الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) باب حكم الحاكم في الظاهر لا يغير حكم الباطن والحكم على الغائب
[1805]
عَن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُم
ــ
قوله تعالى: {وَاستَشهِدُوا شَهِيدَينِ مِن رِجَالِكُم فَإِن لَم يَكُونَا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامرَأَتَانِ} ووجه تمسُّكهم: أنها حاصرة للوجوه التي يستحق بها المال نصٌّ في ذلك، والزيادة على ذلك نسخ. ونسخ القاطع بخبر الواحد لا يجوز إجماعًا، والقضاء بالشاهد واليمين إنَّما جاء بخبر الواحد فلا يُقبل.
والجواب: منع كون الزيادة على النصِّ نسخًا؛ إذ الجمع بين النصّ والزيادة يصحّ، وليس ذلك نسخًا لحكم شرعي، كما بيَّنَّاه في الأصول. سلَّمناه، لكن لا نُسلِّم: أن الآية نصٌّ في حصر ذلك؛ لأنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب، ويمين الطالب، فإن ذلك يستحق به المال إجماعًا. وهذا معنى ما أشار إليه مالك في الموطأ، وهو واضح. ثمَّ نقول بموجب الآية؛ إذ نصُّها الأمر بمن يستشهد في المعاملات، لا ما يُقضى به عند الدَّعاوي والخصومات.
(2)
ومن باب: حكم الحاكم في الظاهر لا يغير حكم الباطن
(قوله صلى الله عليه وسلم: إنَّما أنا بشرٌ) تنبيه على: أن أصل البشرية عدم العلم بالغيب، وبما يخفى من البواطن؛ إلا من أطلعه الله تعالى على شيء من ذلك، وعلى جواز الغلط والسَّهو عليهم؛ إلا من عصمه الله من ذلك. وقد كان الله تعالى قادرًا أن يُطلع نبيَّه صلى الله عليه وسلم على بواطن كل من يتخاصم إليه، فيحكم بخفي ذلك ويخبر به، كما اتفق له في مواضع، كقصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة، وحديث فضالة بن
تَختَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعضَكُم أَن يَكُونَ أَلحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن بَعضٍ،
ــ
عمير (1)، وذلك: أنه أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت. قال: فلما دنوت منه قال: (أفضالة؟ ) قلت: نعم. قال: (ما كنت تحدث به نفسك؟ ) قلت: لا شيء، فضحك، وأخبرني بذلك، واستغفر لي، ووضع يده على صدري، فسكن قلبي (2). وغير ذلك من الوقائع التي أخبر بها، فوجدت كما أخبر. وكما قد اتفق ذلك للخضر في قصة السفينة، والغلام، والجدار، لكن إنَّما كان ذلك للأنبياء من جملة كراماتهم، ومعجزاتهم. ولم يجعل الله ذلك طريقًا عامًّا، ولا قاعدة كليَّة، لا لهم، ولا لغيرهم؛ لاستمرار العادة بأن ذلك لا يقع من غير الأنبياء، ولأنَّ وقوع ذلك من الأنبياء نادرٌ. وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. وقد شاهدت بعض الممخرقين، وسمعنا منهم: أنهم يعرضون عن القواعد الشرعية، ويحكمون بالخواطر القلبية؛ ويقول: الشاهد المتصل بي أعدل من الشاهد المنفصل عني. وهذه مَخرَقةٌ أبرزتها زندقة، يقتل صاحبها، ولا يستتاب من غير شكٍّ ولا ارتياب.
وهذا خير البشر صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذا الموطن: (إنَّما أنا بشرٌ) معترفًا بالقصور عن إدراك المغيبات، وعاملًا بما نصبه الله تعالى له من اعتبار الأيمان والبينات.
و(قوله: يأتيني الخصم) أي: الخصوم. فهو - هاهنا - للجنس. ويقال للواحد، والاثنين، والجمع، والمذكَّر، والمؤنث بلفظ واحد: خصم. كما قال تعالى: {وَهَل أَتَاكَ نَبَأُ الخَصمِ} ؛ أي: الخصوم، فإنَّه قال بعد ذلك:{إِذ تَسَوَّرُوا المِحرَابَ} .
