الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الحملُ جارٍ فيها في جميع أحوالها، أعني مِنْ كونِها موصولةً وشرطيةً واستفهامية". اهـ
(1)
تحليل الاستدراك ودراسته:
(مَن) في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} لفظها: مفرد مذكر، وأريد بها في الآية: الجمع، فروعي اللفظ أولاً {يَقُولُ}: بالإفراد، ثم روعي المعنى {آمَنَّا}: بالجمع، وقال ابن عطية بوقوع ذلك في الآية، إلا إنه لم يُجِز الرجوع مِن لفظ الجمع إلى التوحيد، أي أنه منعَ مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى.
واستدرك عليه السمين؛ فقال بجواز مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى، وإن كانت مراعاة اللفظ أولاً أَوْلى، واستشهد بوقوعه في قوله:
…
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ} [الطلاق: 11] إلى أن قال:
…
{خَالِدِينَ} فراعى المعنى، ثم قال:{قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] فراعى اللفظَ بعد مراعاةِ المعنى. واستشهد أيضا بقول الشاعر:
لستُ مِمَّنْ يَكُعُّ أو يَسْتَكينو
…
ن إذا كافَحَتْهُ خيلُ الأعادي
راعى المعنى في قوله: (أو يَستكينون) ثم راعى اللفظَ في (إذا كافحته).
وممن وافقه في القول بالجواز: الباقولي
(2)
، وعبد الرحمن الأنباري
(3)
، وأبو حيان
(4)
، والسيوطي
(5)
.
(1)
الدر المصون (1: 122).
(2)
ينظر: جواهر القرآن، وهو إعراب القرآن المنسوب خطأ للزجاج (1: 370).
(3)
ينظر: البيان في إعراب غريب القرآن (1: 290).
(4)
ينظر: تفسير أبي حيان (1: 89).
(5)
ينظر: الإتقان في علوم القرآن (2: 343)، همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (1: 339).::
وممن خالفه: المنتجب الهمذاني
(1)
، وابنُ عَجِيبة
(2)
.
قال ابن عجيبة: "وأما إن راعى أولاً المعنى فلا يرجع إلى مراعاة اللفظ؛ لأن مراعاة المعنى أقوى". اهـ
(3)
وفي هذه المسألة تفصيل:
إذا اجتمعَ في الضمائر مراعاةُ اللَّفظِ والمعنى بُدِئَ باللَّفظِ ثُمَّ بالمعنى، وهذا هو الغالب في القرآن وفي كلام العرب، قال - تعالى-:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} ثُمَّ قال: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} أَفردَ أولاً باعتبار اللَّفظِ ثمَّ جَمَعَ باعتبار المعنى، وكَذا في قوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: 25]، وقوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]
(4)
.
(1)
ينظر: الفريد في إعراب القرآن المجيد (1: 148).
(2)
أحمد بن محمد بن المهدي، المعروف بابن عَجِيبة، مفسر صوفي، من أهل المغرب، من مصنفاته:(البحر المديد في تفسير القرآن المجيد) و (الفتوحات القدوسية في شرح المقدمة الأجرومية)، توفي سنة 1224 هـ. ينظر: إتحاف المطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع، لعبدالسلام ابن سودة (1: 104)، فهرس الفهارس، للكتاني (2: 854)، الأعلام، للزركلي (1: 245).
(3)
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (2: 474).
(4)
ينظر: الإتقان، للسيوطي (2: 342)، الكليات، للكفوي (ص: 568).::
قال ابنُ جنيّ: "واعلم أن العرب إذا حملت على المعنى لم تكد تراجع اللفظ، كقولك: شكرت من أحسنوا إلي على فعله". اهـ
(1)
ويجوز البدء بالمعنى كقول القائل: مَن قَامَت وَقعد، وذلك قليل، وقيل بمنعه، وشَرطَ قومٌ لجوازه وقوع الفصل بين الجملتين، نَحْو: من يقومونَ في غير شَيء وينظر في أمرنا قومك
(2)
.
والذين قالوا بالمنع عللوه بأنه يكون إلباساً بعد البيان، بخلاف اعتبار اللفظ ثم المعنى فإنه يكون تفسيرًا
(3)
.
قال الرَّضِيّ
(4)
: "وأما تقديم مراعاة المعنى على مراعاة اللفظ مِن أولِ الأمر، فنقل أبو سعيد
(5)
عن بعض الكوفيين منعَه، والأَولى: الجواز على ضعف". اهـ
(6)
(1)
الخصائص (2: 422).
