الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنه قال: أحسن ما سمعت في هذا، أن يكون ذلك محمولًا على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرمًا على الصائم في الليل بعد النوم، كالطعام والشراب، فلما أباح الله عز وجل الجماع إلى طلوع الفجر، جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم؛ لارتفاع الحظر، فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل ابن عباس على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه»
(1)
.
(2)
.
•
دليل من فرق بين الفرض والنفل أو بين المعذور وغير المعذور:
هذان القولان هما من وجوه الجمع بين حديث أبي هريرة، وبين حديث عائشة وأم سلمة، فحمل حديث أبي هريرة على الفرض، وحمل حديث عائشة وأم سلمة على النفل.
أو حمل حديث أبي هريرة على غير المعذور، وحمل حديث عائشة وأم سلمة على المعذور، ومن سلك طريق الجمع لم ير حديث أبي هريرة غلطًا، أو منسوخًا، وإنما رأى أن هناك دليلين ظاهرهما التعارض، فحاول الجمع، وما زال بعض التابعين لا يرون أن أبا هريرة رجع عن حديثه.
ولذلك قال الترمذي في سننه: حديث عائشة وأم سلمة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، ثم قال: وقد قال قوم من التابعين: إذا أصبح
(1)
سنن البيهقي (4/ 215).
(2)
فتح الباري تحت رقم (1926).
جنبًا يقضي ذلك اليوم، والقول الأول أصح
(1)
.
فهنا الترمذي يرى أن هناك قومًا من التابعين يأخذون بحديث أبي هريرة.
(818 - 138) وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيبيت الرجل جنبًا في شهر رمضان حتى يصبح، يتعمد ذلك، ثم يصوم؟ قال: أما أبو هريرة فكان ينهى عن ذلك، وأما عائشة فكانت تقول: ليس بذلك بأس، فلما اختلفا على عطاء، قال: يتم يومه ذلك، ويبدل يومًا
(2)
.
[وإسناده صحيح عن عطاء].
• الراجح من خلاف أهل العلم:
بعد استعراض أدلة الأقوال نرى أن استصحاب حكم الجنابة لا يؤثر على الصيام، وقد دللنا على ذلك أثرًا ونظرًا، وهذا القول قد رأى بعضهم أن الإجماع انعقد عليه عند المتأخرين، قال النووي:«وأما حكم المسألة فقد أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب، سواءً كان من احتلام أو جماع، وبه قال جماهير الصحابة والتابعين»
(3)
.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: «وقد بقي على مقالة أبي هريرة بعض التابعين كما نقله الترمذي، ثم ارتفع ذلك الخلاف، واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي، وأما ابن دقيق العيد، فقال: صار ذلك إجماعًا أو كالإجماع»
(4)
.
وهل ينعقد الإجماع بعد ثبوت الخلاف عند الصحابة والتابعين، هذه مسألة خلافية بحثها في أصول الفقه، والراجح أن الأقوال لا تموت بموت أصحابها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
(1)
سنن الترمذي (779).
(2)
المصنف (7400).
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم تحت رقم (1109).
(4)
الفتح تحت رقم (1926).
مبحث
في الحائض والنفساء تطهر قبل الفجر
ولا تغتسل إلا بعد طلوع الصبح
مدخل في ذكر الضابط الفقهي:
• ما يمنع الحائض من الصوم هو وجود الأذى النازل منها، فإذا انقطع الخبث صارت في حكم الجنب، فيصح صومها.
• إذا انقطع الحيض ارتفع حكمه إلا فيما تشترط له الطهارة من الحدث.
• النقاء من الحيض شرط في صحة الصوم، والاغتسال منه بعد انقطاعه ليس بشرط.
• كل ما يصح من الجنب يصح من الحائض إذا انقطع حيضها ولم تغتسل.
• وجوب الغسل لا ينافي صحة الصوم كالغسل من الجنابة.
[م-344] إذا طهرت المرأة من الحيض ليلًا، ونوت الصيام، وأخرت الغسل إلى طلوع الفجر، فهل يصح صومها ذلك اليوم؟
اختلف العلماء في ذلك:
فقيل: إن طهرت قبل الفجر بوقت يتسع فيه للغسل، فلم تغتسل حتى طلع الفجر أجزأها، وإن كان الوقت ضيقًا، لا يتسع للغسل، لم يصح صومها
(1)
.
وهذا مذهب الحنفية، واختاره من المالكية عبد الملك، ومحمد بن مسلمة
(2)
.
وقيل: صيامها صحيح، وهو مذهب الجمهور
(3)
.
