الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشام {شُرَكَائِهِمْ} بالياء؛ فدلَّ ذلك أنها مخفوضة، ثم أثبت صحة الفصل بين المضاف والمضاف إليه من الناحية النحوية، وجعل الذين تعرضوا لقراءة ابن عامر على قسمين: منهم مَن ضعّف القراءة، ومنهم مَن جهّل القارئ، وكلاهما على خطأ؛ إذ لا يجوز إنكار قراءة صحّت عن إمام من أئمة المسلمين، ثم ردّ على الزمخشري في تضعيفه لهذه القراءة
(1)
.
دراسة الاستدراك:
أولاً: قراءة ابن عامر:
قرأ ابن عامر: {زُيّنَ لكثيرٍ مِن المشركين قتلُ أولادَهم شركائِهم} : بضم الزَّاي وكسر الياء مِن {زُيِّنَ} : مبني للمفعول، ورفع لام {قَتْلُ}: نائب فاعل وهو مضاف، ونصب دالِ {أَولادَهُمْ} وهي مفعول للمصدر {قتلُ} ، وخفض همزة {شُرَكَائِهِمْ} بإضافة {قَتْلُ} إليه، وهو فاعل في المعنى
(2)
.
(1)
ينظر: إبراز المعاني من حرز الأماني (1: 461 - 466).
(2)
ينظر:: السبعة، لابن مجاهد (ص: 270)، التيسير، للداني (ص: 107)، تفسير البغوي (2: 162)، زاد المسير، لابن الجوزي (2: 81)، تفسير أبي حيان (4: 657)، النشر، لابن الجزري (2: 263).
وبذلك تكون قراءة ابن عامر على الفصل بين المضاف {قَتْلُ} والمضاف إليه {شُرَكَائِهِمْ} بالمفعول {أَولادَهُمْ}
(1)
.
وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء؛ لأن الشركاء هم الذين زينوا ذلك وَدَعَوْا إليه، فالفعل مضاف إلى فاعله على ما يجب في الأصل، لكنه فَرَّقَ بين المضاف والمضاف إليه، وقدّم المفعولَ وترَكَه منصوباً على حاله؛ إذ كان متأخرًا في المعنى، وأخَّرَ المضافَ وتَرَكَهُ مخفوضاً على حاله؛ إِذْ كان متقدمًا بعد القتل، والتقدير: وكذلك زُيِّنَ لكثير مِن المشركين قَتْلُ شُرَكَائِهِم أولادَهُم
(2)
.
ثانيًا: أقوال العلماء في قراءة ابن عامر:
رَأْيُ العلماء في قراءة ابن عامر مبني على رأيهم في مسألة الفصل بين المتضايفين بغير الظرف والجار والمجرور؛ فمن أجاز ذلك لم يضعف القراءة، ومَن منع ذلك ضعّف القراءة ورَدّها.
فمن الناحية النحوية أجاز الكوفيون الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وبالجار والمجرور وغيرهما في الشعر والنثر على السواء، ومنع جمهور البصريين الفصل بين المتضايفين بغير الظرف والجار والمجرور؛ محتجين بأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد،
(1)
ينظر: التفسير الوسيط، للواحدي (2: 327)، الإنصاف، للأنباري (2: 352).
(2)
ينظر: تفسير البغوي (2: 162)، تفسير القرطبي (7: 93)، التحرير والتنوير، لابن عاشور (8: 102).
فلا يجوز أن يُفصل بينهما، وإنما جاز الفصل بينهما بالظرف وحروف الجر لاتساع العرب فيهما
(1)
.
وقد ضعَّف قراءة ابن عامر عدد من المفسرين والنحويين، منهم: الفراء
(2)
- وهو كوفي-، والطبري
(3)
، والنحَّاس
(4)
، والفارسي
(5)
، ومكي بن أبي طالب
(6)
، والزمخشري
(7)
، وابن عطية
(8)
، وأبو البقاء
(9)
، وغيرهم
(10)
.
قال الشوكاني
(11)
بعد أن أنكر تواتر هذه القراءة: "فمن قرأ بما يخالف الوجهَ النحوي فقراءته رد عليه، ولا يصح الاستدلالُ لصحة هذه القراءة بما ورد مِن الفصل في النظم". اهـ
(12)
(1)
ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف، للأنباري (2: 352)، إبراز المعاني من حرز الأماني، لأبي شامة (1: 464)، تفسير أبي حيان (4: 657)، همع الهوامع، للسيوطي (2: 526)، فتح القدير، للشوكاني (2: 188)، إعراب القرآن وبيانه، لمحيي الدين الدرويش (3: 240)
(2)
ينظر: معاني القرآن (2: 81).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (12: 137 - 138).
