسجد،
(1) في (ع) و (ل 1): "ضُبَيعًا"، والتصحيح من (ج 2)، والإصابة (2/ 198).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وزنى فرُجِم. وهو مذهب الجمهور من الصحابة وغيرهم. ولم يفرِّقوا بين شرب خمر العنب وغيره، ولا بين شرب قليله وكثيره؛ إذ الكل خمر، كما قدَّمناه، وللكوفيين تفصيل ينبني على ما تقدَّم ذكره في باب تحريم الخمر. وهو: أن من شرب شيئًا من خمر العنب النيَّئة وجب عليه الحدّ، قليلًا كان أو كثيرًا، لأن هذا هو المجمع عليه، فإن شرب غيره من الأشربة فسكر: حُدَّ، [وهذا أيضًا مجمع عليه](1)، فإن لم يسكر لم يُحدَّ عندهم. وكذلك قالوا في مطبوخ العنب. وذهب أبو ثور: إلى أن من رأى تحريم القليل من النبيذ جلد ومن لم يره لم يجلد؛ لأنَّه متأوِّل. وقد مال إلى هذا الفرق بعض شيوخنا المتأخرين. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور بما سبق ذكره في باب تحريم الخمر، وبدليل قوله:(من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه)(2)، فعلَّق الحكم على نفس شرب ما يقال عليه خمر، ولم يفرق بين قليل، ولا كثير. وقد بيَّنَّا: أن الكل يقال عليه خمر لغة وشرعًا، بالطرق التي لا مدفع لها.
فأما قتل الشارب في الرابعة: فمنسوخ بما روي من حديث جابر الذي خرَّجه النسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بنعيمان، فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات. قال: فرأى المسلمون أن الحدّ قد وقع، وأن القتل قد رفع (3).
فيحصل من هذا الحديث معرفة التاريخ ومعرفة إجماع المسلمين على رفع القتل. ومن حكي عنه
(1) ما بين حاصرتين زيادة من (ج 2).
(2)
رواه أحمد (4/ 93)، وأبو داود (4482)، والترمذي (1444). وفي (ج 2) و (ع): النص على القتل إذا شرب في الثالثة، وما أثبتناه من (ل 1) والمسند. وقد جمع الشيخ أحمد شاكر رحمه الله طرق الحديث في رسالةٍ سمَّاها:"كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر".
(3)
رواه النسائي في الكبرى (5303).
فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَينِ نَحوَ أَربَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ استَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبدُ الرَّحمَنِ: أَخَفُّ الحُدُودِ ثَمَانونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ.
رواه البخاري (6773)، ومسلم (1706)(35)، وأبو داود (4479)، والترمذي (1343).
ــ
خلاف ذلك فإنما هو خلاف متأخر مسبوق بالإجماع المتقدم. وقد عضد حديث جابر ما خرَّجه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلًا كان اسمه: عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحِك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا، فأمر به فجلد. فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله (1). وظاهره: أن هذا الشارب شرب أكثر من أربع مرَّات، ثم لم يقتله، بل شهد له أنَّه يحب الله ورسوله.
و(قوله: فجلده بجريدتين نحو أربعين)، وفي الرواية الأخرى:(جلد في الخمر بالجريد والنعال أربعين). هذه الروايات تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد في الخمر حدًّا محدودًا، وإنما كان ذلك منه تعزيرًا وأدبًا، لكن انتهى في ذلك إلى أربعين. ومما يدلّ على ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي برجل شرب، فقال:(اضربوه). قال: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. ثم قال لأصحابه:(بكتوه)، فأقبلوا عليه يقولون: أما اتقيت الله؟ ! أما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)؟ ! وهذا كله يدلّ على أن ذلك كله أدب، وتعزير. ولذلك قال علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّه؛ أي: لم يحدَّ فيه حدًّا، ولذلك اجتهدت الصحابة فيه، فألحقوه بأخف الحدود، وهو حدُّ
(1) رواه البخاري (6780).
