الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(16) باب كراهية الستر فيه تماثيل وهتكه وجعله وسائد وكراهية كسوة الجدر
[2018]
عَن أَبِي طَلحَةَ الأَنصَارِيِّ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تَدخُلُ المَلَائِكَةُ بَيتًا فِيهِ كَلبٌ وَلَا صورة تَمَاثِيلَ. قَالَ: فَأَتَيتُ عَائِشَةَ فَقُلتُ: فَهَل سَمِعتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ ذَلِكَ؟ فَقَالَت: لَا، وَلَكِن سَأُحَدِّثُكُم مَا رَأَيتُهُ فَعَلَ، رَأَيتُهُ خَرَجَ فِي غَزَاةٍ، فَأَخَذتُ نَمَطًا
ــ
الترجيح، ولا شك في ترجيح حديث مسلم، فالتمسك به على ما قررناه أولا، والله تعالى أعلم.
(16)
ومن باب كراهة الستر الذي فيه التماثيل وهتكه
حديث عائشة كثرت رواياته، واختلفت ألفاظه حتى يتوهم: أنه مضطرب، وليس كذلك؛ لأنَّه ليس فيه تناقض، وإنَّما كانت القضية مشتملة على كل ما نقل من الكلمات، والأحوال المختلفة، لكن نقل بعض الرواة ما سكت عنه غيرهم، وعبَّر كل منهم بما تيسَّر له من العبارة عن تلك القضية. ويجوز أن يصدر مثل ذلك الاختلاف من راوٍ واحد في أوقات مختلفة، ولا يُعد تناقضًا، فإنَّه إذا جمعت تلك الروايات كلها؛ انتظمت وكملت الحكاية عن تلك القضية. وعلى هذا النحو وقع ذكر اختلاف كلمات القصص المتحدة في القرآن، فإنَّه تعالى يذكرها في مواضع وجيزة، وفي آخر مطوَّلة، ويأتي بالكلمات المختلفة الألفاظ مع اتفاقها على المعنى، فلا ينكر مثل هذا في الأحاديث.
وقولها: (فأخذت نمطًا فسترته على الباب) هذا النمط هو الذي عبَّر عنه في الرواية الأخرى بـ (الدَّرنوك) ويقال بضم الدَّال، وفتحها، وهو: الستر الذي
فَسَتَرتُهُ عَلَى البَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ فَرَأَى النَّمَطَ عَرَفتُ الكَرَاهِيَةَ فِي وَجهِهِ،
ــ
كان فيه تماثيل الخيل ذوات الأجنحة. و (الباب) يراد به هنا: باب السهوة المذكورة في الرِّواية الأخرى، وهي: بيت صغير يشبه المخدع. وقال الأصمعي: هي شبه الطاق، يجعل فيه الشيء. وقيل: شبه الخزانة الصغيرة. وهذه الأقوال متقاربة.
وقولها: (سترته على الباب) أي: سترت به الباب. أو جعلته سترا على الباب.
وقولها: (فلما رأى النمط عرفت الكراهية في وجهه) إنما عرفت الكراهية في وجهه؛ لأنَّه تلوَّن وجهه، ووقف ولم يدخل، كما جاء في الطريق الآخر. ولما رأت تلك الحال خافت، فقدَّمت في اعتذارها التوبة، ثمَّ سألت عن الذنب، فإنَّها لم تعرفه، فعند ذلك جبذ النمط، فهتكه، فحصل من مجموع هذه القرائن: أن اتخاذ الثياب التي فيها التماثيل محرَّم، رقمًا كان فيها، أو صبغا. وهو مذهب ابن شهاب، فإنَّه منع الصور على العموم واستعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، رقمًا كانت أو غيره، في ثوب، أو حائط، يمتهن، أو لا يمتهن؛ تمسُّكًا بعمومات هذا الباب، وبما ظهر من هذا الحديث. وذهب آخرون: إلى جواز كل ما كان رقمًا في ثوب، يمتهن أو لا. معلقًا كان أو لا. وهو مذهب القاسم بن محمد تمسُّكًا بحديث زيد بن خالد حين قال:(إلا ما كان رقما في ثوب) وذهب آخرون: إلى كراهة ما كان منها معلَّقًا، وغير ممتهن؛ لأنَّ ذلك مضاهاة لمن يعظم الصور، ويعبدها كالنصارى، وكما كانت الجاهلية تفعل.
والحاصل من مذاهب العلماء في الصور: أن كل ما كان منها ذا ظل، فصنعته، واتخاذه حرام، ومنكر يجب تغييره. ولا يختلف في ذلك إلا ما ورد في لعب البنات لصغار البنات، وفيما لا يبقى من الصور، كصور الفخار، ففي كل واحد منهما قولان، غير أن المشهور في لعب البنات، جواز اتخاذها للرخصة في
فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ أَو قَطَعَهُ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَم يَأمُرنَا أَن نَكسُوَ الحِجَارَةَ وَالطِّينَ.
ــ
ذلك، لكن كره مالك شراء الرجل لها لأولاده؛ لأنَّه ليس من أخلاق أهل المروءات والفضل، غير أن المشهور فيما لا يبقى: المنع. وأما ما كان رقمًا، أو صبغًا مما ليس له ظل: فالمشهور فيه الكراهة.
وقولها: (فجذبه حتى هتكه) يدل على أن ما صنع على غير الوجه المشروع لا مالية له، ولا حرمة، وأن من كسر شيئًا منها، وأتلف تلك الصورة لم يلزمه ضمان.
