الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(19) باب النهي عن الكهانة، وعن إتيان الكهان، وما جاء في الخط
[2168]
عَن مُعَاوِيَةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُمُورًا كُنَّا نَصنَعُهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ؛ كُنَّا نَأتِي الكُهَّانَ! قَالَ: فَلَا تَأتُوا الكُهَّانَ. قَالَ: قُلتُ: كُنَّا نَتَطَيَّرُ! قَالَ: ذَاكَ شَيءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُم فِي نَفسِهِ، فَلَا يَصُدَّهم. قَالَ: قُلتُ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ! قَالَ: كَانَ نَبِيٌّ مِن الأَنبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَن وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ.
رواه مسلم (537)(121).
ــ
المساق أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن محقّقًا لأمر الشؤم بهذه الثلاثة في الوقت الذي نطق بهذا، لكنه تحققه بعد ذلك لما قال: إنما الشؤم في ثلاثة، وقد بيَّنَّا مراده بالشؤم فيما تقدَّم والحمد لله.
والمراد بالربع الدار كما قال في الرواية الأخرى، وقد يصح حمله على أعم من ذلك، فيدخل فيه الدكان والفندق وغيرهما مما يصلح الربع له، والمرأة تتناول الزوجة والمملوكة، والخادم يتناول الذكر والأنثى لأنَّه اسم جنس.
(19)
ومن باب النهي عن الكهانة وإتيان الكهان
الكهان: جمع كاهن، ككتاب جمع كاتب، والكهانة: ادِّعاء علم الغيب، وقد تكلَّمنا على حديث معاوية بن الحكم في باب نسخ الكلام في الصلاة. قال القاضي أبو الفضل: الكهانة كانت في العرب على أربعة أضرب؛
أحدها: أن يكون للإنسان رَئِي من الجن يخبره بما يسترق من السمع، وهذا
[2169]
وعَن عَائِشَةَ قَالَت: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الكُهَّانَ كَانُوا
ــ
القسم قد بطل منذ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم كما نصَّ الله تعالى عليه في الكتاب.
والثاني: أن يخبره بما يطرأ ويكون في أقطار الأرض، وما يخفى مما قرب أو بعد، وهذا لا يبُعد وجوده.
ونفت هذا كله المعتزلة وبعض المتكلمين وأحالوه، ولا استحالة ولا بُعد في وجود مثل هذا، لكنهم بعد يكذبون، والنهي عام في تصديقهم والسماع منهم.
الثالث: التخمين والحزر، وهذا يخلق الله فيه لبعض الناس شدة قوة، لكن الكذب في هذا الباب أغلب. قال: ومن هذا الباب العرافة، وصاحبها عرَّاف، وهو الذي يستدلُّ على الأمور بأسباب ومقدمات يدِّعي معرفتها. وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هي (1) العيافة - بالياء، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة.
قلت: وإذا كان كذلك فسؤالهم عن غيب ليخبروا عنه حرام، وما يأخذون على ذلك حرام، ولا خلاف فيه؛ لأنَّه حلوان الكاهن المنهي عنه.
قال أبو عمر: ويجب على من ولي الحسبة أن يقيمهم من الأسواق وينكر عليهم أشدَّ النكير، ولا يدع أحدًا يأتيهم لذلك، وإن ظهر صدق بعضهم في بعض الأمور فليس ذلك بالذي يخرجهم عن الكهانة، فإنَّ تلك الكلمة إما خطفة جني أو موافقة قدر ليغترَّ به بعض الجهال، ولقد انخدع كثير من المنتسبين للفقه والدين فجاؤوا إلى هؤلاء الكهنة والعرافين فبهرجوا عليهم بالمحال واستخرجوا منهم الأموال، فحصلوا من أقوالهم على السراب والآل (2)، ومن أديانهم على الفساد والضلال.
(1) كذا في جميع النسخ، وفي إكمال إكمال المعلم للأبي: مِنَ.
(2)
"الآل": السراب.
يُحَدِّثُونَنَا بِالشَّيءِ فَنَجِدُهُ حَقًّا! قَالَ: تِلكَ الكَلِمَةُ يَخطَفُهَا الجِنِّيُّ فَيَقذِفُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ وَيَزِيدُ فِيهَا مِائَةَ كَذبَةٍ.
رواه أحمد (6/ 87)، والبخاريُّ (5762)، ومسلم (2228)(122).
ــ
وقوله تلك الكلمة يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه؛ أي يرميها في أذنه ويُسمعه إياها، وفي الرواية الأخرى فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة؛ أي يضعها في أذنه، يقال: قررت الخبر في أذنه أقره قرًّا. ويصحُّ أن يقال: ألقاها في أذنه بصوت. يقال: قرَّ الطائر صوت.
وقرُّ الدجاجة بكسر القاف حكاية صوتها، قال الخطابي: قرَّت الدجاجة (1) تقرُّ قرًّا وقريرًا - إذا رجَّعت فيه، قيل: قرقرت قرقرةً وقرقريرًا. قال الشاعر:
. . . . . . . . . . . .
…
وإن قرقرت هاجَ الهوَى قرقرِيرُها (2)
قال: والمعنى أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فيتسامع بها الشياطين كما تؤذن الدجاج بصوت صواحباتها فتتجاوب.