(2)
رواه أبو داود (4487).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
القذف. هذا قولُ طائفةٍ من علماء أصحابنا وغيرهم، وهو ظاهرٌ من الأحاديث التي ذكرناها. غير أنه يرد عليهم أن يقال: هذا معارضٌ بوجهين:
أحدهما: أن علي بن أبي طالب قد قال: جلد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكرٍ أربعين، وجلد علي بحضرة عثمان، والصحابة رضي الله عنهم أربعين، ودوامهم على مراعاة هذا العدد يدل على أنَّه حدٌّ محدود، ولو كان تعزيرًا لاختلف بحسب اجتهاد كلّ واحدٍ منهم.
وثانيهما: أن الأمَّة مُجمعة على أنَّ الحدَّ في الخمر أحد العددين؛ إمَّا أربعون، وإمَّا ثمانون.
قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على وجوب الحدِّ في الخمر. وكيف تُجمِعُ الأمَّةُ على خلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؟ !
فالجواب عن الوجهين: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم الذين نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على التعزير، وهم الذين نقلوا ما يدل على التحديد. والذين قاسوا واجتهدوا هم الذين عدَّدوا وحدَّدُوا، ولم ينصَّ أحدٌ منهم على نفي أحد الوجهين وثبوت الآخر، وإنما هو نقل أحوالٍ محتملة، فلا بدَّ من التلفيق بين أقوالهم؛ لاستحالة التناقض والكذب عليهم.
ووجهُ التلفيق: أن الصحابةَ - رضي الله تعالى عنهم - فهمت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ جَلده كان تعزيرًا؛ لأنَّه قد اختلف حاله فيه، فمرةً جلد فيه بالأيدي، والنِّعال، والثياب من غير عددٍ. ومرَّةً جلد فيه بالجريد والنعال أربعين. ومرَّةً جلد فيه بجريدتين نحو الأربعين، فهذه نحو الثمانين. فهذا تعزير بلا شك، لكن لَمَّا كان أكثر جلده أربعين اختاره أبو بكر، وعمر في أول أمره، فلمَّا كثر إقدامُ الناس على شرب الخمر، تفاوضت الصحابة في ذلك ونظروا، فظهر لهم: أن ذلك القدر
[1794]
وعنه: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَدَ فِي الخَمرِ بِالجَرِيدِ وَالنِّعَالِ،
ــ
لا يزجرهم، ولا يبالون به، فظهر لهم أن يلحقوه بأخف حدود الأحرار المذكورة في القرآن، فوجدوه القذف، مع أنه قد ظهر لهم جامع بينهما، فقالوا: إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افترى. ومع ما تقدَّم لهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قارب فيه الثمانين، فأثبتوها، ومنعوا من الزيادة عليها. ولما ظهر هذا المعنى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال مصرِّحًا به: جلد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكرٍ أربعين، وعمر ثمانين، وكل سُنَّة. ثمَّ إنَّه جلد هو أربعين، وأقرَّه على ذلك عثمان، ومَن حضر من الصحابة رضي الله عنهم وظهر له أن الاقتصار على أربعين أولى من الثمانين؛ مخافةَ أن يموتَ فتلزمه الدِّية، كما قد صرَّح به؛ حيث قال: ما كنت أقيمُ على أحدٍ حدًّا فيموت فيه، فأجد في نفسي، إلا صاحب الخمر، لأنه إن مات وَدَيتُهُ. وهذا يدلُّ على أنَّه جلد فيه ثمانين في ولايته، وأنَّه لم يخالف عمر في الثمانين، وإيَّاها عَنَى بقوله:(فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّه)، ولا يصحُّ أن يريدَ بذلك الأربعين؛ لأنه هو الذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد فيه أربعين. ولو مات في الأربعين لم تجب له ديةٌ بوجهٍ. ولذلك قال الشافعي: لو مات في الأربعين فالحقُّ قَتَلَهُ، كما تقدَّم. فتفهَّم هذا البحث، فإنَّه حسن.
وحاصله: أن الجلدَ على الخمر تعزير مُنِع من الزيادة على غايته. فرأت طائفه: أن غايته أربعون، فلا يُزاد عليه. وبه قال الشافعي من الفقهاء، والإجماع: على أنَّه لا يزاد على الثمانين، فإن قيل: كيف يكون تعزيرًا وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يُجلَدُ أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود الله (1)؟ فمقتضى هذا: ألا يُزاد في التعزير على العشرة. وبه قال من يأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى. فالجواب: إنَّه سيأتي الكلام على ذلك الحديث.