(2)
ينظر: همع الهوامع، للسيوطي (1: 339).
(3)
ينظر: حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1: 222).
(4)
محمد بن الحسن، الرَّضِيّ الأسْتَراباذي، نجم الدين، من أهل أَسْتَراباذ من أعمال طبرستان، عالم بالعربية، اشتهر بكتابيه:(الوافية في شرح الكافية، لابن الحاجب) و (شرح مقدمة ابن الحاجب)، توفي سنة 684 أو 686 هـ. ينظر: معجم البلدان، لياقوت الحموي (1: 175)، خزانة الأدب، لعبد القادر البغدادي (1: 28)، الأعلام للزركلي (6: 86).
(5)
الحسن بن عبد الله بن المَرْزُبَانِ السِّيرافي، أبو سعيد، القاضي، النحوي، الأديب، كان من أعلم الناس بنحو البصريين، من تصانيفه: أخبار النحويين البصريين، وشرح كتاب سيبويه (مخطوط)، توفي سنة 368 هـ. ينظر: تاريخ بغداد، للبغدادي (7: 352)، نزهة الألباء في طبقات الأدباء، للأنباري (ص: 227)، وفيات الأعيان، لابن خلكان (2: 78).
(6)
شرح الرضيّ على الكافية (3: 58).::
ولم يرد في القرآن البدء بالحمل على المعنى إلا في موضعٍ واحد
(1)
وهو قوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139]
(2)
فأنّثَ حملاً على معنى (ما) فقال: {خَالِصَةٌ} ثم راعى اللَّفظَ فَذَكَّرَ فقال: {وَمُحَرَّمٌ}
(3)
.
وقد يعتبر اللفظ ثم المعنى ثم اللفظ نحو:
…
(4)
؛ روعي لفظ (مَن) أولاً في ثلاثة ضمائر في: {يَشْتَرِي} و {لِيُضِلَّ} و {وَيَتَّخِذَهَا} ،
(1)
ينظر: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (2: 342).
(2)
قيل: المراد بما في بطون الأنعام: ألبانها، وقيل: أجنتها، واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أنثت (خالصة)؛ فقال بعضهم: أنثت لتحقيق المبالغة كقولهم: (نسّابة) و (علاّمة)، وقال آخرون: أنثت لتأنيث الأنعام، لأن ما في بطونها مثلها، فأنثت لتأنيثها. وقيل: أنث خالصة حملاً على معنى ما؛ لأن المراد بما في بطون هذه الأنعام: الأجنة. ينظر: معاني القرآن، للفراء (1: 358)، تفسير عبد الرزاق (2: 67)، تفسير الطبري (12: 148)، البيان في إعراب غريب القرآن، للأنباري (1: 290)، تفسير ابن كثير (3: 346).
(3)
قال مكي بن أبي طالب في الهداية إلى بلوغ النهاية (3: 2204): "وهذه الآية تقدم الحمل فيها على المعنى فقال: (خالِصَة)، ثم حمل بعد ذلك على اللفظ فقال: (وَمُحَرَّمٌ) "، ونظَّره بقوله - تعالى-:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ويعقوب: (سَيِّئَةً) مؤنثةً منونةً؛ فقال: " قال أولاً (سَيئةً) فأنث وحمل على معنى (كل)، لأنها اسم لجميع ما تقدم مما نهى عنه من الخطايا، ثم قال بعد ذلك (مَكْروهاً)، فذكّر على لفظ (كل) "، ونظره أيضاً بقوله:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 12، 13]؛ قال: " فجمع الظهور حملاً على معنى (ما)، ووحّد الهاء حملاً على لفظ (ما) " اهـ. وقد جعل ابن عاشور هذا الأسلوب من باب التفنن، ينظر: التحرير والتنوير (1: 117).
(4)
ينظر: حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك (1: 221).::
وروعي معناها في موضعين، وهما:{أُولَئِكَ} و {لَهُمْ} ، ثم رُجع إلى اللفظ في ضمائر الآية التي تليها، أولها:{تُتْلَى عَلَيْهِ} وآخرها {فَبَشِّرْهُ}
(1)
.