و(قوله: ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجَّته من بعض) أي: أفصح
(1) في الأصول: عبيد، والتصويب من كتب التاريخ.
(2)
ذكره ابن هشام في السيرة (2/ 417)، وابن كثير في البداية والنهاية (4/ 308).
فَأَقضِيَ لَهُ عَلَى نَحو ما أَسمَعُ مِنهُ،
ــ
وأفطن. قال أبو زيد: لَحَنتُ له - بالفتح - أَلحَنُ لَحنًا: إذا قلت له قولًا يفهمه عنك، ويخفى على غيره. ولَحِنَهُ هو عَنِّي - بالكسر- يَلحَنهُ لَحنًا؛ أي: فَهِمَهُ. وأَلحَنتُه أنا إيَّاه، ولاحَنتُ النَّاس؛ أي: خاطبتهم (1). كما قال الشاعر (2):
ولقد لحنت (3) إليكم كي تفهموا
…
ولحنت لحنًا ليس بالمرتاب
وقال غير أبي زيد: اللَّحن - بالتحريك -: الفِطنَة. وقد لَحِنَ -بالكسر- قاله الجوهري.
قلت: وعلى هذا: يقال فيه بمعنى الفطنة: بفتح الماضي وكسره، وفي المصدر: بفتح الحاء وإسكانها.
ويقال: اللَّحن، على الخطأ في القول، وعلى تلحين الشعر، وعلى القصد إلى الشيء، والإشارة إليه.
قلت: وقد جاء هذا اللفظ مفسَّرًا في الرواية الأخرى، فقال:(فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض) أي: أكثر بلاغة، وإيضاحًا لحجَّته.
و(قوله: فأقضي له على نحو ما أسمع منه)، يتمسَّك به من قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء من الأشياء [إلا بما يعلمه في مجلس حكمه](4). ووجه تمسُّكه: أن كلامه صلى الله عليه وسلم يفضي إلى أنَّه لا يحكم إلا بما سمع في حال حكمه. وقد رُوي هذا الحرف: (إنما أحكم بما أسمع)، و (إنما) للحصر. فكأنه قال: لا أحكم إلا بما أسمع.
(1) كذا في الأصول، وفي اللسان والصحاح والقاموس: فاطنتهم.
(2)
هو القتال الكلابي.
(3)
كذا في (ل 1) و (م 3) و (ع). وفي (م 1) و (م 2): وحيت.
(4)
ما بين حاصرتين سقط من (م 1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد اختلف في هذا. فقال مالك في المشهور عنه: إن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء. وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، والشعبي، وروي عن شريح، وذهبت طائفة: إلى أنَّه يقضي في كل شيء من الأموال والحدود وغير ذلك مطلقًا. وبه قال أبو ثور ومن تبعه، وهو أحد قولي الشافعي. وذهبت طوائف إلى التفريق. فقالت طائفة: يقضي بما سمعه في مجلس قضائه خاصة، لا قبله، ولا في غيره؛ إذا لم تحضر مجلسه بيِّنة، وفي الأموال خاصة. وبه قال الأوزاعي، وجماعة من أصحاب مالك، وحكوه عنه. وقالت طائفة: يحكم بما سمعه في مجلس قضائه، وفي غيره، لا قبل قضائه، ولا في غير مِصرِه في الأموال خاصة، وبه قال أبو حنيفة. وقالت طائفة: إنَّه يقضي بعلمه في الأموال خاصة، سواء سمع ذلك في مجلس قضائه وفي غيره، قبل ولايته أو بعدها. وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وهو أحد قولي الشافعي. وذهب بعض أصحابنا: إلى أنَّه يقضي بعلمه في الأموال، والقذف خاصة، ولم يشترط مجلس القضاء. واتفقوا: على أنَّه يحكم بعلمه في الجرح والتعديل؛ لأنَّ ذلك ضروري في حقِّه.
