الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(14) باب اجتناب ما يوقع في التهم ويجر إليه
[2085]
عَن صَفِيَّةَ بِنتِ حُيَيٍّ قَالَت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعتَكِفًا - وفي رواية: في المسجد في العشر الأواخر من رمضان - فَأَتَيتُهُ أَزُورُهُ لَيلًا، فَحَدَّثتُهُ،
ــ
بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جمع الناس، وصعد المنبر، فنهاهم عن ذلك، وعلمهم ما يجوز منه فقال:(لا يدخلن رجل على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان) سدًّا لذريعة الخلوة، ودفعًا لما يؤدِّي إلى التهمة. وإنَّما اقتصر على ذكر الرَّجل والرَّجلين لصلاحية أولئك القوم؛ لأنَّ التهمة كانت ترتفع بذلك القدر. فأما اليوم: فلا يكتفى بذلك القدر، بل بالجماعة الكثيرة لعموم المفاسد، وخبث المقاصد، ورحم الله مالكًا، لقد بالغ في هذا الباب حتى منع فيه ما يجرّ إلى بعيد التهم والارتياب (1)؛ حتى منع خلوة المرأة بابن زوجها، والسفر معه، وإن كانت محرَّمة عليه؛ لأنَّه ليس كل أحد يمتنع بالمانع الشرعي؛ إذا لم يقارنه مانع عادي، فإنَّه من المعلوم الذي لا شك فيه: أن موقع امتناع الرجل من النظر بالشهوة لامرأة أبيه (2) ليس كموقعه منه لأمه وأخته. هذا قد استحكمت عليه النفرة العادية، وذلك قد أنست به النفس الشهوانية، فلا بدَّ مع المانع الشرعي في هذا من مراعاة الذرائع الحاليَّة (3).
(14)
ومن باب: اجتناب التهم وما يجر إليها
قد تقدَّم الكلام على الاعتكاف لغة وشرعًا في كتابه.
قول صفية رضي الله عنها: (فأتيته أزوره ليلًا، فحدَّثته) دليل على جواز
(1) ما بين حاصرتين سقط من (ل 1).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من (ل 1).
(3)
في (ل 1): العاديَّة.
ثُمَّ قُمتُ لِأَنقَلِبَ، فَقَامَ مَعِيَ لِيَقلِبَنِي، وَكَانَ مَسكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بنِ زَيدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِن الأَنصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنتُ حُيَيٍّ،
ــ
زيارة المعتكف، والتحدُّث معه، غير أنه يكره الإكثار من ذلك؛ لئلا يشتغل عما دخل إليه من التفرُّغ لعبادة الله تعالى، وعلى أنه: لا تكره له الخلوة مع أهله في معتكفه، ولا الحديث معها، وإنما الممنوع المباشرة، لكن هذا للأقوياء، وأما من يخاف على نفسه غلبة شهوة، فلا يجوز لئلا يفسد اعتكافه. وقد كان كثير من الفضلاء يجتنبون دخول منازلهم في نهار رمضان مخافة الوقوع فيما يفسد الصوم، أو ينقص ثوابه.
وقولها: (ثم قمت لأنقلب، فقام ليقلبني) أي: لأنصرف.
و(ليقلبني): يصرفني، وهو مفتوح الياء ثلاثيًّا، وهذا يدلّ على أن للمعتكف أن ينصرف في المسجد، وإلى بابه إذا دعته إلى ذلك حاجة؛ غير أنه لا يخرج من بابه إلا للأمور الضرورية التي تقدَّم ذكرها، وقد روي في هذا الحديث: أنه إنما خرج معها إلى باب المسجد. وعلى هذا تأوَّل البخاري، ولم يختلف العلماء: أنه لا يفسده خروجه إلى باب المسجد، وإن اختلفوا في كراهة تصرُّفه فيه لغير ضرورة، كزيارة مريض، أو صلاة على جنازة، أو صعود إلى المنارة للأذان، أو الجلوس إلى قومٍ ليصلح بينهم، فكره مالك كل ذلك في المشهور عنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما؛ إنما هي صفيَّة) الرِّسل - بكسر الراء -: الرفق واللين، وليس فتح الراء فيه معروفًا. و (الرِّسل) بالكسر أيضًا: اللبن. وقد جاء: أرسل القوم: صار لهم اللبن في مواشيهم.