قلت: والأشبه بمساق الحديث أن يكون معناه أن الجنِّي يلقي إلى وليه تلك الكلمات بصوت خفي متراجع يُزَمزِمُهُ ويُرَجِّعه له كما يلقيه الكهان للناس، فإنَّهم تسمع لهم زمزمة وإسجاع وترجيع على ما علم من حالهم بالمشاهدة والنقل. ولم يختلف أحدٌ من رواة مسلم أن الرواية في هذا اللفظ قرَّ الدجاجة يعني به الطائر المعروف، واختلف فيه عن البخاري؛ فقال بعض رواته كقرِّ الزجاجة بالزاي، قال الدارقطني: هو مما صحَّفوا فيه، والصواب: الدجاجة
(1) ما بين حاصرتين سقط من (م 2).
(2)
هذا عجز البيت الذي أنشده ابن القطاع، وصدره كما في الصحاح:
وما ذاتُ طَوْقٍ فوق عود أراكةٍ
[2170]
وعنها قالت: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَن الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيسُوا بِشَيءٍ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُم يُحَدِّثُونَ أَحيَانًا الشَّيءَ يَكُونُ حَقًّا! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تِلكَ الكَلِمَةُ مِن الجِنِّ يَخطَفُهَا الجِنِّيُّ فَيَقُذفهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخلِطُونَ فِيهَا أَكثَرَ مِن مِائَةِ كَذبَةٍ.
رواه أحمد (6/ 87)، والبخاريُّ (5762)، ومسلم (2228)(123).
[2171]
وعَن بَعضِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَن أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَن شَيءٍ لَم تُقبَل لَهُ صَلَاةٌ أَربَعِينَ لَيلَةً.
رواه أحمد (4/ 68)، ومسلم (2230).
* * *
ــ
- بالدال. وقيل: الصواب الزجاجة؛ بدليل ما قد رواه البخاري فيقرها في أذنه كما تقرّ القارورة، وهي بمعنى الزجاجة؛ أي: كما يسمع صوت الزجاجة إذا حكَّت على شيء أو إذا أُلقي فيها ماء أو شيء.
وقوله من أتى عرافًا لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، العراف هو الحازي والمنجِّم الذي يدَّعي الغيب، وهذا يدلّ على أن إتيان العرافين كبيرة، وظاهره أن صلاته في هذه الأربعين تحبط وتبطل، وهو خارج (1) على أصول الخوارج الفاسدة في تكفيرهم بالذنوب، وقد بيَّنا فساد هذا الأصل فيما تقدم، وأنه لا يحبط الأعمال إلا الردة. وأما غيرها فالحسنات تبطل السيئات كما قال تعالى:{إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ} وهذا مذهب أهل السنَّة والجماعة، فليس معنى قوله لا تقبل له صلاة أن تحبط، بل إنما معناه - والله أعلم - أنَّها
(1) في (ج 2): جارٍ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لا تقبل قبول الرضا وتضعيف الأجر. لكنه إذا فعلها على شروطها الخاصة بها فقد برئت ذمّته من المطالبة بالصلاة وتُقصَى عن عهدة الخطاب بها، ويفوته قبول المرضي عنه وإكرامه وثوابه ويتضح ذلك باعتبار ملوك الأرض، ولله المثل الأعلى، وذلك أن المُهدِي إما مردودٌ عليه أو مقبول منه، والمقبول إما مقرَّب مُكرَّم مثاب وإما ليس كذلك، فالأول هو المبعدُ المطرود، والثاني هو المقبول القبول التام الكامل، والثالث لا يصدق عليه أنه مثل الأول فإنه لم تردَّ هديته، بل قد التفت إليه وقُبلت منه، لكنه لما لم يُثب ولم يُقرَّب صار كأنه غير مقبول منه، فيصدق عليه أنَّه لم يُقبل منه إذ لم يحصل له ثواب ولا إكرام.
وتخصيصه صلى الله عليه وسلم الأربعين بالذكر قد جاء في مواضع كثيرة من الشرع؛ منها: قوله في شارب الخمر لا تقبل له صلاة أربعين يومًا (1)، وقوله والذي نفسي بيده، إنه ليجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك (2)، وقوله من أخلص لله أربعين ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (3). ومنه قوله تعالى:{وَإِذ وَاعَدنَا مُوسَى أَربَعِينَ لَيلَةً} ومنه توقيته صلى الله عليه وسلم في قص الشارب وتقليم الأظفار وحلق العانة ألا تترك أكثر من أربعين ليلة، فتخصيص هذه المواضع بهذا العدد الخاص هو سرٌّ من أسرار الشريعة لم يطلع عليه نصًّا، غير أنه قد تنسم منه بعضُ علمائنا أمرًا تسكن النفسُ إليه، وذلك أنه قال: إن هذا العدد في هذه المواضع إنما خصَّ بالذكر لأنَّه مدَّة يكمل فيها ما ضربت له، فينتقل إلى غيره ويحصل فيها تبدُّله وبيانه بانتقال أطوار الخلقة في كل أربعين منها يكمل فيها طور، فينتقل عند انتهائه إلى غيره،
(1) رواه النسائي (8/ 316).
(2)
رواه أحمد (1/ 382)، والبخاري (6594)، ومسلم (2643).
(3)
رواه ابن المبارك في الزهد (1014)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 189)، وانظر الترغيب والترهيب رقم (13).