والصحيح: الأول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث هلال بن أمية، لَمَّا لاعن زوجته:(أبصروه؛ فإن جاءت به - يعني: الولد - على نعت كذا؛ فهو لهلال، وإن جاءت به على نعت كذا؛ فهو لشريك). فجاءت به على النعت المكروه. وقال: (لو كنت راجمًا بغير بيِّنة لرجمت هذه)(1)، فلم يحكم بعلمه، لعدم قيام البينة. وعند المخالف: يجب أن يرجمها إذا علم ذلك. قاله عبد الوهاب. فهذا ظاهرٌ قوي في الحدود. وأمَّا في غيرها فيدلّ عليه حديث خزيمة، حيث اشترى النبي صلى الله عليه وسلم من أعرابي بعيرًا، فمشى معه ليعطيه ثمنه، فعرض للأعرابي من زاده في الثمن، فأراد
(1) رواه أحمد (5/ 334)، والبخاري (2671)، وأبو داود (2224)، والترمذي (3178)، وابن ماجه (2067).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أن يبيعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قد بعته مني)، فأنكر الأعرابي وقال: من يشهد لك؟ فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم من يشهد، فشهد خزيمة (1). فهذا النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه حتى قامت الشهادة. ولا ينفصل عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لأن الحق كان له، ولا يشهد أحدٌ لنفسه، ولا يحكم لها، ولأنَّه لا يُعطَى أحد بدعواه، ولأنه قصد قطع حجَّة الأعرابي لما طلب منه الشهادة؛ لأنَّا نقول: إنَّما اعتبر ذلك كلَّه في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم لإمكان ادِّعاء الباطل والكذب، وإرادة أخذ مال الغير، ودفعه عن حقِّه. وكل ذلك معدومٌ في حق النبي صلى الله عليه وسلم قطعًا. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للمنافقين:(أَيَأمَنُنِي الله تعالى على خزائنه ولا تأمنوني، والله! إني لأمين من في السماء)(2).
وأمَّا قوله: إنما فعله لقطع حجَّة الخصم. فإنَّه باطل؛ إذ لا حجَّة له، ولا لغيره، على خلاف ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. فإن هذا الأعرابي إن كان مسلمًا؛ فقد علم صدق النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان كافرًا؛ فلا مبالاة بقوله؛ إذ قد قام دليل على صدقه، وعلمه العقلاء، كما لم يُبال بقول من كذَّبه من الكُفَّار، ولا بقول الذي اتهمه في القسمة؛ حيث قال: يا محمد! اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله (3).
ومن أوضح ما يدلّ على المطلوب، وأصحُّهُ حديث أبي جهم؛ حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقًا، فلاحاه رجلان، فشجَّهما، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم يطلبان القصاص، فبذل لهما مالًا، فرضيا به، فقال:(إني أخطُبُ الناس، وأذكُرُ لهم ذلك، أفرضيتما؟ ) قالا: نعم. فخطب الناس ثم قال: (أرضيتما؟ ) قالا: لا. فهمَّ بهما المهاجرون والأنصار، فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ نزل فزادهما، فرضيا، ثم صعد
(1) رواه أبو داود (3607).
(2)
رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064).
(3)
رواه أحمد (1/ 411 و 441)، والبخاري (3405)، ومسلم (1062)(141).
فَمَن قَطَعتُ لَهُ مِن حَقِّ أَخِيهِ شَيئًا، فَلَا يَأخُذهُ، فَإِنَّمَا أَقطَعُ لَهُ بِهِ قِطعَةً مِن النَّارِ.
ــ
المنبر فقال: (أرضيتما؟ ) قالا: نعم (1).
وموضع الحجَّة: أنَّه لم يحكم عليهما بعلمه لما جحدا. وهو المطلوب. ذكره أبو داود من حديث عائشة. وهو صحيح. وذكر: [أن المشجوج إنَّما كان رجلًا واحدًا، وقد ذكر](2) غيره: أنهما كانا اثنين. وحاصل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه تعليمًا لأمته (3)، وسعيًا في سدِّ باب التُّهم، والظنون. والله تعالى أعلم.