و(الرَّسَل) بفتح الراء والسين: القطيع من الخيل، والإبل، والغنم، وجمعه: أرسال. يقال: جاءت الخيل أرسالًا؛ أي: قطيعًا قطيعًا، و (إنما) هنا لتحقيق المتصل بها، وتمحيق المنفصل عنها، كقوله تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: الإلهية متحققة له منفيَّة عن
فَقَالَا: سُبحَانَ اللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: إِنَّ الشَّيطَانَ يَجرِي مِن الإِنسَانِ مَجرَى الدَّمِ،
ــ
غيره. فكأنه قال: هذه صفيَّة لا غيرها حَسمًا لذريعة التُّهم، وردًا لتسويل الشيطان ووسوسته، كما قد نصَّ عليه، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتَّقي مواقع التُّهم عند (1) قيام الأدلة القاطعة على عصمته كان غيره بذلك أولى.
وقول الرجلين: (سبحان الله) معنى هذه الكلمة في أصلها: البراءة لله من السُّوء. لكنها قد كثر إطلاقها عند التعجب والتفخيم، أو الإنكار، كما قال تعالى:{سُبحَانَكَ هَذَا بُهتَانٌ عَظِيمٌ} وكقوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله إن المؤمن لا ينجس)(2) ومثله كثير، وهذا الموضع منها، فكأنهما قالا: البراءة لله تعالى من أن يخلق في نفوسنا ظنَّ سوَّء بنبيِّه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال في الرواية الأخرى:(ومن كنت أظن به فلم أكن أظن بك! ).
وقوله: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) حمله بعض العلماء على ظاهره. فقال: إن الله تعالى جعل للشيطان قوَّة وتمكُّنًا من أن يسري في باطن الإنسان، ومجاري دمه. والأكثر على أن معنى هذا الحديث: الإخبار عن ملازمة الشيطان للإنسان واستيلائه عليه بوسوسته، وإغوائه، وحرصه على إضلاله، وإفساد أحواله. فيجب الحذر منه، والتحرُّز من حيله، وسدُّ طرق وسوسته، وإغوائه وإن بعدت. وقد بين ذلك في آخر الحديث بقوله:(إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا، فتهلكا)(3) وخصوصًا في مثل هذا الذي يفضي بالإنسان إلى
(1) في (ج 2): مع.
(2)
رواه أحمد (2/ 235)، والبخاري (283)، ومسلم (371)، وأبو داود (231)، والترمذي (121)، والنسائي (1/ 145)، وابن ماجه (534).
(3)
هذه الكلمة ليست في الحديث الذي في التلخيص، ولا في رواياته في صحيح مسلم، وهي في غير مسلم كما أشار إلى ذلك بعد قليل. ولم نجدها في المصادر الحديثية المتوافرة لدينا.
وَإِنِّي خَشِيتُ أَن يَقذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا. أَو قَالَ: شَيئًا.
وفي رواية: أنه كان رجلا واحدا، وأنه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَن كُنتُ أَظُنُّ بِهِ، فَلَم أَكُن أَظُنُّ بِك.
رواه أحمد (6/ 337)، والبخاري (3281)، ومسلم (2174)(23) و (2175)(24 و 25)، وأبو داود (2470 و 2471)، وابن ماجه (1779).
* * *
ــ
الكفر، فإنَّ ظنَّ السَّوء والشر بالأنبياء كفرٌ.
قال القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه: إن من قال في النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من هذا (1)، أو جوَّزه عليه فهو كافر مستباح الدم.
و(قوله: يقذف في قلوبكما شرًّا) أي: يرمي. ومنه: القذف أي (2) الرَّمي، والقذَّافة: الآلة التي تُرمَى بها الحجارة. والشرُّ هنا: هو الكفر الذي ذكرناه. وفي غير مسلم: (فتهلكا) أي: بالكفر الذي يلزم عن ظنِّ السَّوء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وذكر في الرواية الأخرى: أنه كان رجلًا واحدًا؛ فيحتمل أن يكون هذا في مرتين. ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على أحدهما بالقول بحضرة الآخر، فتصح نسبة القصَّة إليهما جمعًا وإفرادًا، والله تعالى أعلم.
* * *
(1) ما بين حاصرتين سقط من (م 2).
(2)
في (ج 2): وهو.