قال ابنُ خَالَوَيه: "ليس في كلامِ العرب ولا في شيءٍ مِنَ العربية ما رُجع من معناه إلى لفظه إلا في حرف واحد استخرجه ابنُ مجاهد من القرآن، وهو قوله- تعالى-: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} فوَحَّدَ يؤمن وذكّره على لفظ (مَن)، وكذلك {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ}، ثم قال: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} فجمع خالدين على معنى (مَن) ثم قال: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] فرجع بعد الجمع إلى التوحيد". اهـ
(2)
والراجح: جوازُ مراعاةِ اللَّفظِ تارةً، ومراعاة المعنى تارةً أخرى مطلقاً، خلافاً لمن رأى أَنَّ مراعاةَ اللَّفظِ بعدَ مراعاةِ المعنى لا تصحُّ، وفي آية سورة الطلاق رَدٌّ على مَن رأى أن مراعاةَ المعنى لا تجوزُ بَعدَهَا مراعاةُ اللَّفظِ
(3)
؛ فَإِنَّهُ فِي تلك الآية راعى لفظَ (مَنْ) أولاً؛ فأفردَ الضَّميرَ في قوله: {يُؤْمِنْ} ، وقوله:{وَيَعْمَلْ} ، وقوله:{يُدْخِلْهُ} ، وراعى المعنى في قوله:{خَالِدِينَ}
…
فأتى فيه بصيغة الجمع، ثم راعى اللَّفظَ بعد ذلك في قوله:{قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] فأفرد
(4)
.
(1)
ينظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحي الدين الدرويش (6: 77).
(2)
ليس في كلام العرب (ص: 219).
(3)
ينظر: البيان في إعراب غريب القرآن، للأنباري (1: 290).
(4)
ينظر: أضواء البيان، لمحمد الأمين الشنقيطي (3: 313)، دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، للشنقيطي أيضاً (ص: 240).::
وكذا في قوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] ردٌ على من منع ذلك؛ لأنه أنث فقال: {خَالِصَةٌ} حملاً لها على معنى التأنيث، ثم عاد إلى اللفظ فقال:{وَمُحَرَّمٌ}
(1)
.
ويُرد عليهم أيضاً بما ورد في سورة الزخرف: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)} في قراءة مَن أفرد الضمير في {جَاءَنَا}
(2)
: أفرد في {يَعْشُ} وفي {نُقَيِّضْ لَهُ} وفي {فَهُوَ لَهُ} ، ثم جمع في {لَيَصُدُّونَهُمْ} ، و {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ، ثم أفرد في {جَاءَنَا}
(3)
.
قال أبو حيان: "أعادَ أولاً على اللفظ، ثم جمع على المعنى، ثم أفرد على اللفظ". اهـ
(4)
(1)
ينظر: إعراب القرآن، للباقولي (1: 371).
(2)
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: {جَاءَانَا} على التثنية، أي: مَن عشي عن ذكر الرحمن، والشيطان المقارن له، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم:{جَاءَنَا} على فعل الواحد، أي: من عشي عن ذكر الرحمن. ينظر: السبعة في القراءات، لابن مجاهد (ص: 586)، تفسير الطبري (21: 605)، التيسير في القراءات السبع، للداني (ص: 196)، تفسير أبي حيان (9: 374)، النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (2: 369)، فتح القدير، للشوكاني (4: 637).
(3)
ينظر: التذييل والتكميل في شرح التسهيل، لأبي حيان (3: 116)، و (مَن) في الآية شرطية وحكمها حكم الموصولة.
(4)
تفسير أبي حيان (9: 374).::
ويرُد عليهم أيضاً بما جاء في الآيتين من سورة لقمان السابق ذكرهما، وببيت الشعر الذي ذكره أبو حيان، ونقله عنه السمين.
وقد ورد في القراءات الشاذة ما يدل على جواز البدء بمراعاة المعنى ثم اللفظ، ففي قوله:{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب: 31] قرأ بعضهم: (تقنت) بالتاء؛ مراعاة للمعنى، و (يعمل) بالياء؛ مراعاة للفظ
(1)
.
وعليه: فاستدراك السمين وارد على ابن عطية؛ إذ أنّ مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى جائزة، ولها ما يشهد لها كما تمّ بيانه.
* * *
(1)
تفرد بنقلها أبو البقاء، ولم ينسبها لقارئ معين، ونقلها عنه بعض العلماء. ينظر: التبيان في إعراب القرآن (2: 1056)، إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث، لأبي البقاء (ص: 32)، الدر المصون (9: 117)، تفسير الآلوسي (11: 184).::