و(قوله في الرواية الأخرى: فأحسب (4) أنَّه صادق) دليل على العمل بالظنون وبناء الأحكام عليها. وهو أمرٌ لم يختلف فيه في حق الحاكم والمفتي.
و(قوله: فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه) نصٌّ في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغيِّر حكم الباطن. وسواء كان ذلك في الدِّماء، والأموال، والفروج. وهو قول الكافة، إلا ما حكي عن أبي حنيفة من أن حكم الحاكم يغير حكم الباطن في الفروج خاصة. وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته، وحكم الحاكم بشهادتهما، فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن يعلم: أن القضيِّة باطل، وقد شنع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال، ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة في الباطن، ولم يصن الفروج عن ذلك. والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان.
و(قوله: فإنَّما أقطع له قطعة من النار) أي: ما يأخذه بغير حقه سببٌ يوصل آخذه إلى النَّار. وهو تمثيل يفهم منه شدة العذاب والتنكيل.
(1) رواه أحمد (6/ 232)، وأبو داود (4534)، والنسائي (8/ 35)، وابن ماجه (2638).
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ج 2).
(3)
من (ج 2).
(4)
في (ع) و (ل 1): فأحسبه.
وفي رواية: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّما يَأتِينِي الخَصمُ، فَلَعَلَّ بَعضَكم أَن يَكُونَ أَبلَغَ مِن بَعضٍ، فَأَحسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَأَقضِي لَهُ، فَمَن قَضَيتُ لَهُ بِحَقِّ مُسلِمٍ، فَإِنَّمَا هِيَ قِطعَةٌ مِن النَّارِ، فَليَحمِلهَا أَو يَذَرهَا.
رواه البخاريُّ (2458)، ومسلم (1713)(4 و 5)، وأبو داود (3583)، والترمذيُّ (1339)، والنسائي (8/ 233).
[1806]
وعَن عَائِشَةَ قَالَت: جَاءَت هِندٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ! ومَا كَانَ عَلَى ظَهرِ الأَرضِ أَهلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَن يُذِلَّهُم اللَّهُ مِن أَهلِ خِبَائِكَ، وَمَا عَلَى ظَهرِ الأَرضِ أَهلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِن أَن يُعِزَّهُم اللَّهُ مِن أَهلِ خِبَائِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَأَيضًا، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ. ثُمَّ قَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَا سُفيَانَ رَجُلٌ مُمسِكٌ - وفي أخرى: مسيك - فَهَل عَلَيَّ حَرَجٌ أَن أُنفِقَ عَلَى عِيَالِهِ مِن مَالِهِ بِغَيرِ إِذنِهِ؟ فَقَالَ
ــ
و(قوله: فليحملها أو يذرها) لفظه: لفظ الأمر، ومعناه: التهديد، والوعيد.
و(قول هند: يا رسول الله! والله ما كان على ظهر الأرض أهل خباءٍ) أي: أهل بيت، كما قد جاء مفسَّرًا في بعض طرقه، وسُمِّي البيت: خباءً؛ لأنَّه يخبَّأ ما فيه. والخباء في الأصل: مصدر. تقول: خبأتُ الشيء خَبئا، وخِبَاءً. ووصف هند في هذا الحديث حالها في الكفر، وما كانت عليه من بغض رسول الله صلى الله عليه وسلم وبغض أهل بيته، وما آلت إليه حالها لما أسلمت، تذكر لنعمة الله عليها بما أنقذها الله منه، وبما أوصلها إليه، وتعظيم لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتنبسط فيما تريد أن تسأل عنه، ولتزول آلام القلوب لما كان منها يوم أحد في شأن حمزة وغير ذلك.
و(قولها: إن أبا سفيان رجل ممسك)، وفي أخرى:(مسيك). وكلاهما بمعنى: شحيح، كما جاء في الرواية الأخرى. ولم ترد: أنه شحيح مطلقًا، فتذمُّه
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا حَرَجَ عَلَيكِ أَن تُنفِقِي عَلَيهِم بِالمَعرُوفِ.
