الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(11) باب من أقيم عليه الحد فهو كفارة له
[1798]
عَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قَالَ: أَخَذَ عَلَينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ: أَن لَا نُشرِكَ بِاللَّهِ شَيئًا، وَلَا نَسرِقَ، وَلَا نَزنِيَ، وَلَا نَقتُلَ
ــ
أبو حنيفة: أربعين. وقاله الشافعي، وقال أيضًا: عشرين. وروي عن مالك: خمسة وسبعين سوطًا. وإليه مال أصبغ بن الفرج، وقاله ابن أبي ليلى، وأبو يوسف. وقال محمد بن مسلمة: لا أرى أن يبلغ به الحدّ. وقد روي عن عمر: ما يبلغ به ثمانون. وعن ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا يبلغ به مائة. ومنهم من رأى ذلك موكولًا إلى رأي الإمام بحسب ما يراه أردع، وأليق بالجاني، وإن زاد على أقصى الحدود. وهو مشهور مذهب مالك، وأبي يوسف، وأبي ثور، والطحاوي، ومحمد بن الحسن. وقال: وإن بلغ ألفًا. وقد روي عنه مثل قول أبي حنيفة. والصحيح عن عمر: أنَّه ضرب من نقش على خاتمه مائة. وضرب ضبيعا (1) أكثر من الحدّ. وقد روي عن الشافعي: أنَّه يُضرب في الأدب أبدًا، وإن أتى على نفسه حتى يُقرَّ بالإنابة. وقال المُزني من أصحاب الشافعي: تعزير كل ذنب مستنبط من حدِّه لا يجاوز.
قلت: والصحيح: القول العمري، والمذهب المالكي؛ لأنَّ المقصود بالتعزير الرَّدع، والزجر. ولا يحصل ذلك إلا باعتبار أحوال الجنايات والجناة. فأمَّا الحديث فخرج على أغلب ما يحتاج إليه في ذلك الزمان. والله تعالى أعلم.
(11)
ومن باب: من أقيم عليه الحدّ فهو كفارة له
(قوله: أَخَذَ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء) يعني: أنَّه بايعهم على
(1) في (ل 1) و (ع): ضبيعًا، والمثبت من الإصابة (2/ 198).
أَولَادَنَا، وَلَا يَعضَهَ بَعضُنَا بَعضًا،
ــ
التزام هذه الأمور المذكورة كما بايع النساء عليها. وإنَّما نبَّه بهذا على أن هذه البيعة لما لم يكن فيها ذكر القتال استوى فيها الرِّجال والنساء؛ ولذلك كانت تسمى هذه البيعة بيعة النساء. وهذه البيعة كانت بالعقبة خارج مكة. وهي أول بيعة بايعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنقباء الأنصار، وذلك قبل الهجرة، وقبل فرض القتال.
و(قوله: ولا يَعضَهُ بعضنا بعضًا) هكذا رواية الجماعة، وقيل فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه السِّحر؛ أي: لا يسحر بعضنا بعضا. والعَضهُ، والعَضِيهَة: السِّحر. والعاضِهُ: السَّاحر. والعاضِهَةُ: السَّاحرة.
والثاني: أنَّه النَّمِيمَة والكذب.
والثالث: البُّهتان.
قلت: وهذه الثلاثة متقاربة في المعنى؛ لأنَّ الكل كذبٌ وزور. ويقال لكلِّها عَضهٌ، وعَضِيهةٌ. ويُصرف فعلها كما سبق.
وقد روى العذري هذه اللفظة: (ولا يَعضِي بعضنا بعضًا) - بالياء مكان الهاء - على وزن: يقضي. ويكون من التعضية، وهي التفريق والتجزئة. ومنه قوله تعالى:{الَّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ} قال ابن عباس: فرَّقوه فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعض. وعلى هذا: فيكون عضين: جمع عضه. فيكون منقوضًا؛ لأنَّ أصله: عِضوةٌ، فحذفوا الواو، ونقلوا حركتها إلى الساكن قبلها، كما فعلوه في عزة، فيكون معناه في الحديث: لا تكذب عليه فتبهته بأنواع من البهتان والكذب، فتفرقها عليه في أوقات، وتنسبها إليه في حالات. ورواية الجماعة أوضح.
و(النُّقَباء): جمع نقيب، كظريف، وظرفاء. وهو الذي ينقب عن أخبار أصحابه، وأحوالهم، فيرفعها للأمراء. وهم المسمُّون بالعرفاء أيضًا: جمع
فَمَن وَفَى مِنكُم فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَن أَتَى مِنكُم حَدًّا فَأُقِيمَ عَلَيهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ،
ــ
عريف، لتعرُّفهم بالأحوال، وتعريفهم بها. وقد تقدم الكلام في (النهبة).