(1) سبق تخريجه في التلخيص برقم (2097).
- وفي رواية: أربعين - ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكرٍ أَربَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِن الرِّيفِ وَالقُرَى، قَالَ: مَا تَرَونَ فِي جَلدِ الخَمرِ؟ فَقَالَ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ: أَرَى أَن تَجعَلَهَا كَأَخَفِّ الحُدُودِ، قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ.
رواه مسلم (1706)(36).
ــ
و(قوله: فلمَّا كان عمر ودنا النَّاس من الرِّيف والقرى) كان هنا تامَّة. وفي الكلام حذفٌ؛ أي: لما وقع، ووجد زمن خلافة عمر. والرِّيف: أرض الزرع والخصب. والجمع: أرياف. يقال: أَرَافَت الأرض - رباعيًّا - أخصبت. ورافت الماشية: إذا رعت الريف. وأَريَفنا: أي: صرنا إلى الريف. (من الصحاح) ويعني بذلك: أنَّه لما فتحت البلاد بالشَّام وغيرها، وكثرت الكروم ظهر في الناس شُربُ الخمر، فشاور عمرُ الصحابةَ رضي الله عنهم في التشديد في العقوبة عليها، فتفاوضوا في ذلك، واتفقوا على إلحاقها بحدِّ القذف؛ لأنَّه أخف الحدود، كما قال عبد الرحمن. وقد جاء في الموطأ: أن عمر لَمَّا استشارهم في ذلك قال علي: نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هَذَى افترى (1). فصرَّح بكيفية الإلحاق. وحاصلها راجعٌ إلى أنه أقام السُّكر مقامَ القذف؛ لأنه لا يخلو عنه غالبًا، فأعطاه حكمه، فكان هذا الحديث من أوضح حجج القائلين بالقياس والاجتهاد؛ إذ هذه القضيةُ نصٌّ منهم على ذلك. وهم الملأ الكريم. وقد انتشرت القضيةُ في ذلك الزَّمان، وعمل عليها في كل مكانٍ، ولم يتعرَّض بالإنكار عليها إنسان، مع تكرار الأعصار، وتباعد الأقطار، فكان ذلك إجماعًا على صحة العمل بالقياس الذي لا ينكره إلا الأغبياء من الناس. وقد أورد بعض من يتعاطى العلم الجدلي على هذا النظر السديد العَلَوِي أن قال: إن حكم للسُّكر بحكم القذف - لأنه مظنَّته - فليحكم له بحكم الزِّنى والقتل لأنه مظنتهما. وأيضًا: فلأنه يلزم عليه ألا يُحَدَّ على مجرد الشرب، بل على السُّكر خاصةً، لأنَّه هو المظنَّة، لا الشُرب.
(1) رواه مالك في الموطأ (2/ 842).
[1795]
وعن حُضَين بن المُنذِرِ أَبي سَاسَانَ قَالَ: شَهِدتُ عُثمَانَ بنَ عَفَّانَ أُتِيَ بِالوَلِيدِ قَد صَلَّى الصُّبحَ رَكعَتَينِ، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُم؟ قال: فَشَهِدَ عَلَيهِ رَجُلَانِ - أَحَدُهُمَا حُمرَانُ -: أَنَّهُ شَرِبَ الخَمرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ،
ــ
وقد حدُّوا على شرب الخمر وإن لم يسكر. فدلَّ على أن السُّكر ليس معتبرًا في الحدِّ، فلا يكون علَّة له، ولا مظنَّة.
والجواب عن الأول: منع كون السُّكر مظنة للزنى والقتل؛ لأنَّ المظنَّة اسم لما يظن فيها تحقق المعنى المناسب غالبًا. ومن المعلوم: أن السُّكر لا يخلو عن الهذيان والقذف غالبًا في عموم الأوقات والأشخاص، وليس كذلك الزنى والقتل؛ فإن ذلك إن وقع فنادرٌ، وغير غالبٍ. والوجود يحققه.
والجواب عن الثاني: أن الحدّ على قليل الخمر إنما هو من باب سدِّ الذرائع؛ لأنَّ القليل يدعو إلى الكثير، والكثير يُسكر، والسُّكر المظنَّة، كما قررته الصحابة رضي الله عنهم؛ فهم الأسوة، وهم القدوة.
