الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني أثر انغماس الجنب على الماء القليل
مدخل في ذكر الضوابط الفقهية:
• إذا كان استعمال الماء في نظافة الثياب الطاهرة لا ينقله عن الطهورية، فكذلك بدن المسلم الطاهر لا ينقله عن الطهورية.
• المستعمل في طهارة واجبة كالمستعمل في طهارة مستحبة؛ لأن الوجوب والاستحباب خطاب تكليفي، وانتقال الماء عن الطهورية بالاستعمال خطاب وضعي، ولا ارتباط بينهما.
• استعمال الماء في طهارة الحدث كاستعمال التراب في التيمم لا ينقلهما عن الطهورية.
• المستعمل ماء مطلق باقي على أوصاف خلقته، والأحكام إنما تناط بالحقائق الظاهرة، لا بالأشياء الخفية على الصحيح.
• الطهورية صفة لازمة تفيد التكرار بصيغتها وصفتها على الصحيح، فيصح الوضوء بالمستعمل.
• الماء المستعمل ماء طهور لاقى جسمًا طاهرًا فلم ينقله عن حكمه على الصحيح
كما لو استعمل في تبرد وتنظف.
• الماء ما دام في الأعضاء فلا خلاف أنه طهور مطلق
(1)
، فانفصاله لا يوجب تغير حكمه على الصحيح.
• المستعمل إن تغير بوسخ كان له حكم الماء المتغير بطاهر، وإن بقي على خلقته كان له حكم الماء الذي مر بطاهر لم يغيره، وفي الحالين هو طهور على الصحيح.
وقيل:
• سلب الماء المستعمل الطهورية، هل هو معلل بأنه أديت به قربة، فيدخل فيه التجديد والمسنون، أو معلل بأداء الفرض، وزوال المانع فيختص برفع الحدث؟
• المستقذر شرعًا كالمستقذر حسًا، فالزكاة لما كانت مطهرة من الذنوب صارت أوساخ الناس فلم تحل لآل محمد، فمن ثم قال الأئمة: الماء المستعل لما كان مطهرًا من الذنوب لم يرفع الحدث.
[م-353] ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الجنب إذا انغمس في ماء قليل تحول الماء إلى ماء مستعمل.
وسبق لنا أن بينا في مباحث المياه متى يكون الماء مستعملًا؟
وذكرنا أن الماء المتقاطر من أعضاء الوضوء في رفع الحدث مستعمل بالاتفاق.
وأما إذا غمس يده في ماء بنية رفع الحدث، فهل يكون مستعملًا؟
قالوا: إذا كان الماء قليلًا كان مستعملًا.
واختلفوا في حد القليل:
فيرى الحنفية أن الجنب إذا انغمس في البئر بنية رفع الحدث فسد الماء، وإن انغمس لطلب الدلو فسد الماء على رأي أبي حنيفة خلافًا لصاحبيه.
(1)
الذخيرة للقرافي (2/ 118).
ومعنى هذا أن البئر في حد القليل عندهم.
وأما المالكية فيرون اليسير كآنية الوضوء والغسل، فإن غمس يده فيها صار مستعملًا، وإن كان أكثر من ذلك لم يكن مستعملًا.
والشافعية والحنابلة يحدون القليل بما دون القلتين، فإن انغمس في ماء دون القلتين صار مستعملًا، وإلا فلا.
ولا يكون الماء مستعملًا إذا أدخل يده في الإناء ليغترف منها.
وقيل: بشرط أن يدخلها بنية الاغتراف
(1)
.
إذا عرفنا هذا نأتي إلى الأقوال في حكم الماء القليل إذا استعمل في رفع الجنابة، كما لو انغمس فيه جنب بنية رفع الحدث،
فقيل: إنه نجس، وهو رواية عن أبي حنيفة
(2)
،
واختارها أبو يوسف
(3)
.
وقيل: إنه طهور مكروه في رفع الحدث، غير مكروه في زوال الخبث، وهو مذهب المالكية
(4)
.
(1)
انظر العزو إلى كتب المذاهب في مباحث (كتاب المياه، والآنية) فصل: في حكم الماء المستعمل.
(2)
البناية (1/ 350)، حاشية ابن عابدين (1/ 201): وذكر عن أبي حنيفة أنه لو نزل رجل محدث في بئر أن الماء والرجل نجسان».
وقال في البناية (1/ 351): «رواية الحسن عن أبي حنيفة أن الماء المستعمل نجس نجاسة مغلظة، فسرها في المبسوط (1/ 46): أي لا يعفى عنه أكثر من قدر الدرهم.
ثم قال العيني: ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه نجس نجاسة مخففة، فسرها بالمبسوط (1/ 46) أن التقدير فيه بالكثير الفاحش». والله أعلم.