(4)
ينظر: إعراب القرآن (2: 33).
(5)
ينظر: الحجة للقراء السبعة (3: 411).
(6)
ينظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع (1: 454)، مشكل إعراب القرآن (1: 309).
(7)
ينظر: تفسير الزمخشري (2: 70).
(8)
ينظر: المحرر الوجيز (2: 350)
(9)
ينظر: التبيان في إعراب القرآن (1: 541).
(10)
الأزهري في معاني القراءات (1: 389)، والأنباري في البيان في إعراب غريب القرآن (1: 289)، والفخر الرازي في تفسيره (13: 159)، والبيضاوي في تفسيره (2: 184).
(11)
محمد بن علي بن محمد الشَّوْكَاني، القاضي، الفقيه، المجتهد، من كبار علماء اليمن، له مصنفاته كثيرة، منها:(فتح القدير: الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير)، (نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار) في شرح أحاديث الأحكام، توفي سنة 1250 هـ. ينظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للشوكاني (2: 215)، أبجد العلوم، للقنوجي (1: 683 - 686)، الأعلام، للزركلي (6: 298).
(12)
فتح القدير (2: 189).
وفي المقابل دافع عن هذه القراءة وأثبت صحتها لغةً عددٌ من العلماء منهم: أبو شامة
(1)
، وابن المنير
(2)
الإسكندري
(3)
، وأبو حيان
(4)
، والسمين الحلبي
(5)
، وابن الجزري
(6)
، والسيوطي
(7)
، وغيرهم
(8)
.
وقد استخدم السمين أكثر من طريقة في دفاعه عن قراءة ابن عامر:
1.
بإثبات تواترها وصحة نقلها، وبالتالي عدم جواز ردها أو تضعيفها.
2.
بالدفاع عن قارئها ابن عامر، وبيان مكانته، وعلو سنده.
(1)
ينظر: إبراز المعاني من حرز الأماني (1: 461 - 466).
(2)
أحمد بن محمد بن منصور الجُذَامِيّ الإسْكَنْدراني، ناصر الدين، أبو العباس، المعروف بابن المُنَيِّر، العلاّمة، المالكيّ، الأديب، القاضي، المفسّر، من كبار علماء الإسكندرية، من أشهر مصنفاته: الانتصاف من الكشاف؛ رد فيه على الزمخشري، توفي سنة 683 هـ. ينظر: العبر في خبر من غبر، للذهبي (3: 352)، الديباج المذهب، لابن فرحون (ص: 71)، بغية الوعاة، للسيوطي (1: 384).
(3)
ينظر: تفسير الكشاف وبذيله الانتصاف لابن المنير (2: 53 - 54).
(4)
ينظر: تفسير أبي حيان (4: 657).
(5)
ينظر: الدر المصون (5: 161 - 178).
(6)
ينظر: النشر في القراءات العشر (2: 263 - 265).
(7)
ينظر: همع الهوامع (2: 523 - 528).
(8)
ابن مالك في شرح التسهيل (3: 277)، وابن هشام في أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (3: 152)، والشهاب في حاشيته على تفسير البيضاوي (4: 127)، وابن عاشور في التحرير والتنوير (8: 102 - 103).
3.
بإثبات صحتها من الناحية النحوية
(1)
.
ثالثاً: حكم هذه القراءة:
الصواب أن قراءة ابن عامر صحيحة نقلاً ولغة -كما قال السمين-، والراجح جواز الفصل بين المتضايفين بالمفعول؛ لوجوده في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي المحض ابن عامر، الذي أخذ القرآن عن الصحابة قبل أن يظهر اللحن في اللسان العربي
(2)
.
وقراءة ابن عامر مؤيدة بقراءة أخرى؛ فقد قرأ بعض السلف
(3)
: {فلا تحسبنَ الله مخلفَ وعدَه رسلِه} [إبراهيم: 47] بنصب (وعدَه) وخفض (رسلِه).
(4)
وقد جاء ذلك في كلام العرب شعرًا
(5)
ونثرًا
(6)
، ومن الشواهد الدالة على صحة ما جاء في قراءة ابن عامر:
(1)
ينظر: الدر المصون (5: 161 - 178).
