الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال السمين الحلبي: "قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ}: في هذا الموصولِ وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو منصوبٌ بإضمار «أمدح»، وهو على هذين التقديرين مِن كلام الله -تعالى- لا مِن كلام موسى، وإنما احْتجنا إلى ذلك لأنَّ قولَه: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ}، وقوله: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 54]، وقولَه: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] إلى قولِه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} [طه: 56] لا يَتَأتَّى أن يكونَ مِن كلام موسى؛ فلذلك جعلناه من كلام الباري - تعالى-".
ثم قال في الوجه الثاني: "وقال ابن عطية: إن كلامَ موسى تمَّ عند قوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، وإنَّ قولَه: {فَأَخْرَجْنَا} إلى آخره مِنْ كلام الله - تعالى-. اهـ، وفيه بُعْدٌ ". اهـ
(1)
دراسة الاستدراك:
في قوله - تعالى-: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} تعددت أقوال المفسرين؛ هل هذا كله من تمام كلام موسى عليه السلام أم أنّ كلام موسى ينتهي عند قدر معين؟
للمفسرين في ذلك ثلاثة أقوال رئيسة:
1 -
أنّ كلام موسى عليه السلام قد تمّ عند قوله: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، وما بعده مِن كلام الله -تعالى-.
(1)
الدر المصون (8: 51).
قاله: السمعاني
(1)
، والفخر الرازي
(2)
، وأبو حيان
(3)
، وغيرهم
(4)
.
قال السمعاني: "قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} ابتداء كلام من الله". اهـ
(5)
وقال الفخر الرازي: "كلام موسى عليه السلام تمَّ عند قوله: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} ثُمَّ ابتدئَ كلام اللَّه -تعالى- من قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} ". اهـ
(6)
وقال أبو حيان في ترجيحه لهذا القول: "وإنّما ذهبنا إلى أنّ هذا هو مِن كلام الله
…
-تعالى-؛ لقوله -تعالى-: {فَأَخْرَجْنَا} وقوله: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 54]، وقوله:{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} [طه: 56] ". اهـ
(7)
يعني أنّ هذا لا يتأتى أن يكون مِن كلام موسى، فلذلك جَعَلوه من كلامِ الله
…
عز وجل.
(1)
ينظر: تفسير السمعاني (3: 335).
(2)
ينظر: تفسير الفخر الرازي (22: 61).
(3)
ينظر: تفسير أبي حيان (7: 343).
(4)
ينظر: تفسير السمرقندي (2: 402)، الدر المصون (8: 50)، تفسير أبي السعود (6: 21)، تفسير الآلوسي (8: 518)، التحرير والتنوير، لابن عاشور (16: 235)، الجدول في إعراب القرآن، لمحمود صافي (25: 71).
(5)
تفسير السمعاني (3: 335).
(6)
تفسير الفخر الرازي (22: 61).
(7)
تفسير أبي حيان (7: 343).
2 -
أنّ كلام موسى عليه السلام تمّ عند قوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} ، وما بعده مِن كلام الله - تعالى-.
قاله: مكي بن أبي طالب
(1)
، وابن عطية
(2)
، وغيرهما
(3)
.
قال مكي: " {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا} خرج إلى الإخبار عن الله - جَلّ ذِكرُه-، لأن كلام موسى مع فرعون انتهى إلى قوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، ثم أخبر الله -تعالى- عن نفسه بجميل صنعه لخلقه في معاشهم ومعاش أنعامهم فقال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ". اهـ
(4)
وضعّف هذا الوجه عددٌ من العلماء، منهم: الفخر الرازي
(5)
، وأبو حيان
(6)
، والسمين الحلبي
(7)
؛ لأنه خلاف الظاهر، وفيه إفساد للنظم، وتفويت للالتفات؛ لعدم إتحاد المتكلم
(8)
.
(1)
ينظر: الهداية إلى بلوغ النهاية (7: 4651).
(2)
ينظر: المحرر الوجيز (4: 48).
(3)
ينظر: تفسير ابن جزي (2: 9)، البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، لابن عجيبة (3: 394)، فتح القدير، للشوكاني (3: 436).
(4)
الهداية إلى بلوغ النهاية (7: 4651).
(5)
ينظر: تفسير الفخر الرازي (22: 60).
(6)
ينظر: تفسير أبي حيان (7: 343).
(7)
ينظر: الدر المصون (8: 50).
(8)
ينظر: تفسير أبي السعود (6: 21).
