الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسة الاستدراك:
استحسن ابنُ عطية القولَ بأن هناك استفهام مقدر في قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} ، والتقدير: أنحن نسبح بحمدك أم نتغير عن هذه الحال.
وممن ذهب إلى أن فيها استفهامًا مقدرًا: السمعاني
(1)
، والكِرماني
(2)
.
واستعبد السمينُ ذلك؛ لأنه مخالف لما عليه جمهور النحاة؛ حيث قرروا أنه لا يجوز حذف همزة الاستفهام مِن غير ذكر (أم) بعدها.
واكتفى السمين الحلبي بتضعيف هذا القول مِن الناحية النحوية.
وملخص آراء النحويين في هذه المسألة على النحو التالي:
1 -
ذهب الجمهور إلى جواز حذف همزة الاستفهام إذا دلّ عليها الدليل، وهو: ذكر (أم) بعدها، فيستدل بها على أنّ هناك استفهامًا مقدرًا قبلها
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير السمعاني (1: 65).
(2)
ينظر: غرائب التفسير وعجائب التأويل (1: 132).
(3)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (1: 81)، المقتضب، للمبرد (3: 294)، المفصل في صنعة الإعراب، للزمخشري (ص: 438)، شرح الكافية الشافية، لابن مالك (3: 1215)، شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (3: 230).
2 -
تَوسّعَ بعضُ النحويين فقالوا بجواز حذف الاستفهام من الكلام؛ اعتمادًا على قرينة لفظية وهي (أم)، أو معنوية يُعتمد فيها على فطنة السامع
(1)
.
3 -
أجاز الأخفش حذف همزة الاستفهام اختيارًا وإن لم تذكر (أم) المعادلة بعدها، إذا أمن اللبس، فإن أدى الحذف إلى الالتباس فلا يجوز
(2)
.
والصواب أن حذف الاستفهام من الكلام وإن كان جائزًا على قلته وبشروط، فإن ادعاء وجود استفهام مقدر - وهو قول ابن عطية- في قوله:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} مستبعد جدًا وضعيف من عدة أوجه:
1 -
ظاهر الآية لا يدل على أنّ هذه العبارة داخلة في حيّز استفهام مقدّر، بل هي جملة حالية، مقررة للتعجب والاستشكال السابق، ومؤكدة له
(3)
.
قال ابنُ عاشور: "فتكون حالاً مُقرِّرةً لمدلول جملة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ} تكملةً للاستغراب". اهـ
(4)
(1)
ينظر: جامع الدروس العربية، للغلاييني (2: 144).
(2)
ينظر: شرح الكافية الشافية، لابن مالك (3: 1216)، مغني اللبيب، لابن هشام (1: 20)، جامع الدروس العربية، للغلاييني (2: 145).
(3)
ينظر: تفسير البيضاوي (1: 68)، تفسير أبي السعود (1: 82)، تفسير الآلوسي (1: 224).
(4)
التحرير والتنوير (1: 405).::
وقال بعض المفسرين: هذا على طريقة قول من يجِدُّ في خدمة مولاه وهو يأمرُ بها غيرَه: أتستخدمُ العُصاةَ وأنا مجتهدٌ فيها
(1)
، كأنه قيل: أتستخلف مَن شأنُ ذريته الفسادُ مع وجود مَنْ ليس مِن شأنه ذلك أصلاً؟
(2)
والمعنى: أعْلِمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
(3)
.
وسؤالهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ}
…
هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك
(4)
، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خَلْقِ هؤلاء مع أنَّ منهم مَن يُفسدُ في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المرادُ عبادَتك، فنحنُ نُسبِّحُ بحمدك ونقدِّسُ لكَ، ولا يصدر منّا شيءٌ من ذلك الإفساد، وهلاّ وقع الاقتصار علينا؟ فقالَ اللَّهُ مُجيبًا عن هذا السؤال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
(5)
2 -
اللهُ عز وجل أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة، فما علاقة السؤال: أنحن نسبح أم نتغير؟ بذلك الخبر، بل السؤال في مثلِ هذه الحال عن الحكمة مِن ذلك مع اتصفاهم بالتسبيح والتقديس، أي: كيف تجعل خليفة يفسد وليس كحالنا في التسبيح والتقديس.
(1)
ينظر: تفسير الزمخشري (1: 125)، تفسير البيضاوي (1: 68).
(2)
ينظر: تفسير أبي السعود (1: 82).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (1: 470).
(4)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (1: 109)، تفسير الفخر الرازي (2: 392).
(5)
ينظر: تفسير ابن كثير (1: 216).::
فليس السؤال في مثل هذا الموضوع في كونهم يتغيرون أم لا، وهل جعْل خليفة في الأرض يقتضي تغيرهم عن الحال التي هم عليها؟ بل هذا مِن صفاتهم الثابتة التي لا تتغير
(1)
، وقد ثبت بالأدلة أنهم متصفون بالطاعة الكاملة لله - تعالى-، والتسبيح بحمده، والسجود له، وغير ذلك من العبادات.
ومِن الأدلة على ذلك: قوله - تعالى-: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقوله:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، وقوله:{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5].
ثم إن قولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} جملة اسمية، تدل على الدوام، أي: وصفهم الملازم لجبلتهم
(2)
، أي: نحن الدائمون على التسبيح والتقديس.
3 -
السياق لا يدل على ذلك، والسياق يُعتَمَد عليه في الترجيح بين المحتملات
(3)
، والسياق هنا لا يدل على أن معناها: ونحن نسبح أم نتغير، حيث قال بعد ذلك:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، فهذا يدل على أن سؤالهم كان عن الحكمة التي جهلوها فقط، ويبعد أن يكون جواباً لسؤال تقديره: نحن نسبح أم نتغير.
وسياق الآيات في هذا الموضوع فيه إثبات علم الله - سبحانه-
(4)
، وإظهار جهلهم
(5)
: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، فالآيات أثبتت جهلهم عندما جهلوا الأسماء، بينما ليس فيها ما يشير إلى تغيرهم.
(1)
ينظر: تفسير أبي حيان (1: 231).
(2)
ينظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (1: 406).
(3)
ينظر: الإمام في بيان أدلة الأحكام، للعز بن عبد السلام (ص: 159).
(4)
ينظر: فتح القدير، للشوكاني (1: 75).
(5)
ينظر: تفسير الراغب الأصفهاني (1: 147)::
4 -
مِن الناحية النحوية: يُحمل كلام الله على الأوجه الإعرابية الأوضح والأشهر، وينبغي البعد عن الأوجه البعيدة
(1)
، فمذهب الأخفش وإن كان جائزًا فهو بعيد جدًا في مثل هذا الموضع.
5 -
الإعراب الخالي من التقدير والحذف أولى من الإعراب الذي يُدعى فيه ذلك، لأن الحذف خلاف الأصل
(2)
، فلا حاجة للقول بأن هناك استفهامًا محذوفًا تقديره: ونحن نسبح أم نتغير؟
وعليه: فاستدراك السمين على ابن عطية في محله.
* * *
(1)
ينظر: مغني اللبيب، لابن هشام (1: 710)، البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1: 306).
(2)
ينظر: مغني اللبيب، لابن هشام (1: 802)، البرهان في علوم القرآن، للزركشي (3: 104)، الإتقان، للسيوطي (3: 200).::