الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمَّا قراءةُ حفصٍ فتأويلُها أنه خَرَجَ إلى خطابِ الحاضرين بعد أَنْ أتمَّ قضيةَ أهلِ سَبأ، ويجوز أَنْ يكونَ التفاتاً على أنه نزَّل الغائبَ منزلةَ الحاضرِ فخاطبه مُلْتَفِتاً إليه.
وقال ابن عطية: "القراءةُ بياءِ الغَيْبة تعطي أن الآيةَ من كلامَ الهُدْهد، وبتاءِ الخطابِ تعطي أنها من خطابِ الله لأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم"، وقد تقدَّم أنَّ الظاهر أنه من كلامِ الهدهد مطلقاً". اهـ
(1)
دراسة الاستدراك:
أولاً: توجيه قراءتي الكسائي وحفص والفرق بينهما:
قرأ الكسائي وحفص {مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} بالتاء فيهما.
فالكسائي قرأهما بالخطاب بناء على قراءته التي أمرهم فيها بالسجود وخاطبهم به (ألا يا اسجدوا): بتخفيف (ألا) تنبيه، و (يا) حرف نداء، و (اسجدوا) فعل أمر، والمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله الذي يعلم ما تسرون وما تعلنون
(2)
.
قال السمين الحلبي: "وكان حَق الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ (يا اسْجُدوا)، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ (يا) وهمزةَ الوصلِ من (اسْجُدوا) خَطَّاً لَمَّا سَقَطا لفظاً، ووَصَلُوا
(1)
الدر المصون (8: 605).
(2)
ويقف على (ألا يا) ثم يبتدئ (اسجدوا). ينظر: السبعة في القراءات، لابن مجاهد (ص: 480)، معاني القراءات، للأزهري (2: 238)، تفسير السمرقندي (2: 579)، الهداية إلى بلوغ النهاية، لمكي بن أبي طالب (8: 5397)، الحجة للقراء السبعة، للفارسي (5: 385)، حجة القراءات، لابن زنجلة (ص: 528)، التيسير في القراءات السبع، للداني (ص: 167)، تفسير الماوردي (4: 205)، تفسير البغوي (3: 500)، تفسير ابن كثير (6: 187)، النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (2: 337).::
الياءَ بسين (اسْجُدوا)، فصارَتْ صورتُه (يَسْجُدوا) كما ترى، فاتَّحدت القراءتان لفظاً وخَطَّاً، واختلفتا تقديراً". اهـ
(1)
أما قراءة حفص فعلى ابتداء المخاطبة
(2)
.
ثانياً: أقوال العلماء في توجيه القراءة بالتاء (ما تخفون وما تعلنون) والقراءة بالياء (ما يخفون وما يعلنون):
يرى ابنُ عطية أن القراءة بياء الغيبة تدل على أن الآية من كلام الهدهد، أما القراءة بالتاء فتدل على أنها من خطاب الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
(3)
، ووافقه القرطبي في ذلك
(4)
.
والجمهور على أن قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} كله من كلام الهدهد
(5)
، والفرق بين القراءتين هو أن القراءة بالتاء
(1)
الدر المصون (8: 598).
(2)
ينظر: معاني القراءات، للأزهري (2: 239)، تفسير السمرقندي (2: 579)، إبراز المعاني من حرز الأماني، لأبي شامة (1: 629)، تفسير أبي حيان (8: 231)، فتح القدير، للشوكاني (4: 155)،
(3)
ينظر: المحرر الوجيز (4: 257).
(4)
ينظر: تفسير القرطبي (13: 188).
(5)
ينظر: تفسير مقاتل بن سليمان (3: 301)، الهداية إلى بلوغ النهاية، لمكي بن أبي طالب (8: 5401)، تفسير الزمخشري (3: 362)، زاد المسير، لابن الجوزي (3: 359)، تفسير أبي حيان (8: 232).::
انتقال مِن الغيبة إلى الخطاب- على قراءة حفص- أو مواصلة للخطاب بعد أمر المخاطبين بالسجود - على قراءة الكسائي-، والقراءة بالياء على الغيبة كالضمائر التي قبلها
(1)
.
قال مكي بن أبي طالب: "فأما قراءة حفص بالتاء فيهما فإنه حمله على الخطاب للمؤمنين والكافرين الذين تقدم ذكرهم على لفظ الغيبة، وحجة من قرأ بالياء أن الكلام قبله جرى على لفظ الغيبة، في قوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل: 24 - 25] فجرى (يخفون) و (يعلنون) على مثال ذلك في لفظ الغيبة، فصار آخر الكلام كأوَّلِه في الغيبة". اهـ
(2)
ولم يتعرض الجمهور إلى التمييز بين القراءتين من الجهة التي ذكرها ابنُ عطية.
وفي تفسيرهم لهذه الآية ذكروا أنها من كلام الهدهد، ويحتمل أن تكون من كلام الله
…
-تعالى-، ثم إن بعض العلماء ساق الاحتمالين دون ترجيح كالفخر الرازي
(3)
، وذهب أغلبهم إلى أنها مِن كلام الهدهد
(4)
.
قال الزمخشري: "وفي إخراج الخبء أمارةٌ على أنه من كلام الهدهد؛ لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض - جلّت قدرته-". اهـ
(5)
(1)
ينظر: معاني القراءات، للأزهري (2: 239)، الحجة للقراء السبعة، للفارسي (5: 385)، حجة القراءات، لابن زنجلة (ص: 528)، الفريد في إعراب القرآن المجيد، للمنتجب الهمذاني (5: 90)، إبراز المعاني من حرز الأماني، لأبي شامة (1: 629)، تفسير أبي حيان (8: 231)، الدر المصون (8: 605)، فتح القدير، للشوكاني (4: 155).
(2)
الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها (2: 158).
(3)
ينظر: تفسير الفخر الرازي (24: 553).
(4)
ينظر: الهداية إلى بلوغ النهاية، لمكي بن أبي طالب (8: 5401)، تفسير الزمخشري (3: 362)، زاد المسير، لابن الجوزي (3: 359)، تفسير أبي حيان (8: 232)، الدر المصون (8: 606).
(5)
تفسير الزمخشري (3: 362).::
وقال ابنُ القيم
(1)
: "وفي ذِكر الهدهدِ هذا الشأنَ من أفعال الرب - تعالى- بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض" اهـ
(2)
، فيفهم من قوله "وفي ذِكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب -تعالى-" أنه يرى أن ما في الآية هو من كلام الهدهد.
والظاهر - والله أعلم- أن ما في الآية من كلام الهدهد في كلا القراءتين؛ بدلالة السياق، فما قبلها هو من كلام الهدهد:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)} [النمل]، وما بعدها هو رد سليمان
…
عليه السلام على الهدهد {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]، وموضوع هذه الآيات هو الحوار الذي دار بين الهدهد وسليمان عليه السلام؛ فالأظهر أن الكلام الذي في الآية كلّه على لسان الهدهد.
(1)
محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرْعِيّ الدمشقيّ، شمس الدين، أبو عبد الله، المعروف بابن قيِّم الجوزية، الإمام، الأصولي، الفقيه، الحنبليّ، من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، برع في علوم كثيرة، منها: أصول الدين، والتفسير، والحديث، والفقه وأصوله، واللغة، له مصنفات كثيرة، منها:(زاد المعاد) و (مفتاح دار السعادة) و (مدارج السالكين) و (إغاثة اللهفان) و (تفسير المعوذتين)، توفي سنة 751 هـ. ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير (18: 523)، ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب الحنبلي (5: 170)، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر (5: 137).
(2)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 71).::