الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(9) باب لكل داء دواء، والتداوي بالحجامة
[2143]
عَن جَابِرٍ، عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ،
ــ
. . . . . . . . . .
…
تاحَ لها بَعدك خِنزابٌ وزَى (1)
والوزى: الشديد. فيمكن أن يُسمَّى الشيطان خنزبًا لأنَّه يتراءى غليظًا قصيرًا، وحذفت الألف لما صار علمًا، فكثيرًا ما تغيَّر الأعلام عن أصولها.
(9)
ومن باب: لكل داء دواء، وفي التداوي بالحجامة
قوله لكل داء دواء، الدَّاء بفتح الدَّال لا غير، والدَّواء تفتح داله وتكسر، والفتح أفصح. وهذه الكلمة صادقة العموم لأنها خبر من الصادق البشير عن الخالق القدير:{أَلا يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} فالدَّاء والدَّواء خَلقه، والشِّفاء والهلاك فعله، وربط الأسباب بالمسببات حِكمته وحُكمه على ما سبق به علمه، فكل ذلك بقدر لا مَعدِل عنه ولا وزر، وما أحسن قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما خرَّجه الترمذي عن أبي خزامة بن يعمر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقًى نسترقيها ودواء نتداوى به؛ هل تردُّ من قدر الله شيئًا؟ قال: هي من قدر الله (2). قال: هذا حديث حسن صحيح. وكفى بهذا بيان، لكن للبصراء لا للعميان.
(1) هذا عجز البيت، وصدره: قدْ أَبْصَرَت سَجَاحِ من بعدِ العَمَى. وقائله: الأغلب العجليُّ يهجو سجاح. وجاء في حاشية اللسان مادة "وزى" قوله: خنزاب، بالخاء المعجمة. كذا بالطبعات جميعها وهو تحريف، صوابه: حنزاب، بالحاء المهملة، كما في الصحاح والتهذيب، والحنزاب: القصير، الغليظ.
(2)
رواه الترمذي (2065 و 2148).
فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذنِ اللَّهِ.
رواه أحمد (3/ 335)، ومسلم (2204).
[2144]
وعَن عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قَتَادَةَ قَالَ: جَاءَنَا جَابِرُ بنُ عَبدِ اللَّهِ فِي أَهلِنَا وَرَجُلٌ يَشتَكِي خُرَاجًا بِهِ أَو جِرَاحًا، فَقَالَ: مَا تَشتَكِي؟ قَالَ: خُرَاجٌ بِي قَد شَقَّ عَلَيَّ! فَقَالَ: يَا غُلَامُ، ائتِنِي بِحَجَّامٍ! فَقَالَ لَهُ: مَا تَصنَعُ بِالحَجَّامِ يَا أَبَا عَبدِ اللَّهِ؟ قَالَ: إني أُرِيدُ أَن أُعَلِّقَ فِيهِ مِحجَمًا. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ الذُّبَابَ لَيُصِيبُنِي، أَو يُصِيبُنِي الثَّوبُ فَيُؤذِينِي وَيَشُقُّ عَلَيَّ! فَلَمَّا رَأَى تَبَرُّمَهُ
ــ
وقوله فإذا أصيب دواء الدَّاء برأ بإذن الله، ومعناه أن الله تعالى إذا شاء الشِّفاء يسَّر دواء ذلك الدَّاء ونبَّه عليه مستعمله فيستعمله على وجهه وفي وقته فيشفى ذلك المرض، وإذا أراد إهلاك صاحب المرض أذهل عن دوائه أو حجبه بمانع يمنعه فهلك صاحبه، وكلُّ ذلك بمشيئته وحكمه كما سبق في علمه، ولقد أحسن من الشعراء من قال في شرح الحال:
والنَّاس يلحَون الطَّبيب وإنَّما
…
غَلَطُ الطَّبيبِ إصابةُ المَقدُور
وقد خرَّج أبو داود هذا الحديث وحديث أسامة بن شريك، وقال فيه: إنَّه صلى الله عليه وسلم قال يا عباد الله، تداووا! فإنَّ الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داءٍ واحد: الهرم (1)، فاستثنى الهرم من جملة الأدواء وإن لم يكن داء بنفسه، لكن تلازمه الأدواء، وهو مُفضٍ بصاحبه إلى الهلاك. وهذا نحو من قوله في الحديث الآخر: كفى بالسَّلامة داء (2)؛ أي: مصير السلامة إلى الدَّاء، وكما قال حميد بن ثور:
أَرَى بَصَرِي قد رابَني بَعد صِحَّةٍ
…
وَحَسبُك داءً أن تصحَّ وتَسلما
(1) رواه أبو داود (3855).
(2)
رواه القضاعي في مسند الشهاب رقم (861).
مِن ذَلِكَ قَالَ: إِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِن كَانَ فِي شَيءٍ مِن أَدوِيَتِكُم خَيرٌ فَفِي شَرطَةِ مِحجَمٍ أَو شَربَةٍ مِن عَسَلٍ أَو لَذعَةٍ بِنَارٍ. قَالَ
ــ
وقوله صلى الله عليه وسلم إن كان في أدويتكم خيرٌ ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعةٍ بنار؛ يعني بالخير الشِّفاء، والمحجم: هو الوعاء الذي يجمع به موضع الحجامة ويجتمع فيه الدَّم، وهو جمع واحده محجمة، وهي بكسر الميم، وقد يقال على الحديدة التي يشرط بها وهي المعنية هنا.