(3)
المراجع السابقة.
(4)
الشرح الصغير (1/ 37)، حاشية الدسوقي (1/ 37)، بداية المجتهد مع الهداي في تخريج أحاديث البداية (1/ 274).
والكراهة مقيدة بأمرين:
الأول: أن يكون ذلك الماء قليلًا كآنية الوضوء والغسل.
الثاني: أن يوجد غيره، وإلا فلا كراهة.
وقيل: إنه طاهر غير مطهر وهو الرواية المشهورة عن أبي حنيفة وعليه الفتوى
(1)
ومذهب الشافعية
(2)
،
والحنابلة
(3)
، واختيار محمد بن الحسن من الحنفية
(4)
.
وقيل: طهور بلا كراهة، وهو رواية عن أحمد
(5)
، ورجحها ابن حزم
(6)
،
(1)
انظر فتح القدير (1/ 87)، والمبسوط (1/ 46)، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/ 200، 201)، قال العيني في البناية (1/ 349): ورواه زفر رحمه الله أيضًا عن أبي حنيفة يعني، كونه طاهرًا، ثم قال: حتى كان قاضي القضاة أبو حازم عبد الحميد العراقي يقول: أرجو أن لا تثبت رواية النجاسة فيه عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو اختيار المحققين من مشايخنا بما وراء النهر، قال في المحيط: وهو الأشهر الأقيس. قال في المفيد: وهو الصحيح. قال الاسبيجابي: وعليه الفتوى
(2)
الأم (8/ 100)، الروضة (1/ 7)، وقال النووي في المجموع (1/ 202):«قال الشيخ أبو حامد: نص الشافعي في جميع كتبه القديمة والجديدة، أن المستعمل ليس بطهور» .
وقال الماوردي: الماء المستعمل في رفع الحدث، وهو ما انفصل من أعضاء المحدث في وضوئه، أو من بدن الجنب في غسله، فذهب الشافعي المنصوص عليه في كتبه القديمة والجديدة، وما نقله عنه جميع أصحابه سماعًا، ورواية، أنه طاهر مطهر. هكذا في الحاوي (1/ 296)، وهذه العبارة نصها نقلها النووي إلا أنه قال:«وما نقله جميع أصحابه سماعًا ورواية أنه غير طهور» . المجموع (1/ 203).
وعبارة النووي أصوب؛ لما عرف من مذهب الشافعي رحمه الله.
ولذلك قال الماوردي بعد العبارة السابقة مما يبين أنها خطأ، قال: فكان أبو إسحاق المروزي، وأبو حامد المروزي يخرجان الماء المستعمل على قولين:
الأول: أنه طاهر غير مطهر، وهو ما صرح به في جميع كتبه، ونقله جمهور أصحابه. اهـ
فهذا يدل على خطأ في النص السابق، ولم ينتبه له محقق الكتاب -إن لم يكن الخطأ من الناسخ- ثم قال: والثاني: أنه طاهر مطهر، وهو ما حكاه عيسى بن أبان، ودلت عليه رواية أبي ثور، وكان أبو العباس، وابن أبي هريرة يمنعان من تخريج القولين، ويعدلان عن رواية عيسى؛ لأنه وإن كان ثقة، فهو مخالف لما يحكيه أصحاب الخلاف، ولم يلق الشافعي فيحكيه سماعًا من لفظه، ولا هو منصوصه، فيأخذ من كتبه، ولعله تأول كلامه في نصرة طهارته ردًا على أبي يوسف فحمله على جواز الطهارة به. إلخ كلامه.
(3)
الإنصاف (1/ 35، 36)، كشاف القناع (1/ 32)، شرح منتهى الإرادات (1/ 14).
(4)
فتح القدير (1/ 87)، والمبسوط (1/ 46)، وحاشية رد المحتار لابن عابدين (1/ 200، 201)، البناية (1/ 349).
(5)
الكافي (1/ 5)، المبدع (1/ 44)، وقال صاحب الإنصاف (1/ 36): وهو أقوى في النظر.
(6)
المحلى (1/ 183).
وابن تيمية
(1)
، وابن عبد الهادي
(2)
، والشوكاني
(3)
، وغيرهم.
وقد ذكرت دليل كل قول، والراجح من الأقوال في كتاب أحكام المياه والآنية، فأغنى عن إعادته مرة أخرى، وذهبت إلى أن الراجح أن الماء المستعمل في غسل الجنابة طهور غير مكروه.
* * *
(1)
الاختيارات للبعلي (ص: 3)، ومجموع الفتاوى (20/ 519).
(2)
التنقيح (1/ 211).
(3)
نيل الأوطار (1/ 44).