و(قوله في الأم: عبد الله الدَّاناج (1)) بالجيم. ويقال: الدَّاناء. بهمزة مكان الجيم. ويقال بهاء. وهو بالفارسية: العالم. (عن حُضَين) بالحاء المهملة، والضاد المعجمة: تصغير (حُضن) وهو ما دون الإبط إلى الكشح. وحضن الشيء: جانبه. ونواحي كل شيء: أحضانه. و (الوليد) هو ابن عقبة بن أبي مُعيط، ظهر عليه أنَّه شرب الخمر، فَكُثِّرَ على عثمان فيه، فلما شهد عنده بأنَّه شربها أقام عليه الحدّ كما ذكر.
و(قوله: فشهد حمران: أنَّه شربها، وشهد آخر: أنَّه رآه يتقيَّأ): فيه من
(1) ورد هذا الاسم في سند الحديث (1707)(38) في صحيح مسلم.
فَقَالَ عُثمَانُ: إِنَّهُ لَم يَتَقَيَّأ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، قُم فَاجلِدهُ،
ــ
الفقه: تلفيق الشهادتين إذا أدَّتا إلى معنى واحد، فإن أحدهما شهد برؤية الشرب. والآخر بما يستلزم الشرب، ولذلك قال عثمان: إنَّه لم يتقيَّأ حتى شربها. غير أنَّه قد ذكر الحُمَيدِي محمد بن نصر في حديث عمر حين شهد عنده الجارود: بأن قدامة شرب الخمر ثمَّ دعا بأبي هريرة وقال: علام تشهد؟ فقال: لم أره حين شرب! وقد رأيته سكران يقيء. فقال عمر: لقد تنطَّعتَ يا أبا هريرة في الشهادة! فلمَّا استحضر قُدامة أنكر. فقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين! إن كنت تشك في شهادتنا فَسَل بنت الوليد امرأة ابن مظعون. فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله. فأقامت هند على زوجها الشهادة، فجلده. فظاهر هذا: أن عمر لم يسمع شهادة أبي هريرة لما قال له: إنَّه لم يره يشرب، وإنَّما رآه يتقيَّأ.
والجواب: أن عمر إنَّما توقف في شهادة أبي هريرة؛ لأنَّ أبا هريرة سلك في أداء الشهادة مسلك من يُخبر بتفصيل قرائن الأحوال التي أفادته العلم بالمشهود فيه، ومهما شرع الشاهد في تفصيل ذلك وحكايته لم يحصل لسامع الشهادة الجزم بصحتها؛ لأنَّ قرائن الأحوال لا تنضبط بالحكاية عنها، وإنما حق الشاهد أن يعرض عنها، ويُقدِم على الأداء إقدام الجازم المخبر عن علم حاصل، فكان توقف عمر لذلك. ثمَّ إن أبا هريرة لما جزم في الشهادة سمعها عمر وحكم بها، لكنه استظهر بقول هند على عادته في الاستظهار في الشهادات والإخبار، ولا يظن به أنه ردَّ شهادة أبي هريرة، وقبل شهادة امرأة في الحدود، إلا من هو عن المعارف مصدود.
و(قول عثمان لعلي: قم يا علي فاجلده) دليل على أن الحدَّ إنَّما ينبغي أن يقيمه بين أيدي الخلفاء والحكام فضلاء الناس، وخيارهم. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلَّما وقع لهم شيء من ذلك. وسبب ذلك: أنَّه قيامٌ بقاعدةٍ شرعية، وقُربة تعبديِّة تجب المحافظة على فعلها، وقدرها، ومحلِّها، وحالها، بحيث لا يُتَعَدَّى
فَقَالَ عَلِيٌّ: قُم يَا حَسَنُ فَاجلِدهُ، فَقَالَ الحَسَنُ: وَلِّ حَارَّهَا مَن تَوَلَّى قَارَّهَا، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيهِ، فَقَالَ: يَا عَبدَ اللَّهِ بنَ جَعفَرٍ، قُم فَاجلِدهُ، فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَربَعِينَ، فَقَالَ: أَمسِك،
ــ
شيء من شروطها، ولا أحكامها. ولذلك يجب عند جميع العلماء أن يختار لها أهل الفضل، والعدل؛ إذا أمكن ذلك مخافة التعدِّي في الحدود. وقد وقع في زماننا من جلد في الخمر ثمانين، فتعدَّى عليه الضاربُ، فقتله بها، وحُرمةُ دم المسلم عظيمة، فتجب مراعاتها بكل ممكن.