و(قوله: ولا نقتل أولادنا) يعني بهم: البنات اللواتي كانوا يدفنونهم (1) أحياء. وهي الموءودة. وكانوا يفعلون ذلك للأنفة الجاهلية وخوف الفقر والإملاق. ولا يُعارض هذا قوله في الرواية الأخرى: (ولا نقتل (2) النَّفس التي حرَّم الله إلا بالحق) لأنَّ هذه البيعة كانت فيها أمورٌ كثيرة منعهم منها، ونهاهم عنها؛ قد تقدم ذكر بعضها في كتاب الإمارة. وقد شمل ذلك كُلَّه بقوله:(ولا نعصي)، وكذلك قال تعالى في حق النساء:{وَلا يَعصِينَكَ فِي مَعرُوفٍ}
و(قوله: فمَن وَفَى منكم) بتخفيف الفاء. وقاله الأصيلي بتشديدها، ومعناهما واحد؛ أي: فعل ما أمر به، وانتهى عمَّا نُهِي عنه.
و(قوله: فأجره على الله) أي: إن الله تعالى ينجيه من عذابه وإهانته، ويوصله إلى جنته وكرامته.
و(قوله: ومن أتى منكم حدًّا فأُقِيم عليه فهو كفارته) هذا حجَّة واضحة لجمهور العلماء على أن الحدود كفارات. فمن قتل فاقتُصَّ منه لم يبق عليه طِلبَةٌ في الآخرة؛ لأنَّ الكفارات ماحيةٌ للذنوب، ومصَيِّرةٌ لصاحبها كأن ذنبه لم يكن (3). وقد ظهر ذلك في كفارة اليمين والظِّهار وغير ذلك. فإن بقي مع الكفارة شيء من آثار الذنب لم يصدق عليها ذلك الاسم. وقد سمعنا من بعض علماء مشايخنا: أن الكفارة إنَّما تكفر حق الله تعالى، ويبقى على القاتل حق المقتول يطلبه به يوم القيامة. وتَطَّرِدُ هذه الطريقة في سائر حقوق الآدميين.
(1) كذا في جميع النسخ، والصواب: يدفنونهن.
(2)
في (ع) و (م 3): تقتلوا.
(3)
في (ج 2): يقع.
وَمَن سَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِن شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِن شَاءَ غَفَرَ لَهُ.
رواه أحمد (5/ 325)، والبخاريُّ (7199)، ومسلم (1709)(43)، والنسائي (7/ 137)، وابن ماجه (2866).
[1799]
وعنه، قَالَ: إِنِّي مِن النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: بَايَعنَاهُ عَلَى ألَا نُشرِكَ بِاللَّهِ شَيئًا، وَلَا نَزنِيَ، وَلَا نَسرِقَ، وَلَا نَقتُلَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَلَا نَنتَهِبَ وَلَا نَعصِيَ، فَالجَنَّةُ إِن فَعَلنَا ذَلِكَ، فَإِن غَشِينَا مِن ذَلِكَ شَيئًا، كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ.
رواه مسلم (1709)(44).
* * *
ــ
قلت: وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه تخصيص لعموم ذلك الحديث بغير دليل، وما ذكره من اختلاف الحقوق صحيحٌ، غير أنَّه لما أباح الله دم القاتل بسبب جريمته، وقتل، فقد فعل به مثل ما فعل من إيلام نفسه واستباحة دمه، فلم يبق عليه شيء. وهذا معنى القصاص.
و(قوله: ومن ستر الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) يعني: إذا مات ولم يَتُب منه. فأمَّا لو تاب منه لكان كمن لم يُذنب؛ بنصوص القرآن والسُّنة كما قد تقدم. وهذا تصريحٌ بأن ارتكاب الكبائر ليس بكفر؛ لأنَّ الكفر لا يغفر لمن مات عليه بالنصّ والإجماع. وهو حجَّة لأهل السُّنة على المُكَفِّرة بالذنوب، وهم الخوارج، وأهل البدعة.
و(قوله: فإن غَشينا شيئًا من ذلك كان قضاء ذلك إلى الله تعالى) أي: إن ارتكبنا شيئًا من ذلك، وفعلناه؛ كان حكمه لله؛ أي: إن شاء عذب، وإن شاء عفا. كما فسَّره في الرواية الثانية.