الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال السمين الحلبي: "و (مِنْ) فيها وجهان، أحدهما: أنها للتبعيض، ولذلك لا يجوز لها أن تَهَبَهُ كلَّ الصَّداق، وإليه ذهب الليث
(1)
.
والثاني: أنها للبيان، ولذلك يجوزُ أن تَهَبَه كل الصَّداق، قال ابن عطية:"و (مِنْ) لبيان الجنس هاهنا، ولذلك يجوز أن تَهَبَ المهر كله، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك" انتهى، وقد تقدَّم أن الليث يمنع ذلك فلا يُشْكِل كونها للتعبيض". اهـ
(2)
دراسة الاستدراك:
موضوع الاستدراك هو معنى (مِن) في قوله - تعالى-: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ، والقول في (مِن) مرتبط بمسألة فقهية وهي: هل يجوز للمرأة أن تهب جميعَ الصداق لزوجها؟
وللعلماء في حكم ذلك وفي معنى (مِن) هنا قولان:
1 -
أن (مِن) لبيان الجنس، أي: فإن طبنَ عن شيء مِن هذا الجنس الذي هو مَهر أو صداق.
فيجوز للمرأة هبةَ الصداق كله للزوج.
(1)
الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْمِيّ، أبو الحارث، الإمام، الحافظ، عالم الديار المصرية، مِن كبار الفقهاء، عُرف بورعه وكرمه وسخائه، قال الشافعيّ:"الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به"اهـ، توفي سنة 175 هـ. ينظر: الطبقات الكبرى، لابن سعد (7: 358)، مشاهير علماء الأمصار، لابن حبان (ص: 303)، سير أعلام النبلاء، للذهبي (8: 136).
(2)
الدر المصون (3: 572).::
قاله: الزجّاج
(1)
، والسمعاني
(2)
(3)
، وابن عطية
(4)
، وابن الجوزي
(5)
، والفخر الرازي
(6)
، وغيرهم
(7)
.
قال الزجّاج: "فإن قال قائل: إنما قيل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} فكيف يجوز أن يقبل الرجلُ المهرَ كلَّه، وإنما قيل له {مِنْهُ}؟ فالجواب في ذلك: أنّ {مِنْهُ} هاهنا للجنس، لما قال عز وجل: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]؛ فلم نؤمر أن نجتنب بعضَ الأوثان، ولكن المعنى اجتنبوا الرجس الذي هو وثن، أي فكلوا الشيءَ الذي هو مَهْر". اهـ
(8)
وقال السمعاني: "و (مِن) للتخيير هاهنا، لا للتبعيض؛ حتى يجوز للمرأة هبة كل الصَّداق". اهـ
(9)
(1)
ينظر: معاني القرآن وإعرابه (2: 13).
(2)
منصور بن محمد بن عبد الجبَّار السَّمْعَانِيّ التَّمِيْمِيّ المَرْوَزِيّ، أبو المُظَفَّر، الإمامُ، العلاّمة، المفسّر، الفقيه الشافعي، صنف كتاباً في تفسير القرآن، وله أيضاً:(الانتصار لأصحاب الحديث) و (القواطع في أصول الفقه)، توفي سنة 489 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (19: 114)، طبقات الشافعية، للسبكي (5: 335)، طبقات المفسرين، للأدنه وي (1: 143).
(3)
ينظر: تفسير السمعاني (1: 397).
(4)
ينظر: المحرر الوجيز (2: 9).
(5)
ينظر: زاد المسير في علم التفسير (1: 370).
(6)
ينظر: تفسير الفخر الرازي (9: 493).
(7)
ينظر: أحكام القرآن، للجصاص (2: 351)، أحكام القرآن، لابن العربي (1: 264، 414)، تفسير الخازن (1: 340)، الإكليل في استنباط التنزيل، للسيوطي (ص: 78)، تفسير آيات الأحكام، لمحمد السايس (ص: 214)، الفقه الإسلامي وأدلته، للزحيلي (7: 315).
(8)
معاني القرآن وإعرابه (2: 13).