و(قول علي: قم يا حسن فاجلده! ) دليل على أن من استنابه الإمام في أمر فله أن يستنيب من يتنزل منزلته في ذلك الأمر.
و(قول حسن: ولِّ حارَّها من تولى قارَّها). هذا مثل من أمثال العرب. قال الأصمعي: معناه: وَلِّ شدَّتها من تولى هنيئها. والقارُّ: البارد. ويعني الحسن بهذا: ولِّ شدة إقامة الحدّ من تولى إمرة المسلمين، وتناول حلاوة ذلك.
و(قوله: فكأنه وجد عليه) أي: غضب عليه لأجل توقفه فيما أمره به، وتعريضه بالأمراء.
و(قوله: فقال: يا عبد الله! قم فاجلده) يحتمل أن يكون الآمر لعبد الله عليًّا، فكأنه أعرض عن الحسن لَمَّا توقف. ويحتمل أن يكون الحسن استناب عبد الله فيما أمره به علي طلبًا لرضا علي. والله تعالى أعلم.
و(قوله: فجلده وعلي يعدُّ حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك) ظاهر هذا: أنَّه لم يزد على الأربعين. وفي البخاري من حديث المسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأسود، وذكر هذا الحديث طويلًا، وقال في آخره: إن عليًّا جلد الوليد ثمانين (1). وهذا تعارض، غير أن حديث حضين أولى، لأنَّه مفصل في مقصوده،
(1) رواه البخاري (3696).
ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأَبُو بَكرٍ أَربَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ.
رواه مسلم (1707)(38)، وأبو داود (4480 و 4481).
ــ
حسنٌ في مساقه، وساقه رواية مساق المُتثبِّت. والأقرب أن بعض الرواة وَهِمَ في حديث المسور، فوضع (ثمانين) مكان (أربعين).
و(قول علي: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين. وأبو بكر أربعين، وكل سُنَّة) دليل واضح على اعتقاد علي رضي الله عنه صحة إمامة الخليفتين أبي بكر، وعمر، وأن حكمهما يقال عليه: سُنَّة؛ خلافًا للرافضة والشيعة، وهو أعظم حُجَّة عليهم؛ لأنَّه قول متبوعهم؛ الذي يتعصبون له، ويعتقدون فيه ما يتبرأ هو منه. وكيف لا تكون أقوال أبي بكر وعمر وأفعالهما سنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)(1)؟ ! .
و(قوله: وهذا أحبُّ إلي) ظاهره: أنَّه أشار إلى الأربعين التي أمر بالإمساك عليها. وقد روي: أن المعروف من مذهبه الثمانون. فيكون له في ذلك القولان، لكنه دام هو على الثمانين لما كثر الإقدام على شرب الخمر.
وحاصل هذا الاختلاف في الأحاديث، وبين الصحابة راجع إلى أنه لم يتقدَّر في الخمر حدٌّ محدود. وإنما كان الأدب والتعزير، لكن استقر الأمر: أن أقصى ما بلغ فيه إلى الثمانين، فلا يزاد عليها بوجه. وقد نصَّ على هذا المعنى السائب بن يزيد فيما خرَّجه البخاري قال: كنَّا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإِمرة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا، ونعالنا، وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عَتَوا وفَسَقُوا جلد ثمانين (2). وعلى هذا:
(1) رواه أحمد (5/ 382)، والترمذي (3663)، وابن ماجه (97).
(2)
رواه البخاري (6779).
[1796]
وعَن عَلِيٍّ قَالَ: مَا كُنتُ أُقِيمُ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتَ فِيهِ فَأَجِدَ فِي نَفسِي إِلَّا صَاحِبَ الخَمرِ؛ لِأَنَّهُ إِن مَاتَ وَدَيتُهُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَم يَسُنَّهُ.