وقيل: لا يباح الصيام مطلقًا حتى تغتسل، وهو قول في مذهب الحنابلة
(4)
، وحكي قولًا للأوزاعي
(5)
.
(1)
إلا أن الحنفية يستثنون ما لو كان حيضها أكثر الحيض عندهم (عشرة أيام)، أو كان نفاسها أكثر النفاس عندهم (أربعون يومًا) ففي هذه الحالة إذا طهرت قبل الفجر صح صومها إذا أمكنها أن تنوي، ولو لم تدرك من الوقت ما يتسع للغسل.
ووجهه: أن المرأة إذا طهرت لأكثر الحيض أو النفاس فإنها تخرج من الحيض والنفاس بمجرد انقطاع الدم، أما إذا انقطع الحيض لدون عشرة أيام، أو انقطع النفاس لدون أربعين يومًا، فإن مدة الاغتسال محسوبة من الحيض والنفاس، فلا بد أن تدرك من الليل ما يتسع فيه للاغتسال. انظر بدائع الصنائع (2/ 89) وقال في فتح القدير (1/ 171):«واعلم أن مدة الاغتسال معتبرة من الحيض في الانقطاع لأقل من العشرة، وإن كان تمام عادتها، بخلاف الانقطاع للعشرة» . اهـ
(2)
انظر المعونة على مذهب مالك (1/ 481)، التفريع (1/ 308، 309)، الجامع لأحكام القرآن ـ القرطبي (2/ 326)، والموجود في تفسير القرطبي منسوبًا لعبد الملك بأنه إذا طهرت قبل الفجر، ولم تغتسل فإن يومها يوم فطر مطلقًا، بينما الموجود في التفريع التفصيل: إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الاغتسال ففرطت، فلم تغتسل حتى أصبحت، لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقًا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها، وقد أشار إلى مثل ذلك القرطبي رحمه الله.
(3)
المدونة (1/ 207) وفيه: «وسألت مالكًا عن المرأة ترى الطهر في آخر ليلتها من رمضان، قال: إن رأته قبل الفجر اغتسلت بعد الفجر، وصيامها مجزئ عنها» .
وانظر شرح الخرشي (2/ 247) مختصر خليل (ص: 71)، المعونة على مذهب مالك (1/ 481)، التفريع (1/ 308، 309)، الجامع لأحكام القرآن - القرطبي (2/ 326) ونسبه قولًا للجمهور.
وقال ابن المنذر في الإقناع (1/ 194): «وإذا أصبح المرء جنبًا، أو كانت امرأة حائضًا فطهرت آخر الليل، ثم أصبحا صائمين يغتسلان» أي وصيامهما صحيح.
(4)
الإنصاف (1/ 349) المبدع (1/ 262).
(5)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 326). «ونسبه ابن قدامة في المغني (4/ 393) قولًا للأوزاعي، والحسن بن حيّ، وعبد الملك بن الماجشون، والعنبري» .
وسبب الخلاف في هذه المسألة، اختلافهم فيها: هل هي مقيسة على من أجنب من الليل، ثم طلع عليه الفجر ولم يغتسل، أو لا؟
فمن رأى أن الحيض حدث يمنع من الصيام لم يجر القياس.
ومن رأى أن الحائض إذا طهرت من الدم أصبحت كالجنب بجامع أن كلًا منهما يملك أن يرفع حدثه متى شاء، فالحائض عندما انقطع دمها قد طهرت من الخبث، وبقيت طهارتها من الحدث، فأصبح حدثها بعد انقطاع دمها لا يوجب إلا الغسل، كالجنب تمامًا، وصفة الغسل في الجنابة والحيض واحدة، أجرى القياس، فصحح صيام الحائض إذا طهرت من الليل ولم تغتسل إلا بعد طلوع الصبح.
وهناك من رأى أنه يشترط أن تدرك من الوقت زمنًا يتسع للغسل، حتى يكون الصيام واجبًا في ذمتها، فإن كان الوقت ضيقًا، لا تدرك فيه الغسل، لم يصح صومها، ويومها يوم فطر، ويخرج الخلاف في هذه المسألة كالخلاف في من طهرت قبل خروج وقت الصلاة، هل يشترط أن تدرك من الوقت زمنًا يتسع للغسل حتى تكون الصلاة واجبة في ذمتها، أو يكفي أن تدرك من الوقت مقدار تكبيرة الإحرام، أو مقدار ركعة، على الخلاف المعروف ولا مدخل فيه لوقت الغسل.
وقد ذكرنا أدلة هذه الأقوال بشيء من التفصيل في كتابي الحيض والنفاس رواية ودارية فأغنى عن إعادته هنا
(1)
.
* * *
(1)
انظر كتاب الحيض والنفاس (2/ 519).