(2)
ينظر: تفسير أبي حيان (4: 657)، النشر، لابن الجزري (2: 263).
(3)
قرأ الجمهور: {مخلف وعدِه رسلَه} بإضافة مخلف إلى وعده ونصب رسله، وقرأ جماعة (مخلف وعدَه رسلِه) بنصب وعده وجر رسله، ولم ينسبها أهل التفسير والقراءات لقارئ معين. ينظر: تفسير الزمخشري (2: 566)، تفسير ابن عطية (3: 346)، تفسير أبي حيان (6: 456)، النشر، لابن الجزري (2: 265)، فتح القدير، للشوكاني (3: 142).
(4)
ينظر: إبراز المعاني، لأبي شامة (1: 464)، النشر، لابن الجزري (2: 265)، الإتحاف، للدمياطي (ص: 274).
(5)
كما في بيت الطرماح وأبي حية النميري السابق ذكرهما، وكما في البيت الذي أنشده بعض العلماء دون نسبة: نرى أسهماً للموت تُصْمي ولا تُنْمي
…
ولا تَرْعوي عن نقضِ أهواؤنا العزمِ؛ الشاهد: "نقض أهواؤنا العزم" حيث فصل بين المضاف وهو "نقض" وبين المضاف إليه وهو "العزم" مع أن الفاعل متعلق بالمضاف، والتقدير: عن نقض العزم أهواؤنا. ينظر: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، للمرادي (2: 830)، الدر المصون، للسمين الحلبي (5: 173).
(6)
في ثنايا الدراسة ذكرٌ لبعض الأقوال التي نقلت عن العرب وفيها فصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وبغيره.
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (هل أنتم تاركو لي صاحبي؟)
(1)
؛ فإن قوله: (تاركو) مضاف، وقوله:(صاحبي) مضاف إليه، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور الذي هو قوله:(لي)
(2)
.
قال ابن الجزري: "فصَلَ بالجار والجرور (لي) بين اسم الفاعل (تاركو) ومفعوله (صاحبي)، مع ما فيه مِن الضمير المنوي، ففصْلُ المصدرِ بخُلُوِّه مِن الضمير أولى بالجواز"
(3)
.
وقد سُمع من بعض العرب: "هذا غلامُ - والله- زيدٍ"؛ فصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالقسم
(4)
.
وفي قولهم: " تَرْكُ يَوْمًا نَفسِك وهواها سعيٌ لَهَا فِي رَداها" فصْلٌ بين المضاف (ترك) والمضاف إليه في (نفسك) بالظرف (يوماً)
(5)
.
وقد فَصَلُوا بينهما بالجملة في قولهم: "هُوَ غُلامُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَخِيكَ"، فالفصل بالمفرد أسهل
(6)
.
(1)
رواه البخاري في صحيحه مع قصة في أوله (ج 5: ص 5)، كتاب المناقب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً خليلا)، ح (3661)، وفي كتاب تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، ح (4640)، (ج 6: ص 59).
(2)
ينظر: الدر المصون (5: 167)، الإتحاف، للدمياطي (ص: 274)
(3)
النشر في القراءات العشر (2: 265).
(4)
ينظر: الإنصاف، للأنباري (2: 355)، شرح الكافية الشافية، لابن مالك (2: 993)، همع الهوامع، للسيوطي (2: 526).
(5)
ينظر: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، لابن هشام (3: 153)، همع الهوامع، للسيوطي (2: 523).
(6)
ينظر: إبراز المعاني، لأبي شامة (1: 465)، تفسير أبي حيان (4: 658)، الإتحاف، للدمياطي (ص: 274)
والفصل بين المصدر المضاف والمضاف إليه بالمفعول جائز؛ لكونه في غير محله، فهو في نية التأخير، ولا يجوز بالفاعل؛ لكونه في محله
(1)
.
وقد حسّن ابن مالك
(2)
الفصل الواقع في قراءة ابن عامر لأمور:
أَحَدُهَا: كَوْنُ الفاصل فَضْلَةً فإنه لذلك صَالِحٌ لعدم الاعتداد به.
الثَّانِي: أنه غيرُ أجنبيّ معنًى؛ لتعلقه بالمضاف وهو المصدر.