و(قوله: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين) يفهم منه: كراهة ستر الحيطان بالستر؛ لأنَّ ذلك من السَّرف، وفضول زهرة الدنيا؛ التي نهى الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمد عينيه إليها بقوله تعالى:{وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلَى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا} ولذلك قال في الرواية الأخرى: (فإني كلما دخلت ذكرت الدنيا) وهذا الستر هو الذي كان يصلِّي إليه، وكانت صوره تعرض في صلاته، كما قال البخاري:(فإنَّه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي).
ويفيد مجموع هذه الروايات: أن هتك هذا السِّتر إنما كان بعد تكرار دخول النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته له، وصلاته إليه، فلما بين له حكمه امتنع مرَّة (1) من دخول البيت حتى هتكه. وقد فعل سلمان الفارسي رضي الله عنه نحو هذا لما تزوَّج الكندية، وجاء ليدخل بها، فوجد (2) حيطان البيت قد سترت، فلم يدخل، وقال منكرًا لذلك:(أمحموم بيتكم! أم تحوَّلت الكعبة في كندة) فأزيل كل ذلك. ودعا ابن عمر أبا أيوب، فرأى سترًا على الجدار. فقال: ما هذا؟ فقال: غلبنا عليه النساء، فقال: من كنت أخشى عليه، فلم أكن أخشى عليك، والله لا أطعم لك
(1) زيادة من (ل 1) و (م 2).
(2)
في (ل 1): فرأى.
قَالَت: فَقَطَعنَا مِنهُ وِسَادَتَينِ وَحَشَوتُهُمَا لِيفًا، فَلَم يَعِب ذَلِكَ عَلَيَّ.
وفي رواية: قالت عائشة: فكان يرتفق عليهما.
رواه مسلم (2106)(87) و (2107)، وأبو داود (4154).
ــ
طعامًا! فرجع. ذكره البخاري (1).
وقد أفاد حديث عائشة رضي الله عنها المنع من ستر حيطان البيوت، ومما يجر إلى الميل إلى زينة الدنيا، ومن اتخاذ الصور المرقومة، ومن الصلاة إلى ما يشغل عنها.
وقول عائشة: (فقطعنا منه وسادتين حشوتهما ليفًا) يحتمل أن يكون هذا التقطيع أزال شكل تلك الصور، وأبطلها، فيزول الموجب للمنع، ويحتمل أن تكون تلك الصور، أو بعضها باقيًا، لكنها لما امتهنت بالقعود عليها سامح فيها. وقد ذهب إلى كل احتمال منهما طائفة من العلماء. والحق: أن كل ذلك محتمل، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر، ولا معيِّن لأحدهما، فلا حجَّة في الحديث على واحد منهما، وإنما الذي يفيده هذا الحديث: جواز اتخاذ النَّمارق، والوسائد في البيوت.
وقول عائشة: (أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير) يجوز أن تكون أرادت بالنمرقة هنا: الستر الذي تقدَّم ذكره، وسمته: نمرقة؛ لأنَّه آل أمره إلى النمرقة، كما يُسمى العنب خمرًا بمآله. والنَّمارق في أصل الوضع: الوسائد، والمرافق، ومنه قوله تعالى:{وَنَمَارِقُ مَصفُوفَةٌ} . وقال الشاعر:
كهول وشبان حسان وجوههم
…
على سرر مصفوفة ونمارق
غير أن هذا التأويل يبعده قولها في بقية الخبر، لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما
(1) رواه البخاري (9/ 249) تعليقًا.
[2019]
وعَن عَائِشَةَ قَالَت: كَانَ لَنَا سِترٌ فِيهِ تِمثَالُ طَائِرٍ - وفي رواية: دُرنُوكًا فِيهِ الخَيلُ ذَوَاتُ الأَجنِحَةِ - وَكَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ استَقبَلَهُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: حَوِّلِي هَذَا، فَإِنِّي كُلَّمَا دَخَلتُ فَرَأَيتُهُ ذَكَرتُ الدُّنيَا. قَالَت: وَكَانَت لَنَا قَطِيفَةٌ كُنَّا نَقُولُ عَلَمُهَا حَرِيرٌ، فَكُنَّا نَلبَسُهَا.
رواه أحمد (6/ 49 و 53)، ومسلم (2107)(88 و 90).
[2020]
وعنها: أَنَّها كَانَ لَهَا ثَوبٌ فِيهِ تَصَاوِيرُ مَمدُودٌ إِلَى سَهوَةٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَيها؛ فَقَالَ: أَخِّرِيهِ عَنِّي. قَالَت: فَأَخَّرتُهُ، فَجَعَلتُهُ وَسَائِدَ.
رواه مسلم (2107)(93).
[2021]
وعنها: أَنَّهَا اشتَرَت نُمرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى البَابِ فَلَم يَدخُل، فَعَرَفتُ أَو فَعُرِفَت فِي وَجهِهِ
ــ
بال هذه النَّمرقة؟ ) فقالت مجيبة: اشتريتها لك، تقعد عليها، وتوسدها. فهذا يصرح بأن هذه النَّمرقة غير الستر، وأن هذا حديث آخر غير ذلك، وحينئذ يستفاد منه: أن الصور لا يجوز اتخاذها في الثياب، وإن كانت ممتهنة. وهو أحد القولين كما قدمناه.
و(قوله (1): وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير، فكنا نلبسها) القطيفة: كساء له زئبر (2). وفيه دليل على جواز لباس الثوب فيه العلم من الحرير، وقد تقدم القول فيه. ولم يرد في شيء من الأحاديث أن هذا الثوب الذي كنَّي عنه بالدرنوك،
(1) كذا في جميع النسخ، والأولى أن يُقال:(وقولها).
(2)
"الزئبر": ما يحلو الثوب الجديد، مثل ما يعلو الخزّ.