وقد جعل الزمخشري ما جاء في هذه الآية من باب الالتفات من لفظ الغائب إلى المتكلم؛ حيث قال: " {فَأَخْرَجْنَا} انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع، لما ذكرت من الافتنان والإيذان بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره، وتذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئته، لا يمتنع شيء على إرادته".اهـ
(1)
وناقشه ابنُ المُنيّر بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد يُصرّف كلامه على وجوه شتى، وهذا ليس منه، فإن الله قصَّ عن موسى قولَه لفرعون:{عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] ثم قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} إلى قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} إمّا أن يُجعل مِن قول موسى فيكون من باب قول خواص الملك أي: أمرنا وفعلنا، وليس هذا بالتفات، وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله:{وَلَا يَنْسَى} ، ثم ابتدأ الله -تعالى- وصف ذاته، فليس التفاتاً أيضاً، وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب
(2)
.
3 -
أنّ ما جاء في الآية كله من تمام كلام موسى عليه السلام.
(1)
تفسير الزمخشري (3: 68).
(2)
ينظر: حاشية ابن المنير على تفسير الزمخشري (3: 68).
ذكره بعض العلماء وجهاً محتملاً، منهم: مكي بن أبي طالب
(1)
، والقرطبي
(2)
.
قال مكي: "وقيل: كله من كلام موسى، أخبر موسى عن نفسه ومَن معه بالزراعة والمعالجة في الحرث، فالماء هو سبب خروج النبات وبه تمّ وكمل، والمعالجة في الحرث لبني آدم بعون الله لهم وإقداره إياهم على ذلك، فلذلك أخبر عن نفسه فقال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا}، وقد قال - تعالى-: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] فأضاف الحرث إلى الخلق، وهو الزارع المنبت للحرث لا إله إلا هو". اهـ
(3)
وضّعف هذا القول: الفخر الرازي
(4)
، وأبو حيان
(5)
، وغيرهما
(6)
؛ لأنّ في الآية ما يبعد أن يكون من كلام موسى عليه السلام.
قال الفخر الرازي: "لأنّ قولَه بعد ذلك: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه: 54 - 55] لا يليق بموسى
…
عليه السلام، وأيضًا فقوله:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53] لا يليق بموسى؛ لأن أكثر ما في قدرة موسى عليه السلام صَرْفُ المياه إلى سَقْي الأراضي، وأمّا إخراجُ النبات
(1)
ينظر: الهداية إلى بلوغ النهاية (7: 4651).
(2)
ينظر: تفسير القرطبي (11: 209).
(3)
الهداية إلى بلوغ النهاية (7: 4651).
(4)
ينظر: تفسير الفخر الرازي (22: 61).
(5)
ينظر: تفسير أبي حيان (7: 343).
(6)
ينظر: الدر المصون (8: 50)، التحرير والتنوير، لابن عاشور (16: 235).
على اختلاف ألوانها وطبائعها فليس من موسى عليه السلام فثَبَتَ أنّ هذا كلام اللَّه".اهـ
(1)
ووجّه بعضهم هذا القول بأنه مِن كلام موسى- عليه السلام على أن يكون قد سمعه من الله عز وجل فأدرجه بعينه في كلامه، ولذا قال:{لَكُمُ} دون: لنا، وهو من قبيل الاقتباس
(2)
.
والراجح من هذه الأقوال: القول الأول وهو أنّ كلام موسى عليه السلام قد تمّ عند قوله: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} ، وما بعده جملة مستأنفة من كلام الله -تعالى-.
وجعْلُ قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} من كلام موسى، وما بعده:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} من كلام الله - وهو قول ابن عطية- خلافُ الظاهر
(3)
، وفيه إفساد للنظم، فالفاء في {فَأَخْرَجْنَا} متعلقة بما قبلها، فلا يجوز جَعْلُ هذا كلام الله -تعالى- وجَعْلُ ما قبله كلام موسى عليه السلام
(4)
.
(1)
تفسير الفخر الرازي (22: 61).
(2)
ينظر: تفسير الآلوسي (8: 518).
(3)
ينظر: تفسير أبي السعود (6: 21).
(4)
ينظر: تفسير الفخر الرازي (22: 61).
أمّا جعْلُ الكلام كله من تمام كلام موسى فهو بعيد أيضًا؛ إذ لا يناسب ذلك تفريع: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53]، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]
(1)
؛ فالراجح أن ذلك من كلام الله لا مِن كلام موسى.
وعليه: فاستدراك السمين على ابن عطية في محله، لاسيما وأن ابن عطية قد اكتفى بذكر ذلك الاحتمال المرجوح، ولم يُشر إلى الأقوال الأخرى.
* * *
(1)
ينظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (16: 235).