الثَّالِثُ: أَنَّ الفاصلَ مقدَّرُ التأخيرِ؛ لأن المضاف إليه مُقَدَّر التقديم؛ لأنه فاعل في المعنى، حتى إن العرب لو لم تستعمل مثل هذا الفصل لاقتضى القياس استعماله؛ لأنهم قد فصلوا في الشعر بالأجنبي كثيرًا؛ فاستحق بغير أجنبي أن يكون له مَزِيَّةٌ، فيُحكَمُ بجوازه مطلقاً
(3)
.
وبيّن ابن هشام - وهو بصري- المسائل التي يجوز الفصل فيها في النثر، فذكر أن إحداها: أن يكون المضاف مصدرًا والمضاف إليه فاعله، والفاصل إما مفعوله؛ كقراءة ابن عامر، وإما ظرفه؛ كقول بعضهم:"تَرْكُ يومًا نَفسِك وهَواها".
والثانية: أن يكون المضاف وصفاً، والمضاف إليه مفعوله الأول، والفاصل مفعوله الثاني؛ كقراءة بعضهم:{فلا تحسبن الله مخلف وعدَه رسلِه} [إبراهيم: 47].
(1)
ينظر: شرح جمل الزجاجي، لابن خروف الإشبيلي (ص: 624).
(2)
محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجيّاني الشافعي، جمال الدين، أبو عبدالله، العلاّمة، النحوي، إمام زمانه في العربية، وكان عالماً بالقراءات وعللها، وبرز في النَّحْو والتصريف فكان فيهمَا بحراً لا يجارى، من مصنفاته:(الألفية) في النحو، و (الكافية الشافية) وشرحها، توفي سنة 672 هـ. ينظر: غاية النهاية، لابن الجزري (2: 180)، بغية الوعاة، للسيوطي (1: 130).
(3)
ينظر: شرح التسهيل (3: 277).
والثالثة: أن يكون الفاصل قسماً؛ كقولهم: "هذا غلام -والله- زيد"
(1)
.
قال ابن الجزري: "الصواب جواز مثل هذا الفصل، وهو الفصل بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول في الفصيح الشائع الذائع اختياراً، ولا يختص ذلك بضرورة الشعر، ويكفي في ذلك دليلاً هذه القراءة الصحيحة المشهورة التي بلغت التواتر كيف وقارئها ابن عامر من كبار التابعين الذين أخذوا عن الصحابة"
(2)
.
ثم قال: "ولم يبلغنا عن أحد من السلف رضي الله عنهم على اختلاف مذاهبهم وتباين لغاتهم وشدة ورعهم أنه أنكر على ابن عامر شيئاً من قراءته، ولا طعن فيها، ولا أشار إليها بضعف، ولقد كان الناس بدمشق وسائر بلاد الشام حتى الجزيرة الفراتية
(3)
وأعمالها لا يأخذون إلا بقراءة ابن عامر، ولازال الأمر كذلك إلى حدود الخمسمائة، وأول من نعلمه أنكر هذه القراءة وغيرها من القراءة الصحيحة وركب هذا المحذور ابن جرير الطبري بعد الثلاثمائة، وقد عُدَّ ذلك من سقطات ابن جرير". اهـ
(4)
قال الشهاب الخفاجي
(5)
: "وكلام الله أحق أن تجرى عليه القواعد، وترجع إليه لا أن يرجع إلى غيره، والعجب ممن أثبت تلك القواعد برواية واحد عن جاهليّ من العرب، فإذا جاء إلى النظم توقف في الإثبات به". اهـ
(6)
(1)
أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (3: 152 - 156).
(2)
النشر في القراءات العشر (2: 263).
(3)
منطقة بين دجلة والفرات، تشمل أجزاءً من العراق والشام. ينظر: معجم البلدان، لياقوت الحموي (2: 134).
(4)
النشر في القراءات العشر (2: 264).
(5)
أحمد بن محمد بن عمر الْخَفَاجي المصري، شهاب الدين، قاضي القضاة، الحنفي، وصاحب التصانيف في الأدب واللغة، من مصنفاته:(عناية القاضي وكفاية الراضي) وهو حاشية على تفسير البيضاوي، و (ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا) ترجم فيه لشعراء عصره، توفي سنة 1069 هـ. ينظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، لمحمد المحبي (1: 331)، الأعلام، للزركلي (1: 238).
(6)
حاشية الشهاب علي تفسير البيضاوي: عناية القاضي وكفاية الراضي (4: 127).