(9)
تفسير السمعاني (1: 397).::
2 -
أن (مِن) تبعيضية، أي: مِن بعضِ الصداق، لأنه لا يجوز أن تهب الزوجَ إلا اليسير مِن الصداق، وهذا رأي الليث بن سعد في هذه المسألة.
قاله: أبو حيان
(1)
، والسمين الحلبي
(2)
.
قال أبو حيان: "وظاهر (مِن) التبعيض، وفيه إشارة إلى أنّ ما تَهَبُهُ يكونُ بعضًا مِن الصداق، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنّه لا يجوز تبرعها له إلا باليسير". اهـ
(3)
والراجح: أن (مِن) لبيان الجنس وليست للتبعيض، وما ذهب إليه الليث بن سعد مِن أنه لا يجوز تبرعها إلا باليسير لا دليل عليه، بل الظاهر جواز تبرعها بالصداق كله أو بأكثره أو بالقليل منه، كل ذلك جائز بشرط أن تهبه عن طيب نفس، فإن وهبت الزوج كل الصداق عن طيب نفس جاز له أن يأخذه، وهذا رأي جمهور الفقهاء
(4)
.
(1)
ينظر: تفسير أبي حيان (3: 512).
(2)
ينظر: الدر المصون (3: 572).
(3)
تفسير أبي حيان (3: 512).
(4)
ينظر: أحكام القرآن، للجصاص (2: 351)، أحكام القرآن، للكيا الهراسي (2: 324)، أحكام القرآن، لابن العربي (1: 264، 414)، الإكليل في استنباط التنزيل، للسيوطي (ص: 78)، تفسير آيات الأحكام، لمحمد السايس (ص: 214)، الزواج في ظل الإسلام، لعبد الرحمن اليوسف (ص: 75)، الفقه الإسلامي وأدلته، لوهبة الزحيلي (7: 315).::
ولكلٍّ دليله، فأمّا جواز هبة الصداق كله فيدل عليه ما رواه ابنُ عباس أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذه الآية فقال:(إذا جادَت المرأة لزوجها بالعطية غير مكرهة، لا يقضي به عليه سلطان، ولا يُؤاخِذ اللهُ به في الآخرة)
(1)
.
فقال: (بالعطية) ولم يخصص ذلك باليسير منها.
وأمّا جواز هبة بعض الصداق فيشهد لذلك ما قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "إذا اشتكى أحدكم شيئًا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحوها، فليشترِ بها عسلاً، وليأخذ مِن ماء السماء، فيجتمع هنيئًا مريئًا، وشفاءً مُباركًا".
(2)
يعني أن الله سبحانه وتعالى سمّى ما وهبته المرأة لزوجها هنيئًا مريئًا، وسمّى العسل شفاء
(3)
، وسمّى ماء المطر مباركًا
(4)
.
وعليه: فقول ابن عطية بأن (مِن) تتضمن الجنس هو الراجح، واستدراك السمين عليه واحتجاجه برأي الليث بن سعد ليس في محله.
* * *
(1)
رواه الثعلبي في تفسيره (3: 250)، ورواه الواحدي في البسيط (2: 11)، وذكره الزمخشري في تفسيره (1: 471)، والقرطبي في تفسيره (5: 27)، ولم أجده في كتب السنة، وفي إسناده رجل ضعيف وهو جويبر بن سعيد البلخي، وهو معدود مِن الذين يُكتب عنهم التفسير، ولا يُحمد حديثهم. ينظر: ميزان الاعتدال، للذهبي (1: 427)، وقال عنه ابن حجر في التقريب (ص: 143): "راوي التفسير، ضعيف جدا" اهـ.
(2)
تفسير ابن المنذر (2: 560)، تفسير ابن أبي حاتم (3: 862)، تفسير السمرقندي (1: 281)، تفسير السمعاني (1: 397)، الدر المنثور، للسيوطي (2: 432).
(3)
قال - تعالى- عن العسل: {شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69].
(4)
قال - تعالى-: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9].::