وجاء هذا الحديث هنا بصيغة الاشتراط من غير تحقيق الأخبار، وقد جاء في البخاري من حديث ابن عباس مرفوعًا الشِّفاء في ثلاث (1) وذكرها، فحقَّق الخبر.
قال بعض علمائنا: أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع ضروب المعاناة القياسيِّة، وذلك أن العلل منها ما يكون مفهوم السبب ومنها ما لا يكون كذلك، فالأول كغلبة أحد الأخلاط التي هي الدم والبلغم والصفراء والسَّوداء، فمعالجة ذلك باستفراغ ذلك الامتلاء بما يليق به من تلك الأمور المذكورات في الحديث، فمنها ما يستفرغ بإخراج الدَّم بالشَّرط وفي معناه الفصد والبطُّ والعلق، ومنها ما يستفرغ بالعسل وما في معناه من الأدوية المسهِّلة، ومنها ما يستفرغ بالكي فإنه يجفف رطوبات موضع المرض وهو آخر الطبِّ.
وأما ما كان من العلل عن ضعف قوة من القوى فعلاجه بما يقوي تلك القوة من الأشربة، ومن أنفعها في ذلك العسل إذا استعمل على وجهه، وأما ما كان من العلل غير مفهوم السبب فكالسِّحر والعين ونظرة الجن فعلاجه بالرُّقى والكلام الحسن وأنواع من الخواص مغيبة السِّرِّ، ولهذا القسم أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه أنه زاد في هذا الحديث أو آية من كتاب الله زيادة على ما ذكر فيما تقدَّم منه.
(1) رواه البخاري (5680 و 5681).
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا أُحِبُّ أَن أَكتَوِيَ! قَالَ: فَجَاءَ بِحَجَّامٍ فَشَرَطَهُ، فَذَهَبَ عَنهُ مَا يَجِدُ.
وفي رواية قَالَ: لَا أَبرَحُ حَتَّى تَحتَجِمَ؛ فَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ فِيهِ شِفَاءً.
رواه أحمد (3/ 335)، والبخاريُّ (5697)، ومسلم (2205)(70 و 71).
ــ
قلت: هذا معنى ما قاله علماؤنا، ويمكن أن يقال: إن هذه المذكورات في هذا الحديث إنما خصَّت بالذكر لأنَّها كانت أغلب أدويتهم وأنفع لهم من غيرها بحكم اعتيادهم لها ومناسبتها لغالب أمراضهم، ولا يلزم أن تكون كذلك في حق غيرهم ممن يخالفهم في بلادهم وعاداتهم وأهويتهم، ومن المعلوم بالمشاهدة اختلاف العلاجات والأدوية بحسب اختلاف البلاد والعادات وإن اتحدت أسباب الأمراض، والله تعالى أعلم.
وقوله وما أحبُّ أن أكتوي، وفي لفظ البخاري وأنا أنهى أمتي عن الكي - إنما كان ذلك لشدَّة ألم الكي فإنَّه يُربي على ألم المرض، ولذلك لا يرجع إليه إلا عند العجز عن الشفاء بغيره من الأدوية. وأيضًا: فلأنَّه يشبه التعذيب بعذاب الله الذي نُهي عنه، وقد تقدَّم القول في هذا في الإيمان.
واستئذان أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة دليل على أن المرأة لا ينبغي لها أن تفعل في نفسها شيئًا من التداوي أو ما يشبهه إلا بإذن زوجها لإمكان أن يكون ذلك الشيء مانعًا له من حقه أو منقصًا لغرضه منها، وإن كانت لا تشرع في شيء من التطوَّعات التي يتقرَّب بها إلى الله تعالى إلا بإذنٍ منه كان أحرى وأولى ألا تتعرَّض لغير القرب إلا بإذنه، اللهم إلا أن تدعو لذلك ضرورة من خوف موت أو مرض شديد فهذا لا يحتاج فيه إلى إذن؛ لأنَّه قد التحق بقسم الواجبات
[2145]
وعَن جَابِرٍ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ استَأذَنَت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الحِجَامَةِ، فَأَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَبَا طَيبَةَ أَن يَحجُمَهَا. قَالَ: حَسِبتُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَخَاهَا مِن الرَّضَاعَةِ، أَو غُلَامًا لَم يَحتَلِم.
رواه أحمد (3/ 350)، ومسلم (2206)، وأبو داود (4105)، وابن ماجه (3408).
* * *
ــ
المتعينة.
وأيضًا: فإنَّ الحجامة وما يتنزل منزلتها مما يحتاج فيها إلى محاولة الغير، فلا بدَّ فيها من استئذان الزوج لنظره فيمن يصلح وفيما يحلُّ من ذلك، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طيبة أن يحجمها لما علم أن بينهما من السبب المبيح، كما قال الرَّاوي: حسبت أنه كان أخاها من الرَّضاعة، أو غلامًا لم يحتلم. ولا شكَّ في أن مراعاة هذا هي الواجبة متى وجد ذلك، فإنَّ لم يوجد من يكون كذلك ودعت الضرورة إلى معالجة الكبير الأجنبي جاز دفعًا لأعظم الضررين وترجيحًا لأخف الممنوعين.
وفيه من الفقه ما يدلّ على أن ذا المحرم يجوز أن يطَّلع من ذات محرمه على بعض ما يحرم على الأجنبي، وكذلك الصبي، فإن الحجامة غالبًا إنما تكون من بدن المرأة فيما لا يجوز لأجنبي الاطلاع عليه كالقفا والرَّأس والساقين.
* * *