رواه أحمد (1/ 125)، والبخاريُّ (6778)، ومسلم (1707)(39)، وأبو داود (4486)، وابن ماجه (2569).
ــ
فلا ينبغي أن يعدل عن الثمانين؛ لأنَّه الذي استقرَّ عليه آخر أمر الصحابة أجمعين.
و(قول علي: ما كنت لأقيم على أحد حدًّا فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر؛ لأنَّه إن مات وديته) يدلُّ على أن ما كان فيه حدٌّ محدود فأقامه الإمام على وجهه، فمات المحدود بسببه؛ لم يلزم الإمام شيء، ولا عاقلته، ولا بيت المال. وهذا مجمعٌ عليه؛ لأنَّ الإمام قام بما وجب عليه، والميت قتيل الله. وأمَّا حدّ الخمر فقد ظهر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدّ فيه حدًّا. فلما قصرته الصحابة على عدد محدود، هو الثمانون، وجد علي في نفسه من ذلك شيئًا، فصرَّح بالتزام الدِّية إن وقع له موت المجلود احتياطًا، وتوقيًّا، لكن ذلك - والله أعلم - فيما زاد على الأربعين إلى الثمانين. وأمَّا الأربعون: فقد نص (1) هو على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جلداها، وسمى ذلك سنة. فكيف يخاف من ذلك؟
وهذا هو الذي فهمه الشافعي من فعل علي هذا، فقال: إن حدّ أربعين بالأيدي، والنعال، والثياب، فمات؛ فالله قتله. وإن زِيدَ على الأربعين بذاك، أو ضرب أربعين بسوط فمات؛ فديته على عاقلة الإمام.
قلت: ويظهر لي من فعل عمر خلافُ ذلك: إنه لما شُهِدَ على قُدامة بشُرب الخمر استشار من حضره في جَلدِه، فقال القوم: لا نرى أن تَجلِدَه ما دام
(1) في (ج 2): صرَّح.
[1797]
وعَن أَبِي بُردَةَ الأَنصَارِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يُجلَدُ أَحَدٌ فَوقَ عَشَرَةِ أَسوَاطٍ، إِلَّا فِي حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ.
رواه أحمد (4/ 45)، والبخاريُّ (6850)، ومسلم (1708)، وأبو داود (4492)، والنسائي في الكبرى (7330).
* * *
ــ
وَجِعًا، فسكت عمر عن جلده أيامًا، ثم أصبح يومًا قد عزم على جلده، فاستشارهم. فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وَجِعًا. فقال عمر: والله لأن يلقى الله تحت السياط أحبُّ إلي من أن ألقى الله وهي في عنقي. والله لأجلدنَّه. فجلده بسوط بين سوطين (1). وهذا يدلُّ: على أنَّه لا يلزم في ذلك دية لا على العاقلة، ولا في بيت المال؛ لأنَّ عمر سلك في حد الخمر مسلك الحدود المحدودة بالنصّ. وأمَّا جلد عمر لقدامة على ما ذكروا له من وَجَعِه، فكأنه فهم أن وجعه لم يكن بحيث يبالى به، ولا يخاف منه. وكأنهم اعتذروا به ليتأخر ضربه شفقة عليه، وحُنُوًّا. وقد ظهر ذلك منهم لما أَتَوه بسوطٍ دقيق صغير. فقال لأسلم: أخذتك دقرارة أهلك؛ أي: حميتهم الحاملة على المخالفة.
واختلفوا فيمن مات من التعزير. فقال الشافعي: عَقلُه على الإمام، وعليه الكفارة. وقيل: على بيت المال. وجمهور العلماء: على أنَّه لا شيء عليه.
و(قوله صلى الله عليه وسلم: لا يجلد أحدٌ فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ من حدود الله) أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد بن حنبل، وأشهب من أصحاب مالك في بعض أقواله. وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى: لا يضرب في الأدب أكثر من ثلاثة. وقال أشهب في مؤدِّب الصبيان. قال: وإن زاد اقتَّص منه. والجمهور: على أنَّه يُزاد في التعزير على العشرة. فمنهم من قصره على عدد بحيث لا يزاد عليه. فقال
(1) أي: سوط متوسط بين اللين والشدّة.