وفي رواية: فَقَالَت: إِنَّ أَبَا سُفيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، ولَا يُعطِينِي مِن النَّفَقَةِ مَا يَكفِينِي وَيَكفِي بَنِيَّ، إِلَّا مَا أَخَذتُ مِن مَالِهِ بِغَيرِ عِلمِهِ، فَهَل عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِن جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مِن مَالِهِ بِالمَعرُوفِ مَا يَكفِيكِ وَيَكفِي بَنِيكِ.
رواه أحمد (6/ 39)، والبخاريُّ (2211)، ومسلم (1714)(7 و 8)، وأبو داود (3532)، والنسائي (8/ 246)، وابن ماجه (2293).
* * *
ــ
بذلك؛ وإنما وصفت حاله معها، فإنَّه كان يقتر عليها، وعلى أولادها، كما قالت:(لا يعطيني وبني ما يكفيني)، وهذا لا يدلّ على البخل مطلقًا، فقد يفعل الإنسان مع أهل بيته، لأنه يرى غيرهم أحوج، وأولى، ليعطي غيرهم. فعلى هذا: فلا يجوز أن يُستدل بهذا الحديث على أن أبا سفيان كان بخيلًا، فإنه لم يكن معروفًا بهذا.
و(مسيك): يروى بفتح الميم، وكسر الشين، وتخفيفها. وبكسر الميم، وتشديد السين مكسورة. وكلاهما للمبالغة. الأول: كعليم، وكبير. والثاني: كسكِّير، وخِمِّير.
و(قوله صلى الله عليه وسلم لهندٍ: وأيضًا؛ والذي نفسي بيده) أي: سيتمكَّن الإيمان من قلبك، ويزيد حبُّك لله ولرسوله، ويقوى رجوعك عن بغضه. وأصل (أيضًا): أنه مصدر: آضَ إلى (1) كذا، يَئِيضُ، أيضًا، أي: رجع رجوعًا.
و(قوله: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك، ويكفي بنيك)، هذا الأمر على جهة الإباحة؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى: (لا جناح عليك أن تنفقي
(1) ليست في (ع) و (ل 1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عليهم بالمعروف). ويعني بالمعروف: القدر الذي عرف بالعادة أنه كفاية، وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظًا فهي مقيدة معنى، فكأنه قال: إن صحَّ أو ثبت ما ذكرت فخذي.
وفي هذا الحديث أبواب من الفقه:
فمنها: وجوب نفقة الزوجة والأولاد على أبيهم، وإن لأمهم طلب ذلك عند الحاكم، وسماع الدعوى على الغائب، والحكم عليه، وإن كان قريب الغَيبَة؛ إذا دعت حاجة الوقت إلى ذلك. وهو قول الجمهور. وقال الكوفيون: لا يقضى عليه بشيء.
وفيه دليل: على أن النفقة ليست مقدَّرة بمقدار مخصوص؛ وإنما ذلك بحسب الكفاية المعتادة، خلافًا لمن ذهب: إلى أنَّها مقدَّرة.
وفيه دليل: على اعتبار العرف في الأحكام الشرعية خلافًا للشافعية وغيرهم من المنكرين له لفظًا، الآخذين به عملًا.
وقد استنبط البخاري منه: جواز حكم الحاكم بعلمه فيما اشتهر وعرف. فقال: باب حكم الحاكم بعلمه إذا لم يخف الظنون والتُّهم، وكان أمرًا مشهورًا، وقد تقدم.
وفيه دليل: على أن من تعذر عليه أخذ حقّه من غريمه، ووصل من مال الغريم إلى شيء؛ كان له أخذه بأي وجه توصل إليه. واختلف فيما إذا ائتمنه الغريم على مال، فهل يأخذ منه حقَّه أم لا؟ على قولين. حكاهما الداودي عن مالك. ومشهور مذهبه المنع. وبه قال أبو حنيفة تمسُّكًا بقوله صلى الله عليه وسلم:(أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)(1)، وإلى الإجازة ذهب الشافعي، وابن المنذر،
(1) رواه أحمد (3/ 414)، وأبو داود (3534)، والترمذي (1264).