الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسة الاستدراك:
ذكر بعضُ أهل التفسير وعلوم القرآن قاعدةً في ورود لفظتي (الريح) و (الرياح) في القرآن؛ فقالوا بأنّ هذه اللفظة تأتي مفردة مع العذاب، ومجموعة مع الرحمة، وتلك قاعدة أغلبية
(1)
.
وممن قال بذلك: ابنُ عطية؛ حيث قال: " (الرِّياح) جمع ريح، وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة، مفردة مع العذاب، إلا في يونس في قوله - تعالى-: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]، وهذا أغلب وقوعها في الكلام". اهـ
(2)
واحتج ابنُ عطية وغيرُه بحديث: (اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا)، وهذا الاحتجاج لا يصح، لعدم ثبوت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمّا السمين فلم يوافق ابنَ عطية فيما ذهب إليه، رادًّا عليه باختلاف القراء في أحد عشرَ موضعًا، وتلك مِن أوجه عناية السمين بالقراءات، حيث يحتج بها لردِّ بعض الأقوال أو تأييدها.
ثم قال السمين: "وإنما الذي يقال: إنَّ الجمعَ لم يأتِ مع العذابِ أصلاً؛ وأمَّا المفردُ فجاءَ فيهما، ولذلك اختصَّها عليه السلام في دعائِه بصيغةِ الجمعِ". اهـ
(3)
وفي هذه المسألة تفصيل، وهناك بعضُ مناقشةٍ لكلام كلٍّ مِن ابن عطية والسمين.
(1)
ينظر: تفسير السمرقندي (1: 110)، تفسير ابن فورك (1: 199)، تفسير الماوردي (4: 319)، تفسير القرطبي (2: 198)، البرهان في علوم القرآن، للزركشي (4: 9).
(2)
المحرر الوجيز (1: 233).
(3)
الدر المصون (2: 207).
أولاً: الفرق بين (الريح) و (الرياح):
(الريح) بالإفراد على إرادة الجنس، وبالجمع (الرياح) لأنها مختلفة المجاري والمنافع.
فيُقال في الرحمة (رياح)؛ لتعددها، فهي الجنوب، والشمال، والصَّبا، أمّا ريح العذاب فهي واحدة شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد
(1)
.
قال القرطبي: "مَن وَحَّد الرِّيحَ فلأنّه اسمٌ للجنس يدل على القليل والكثير، ومَن جمعَ فلاختلاف الجهات تَهُبُّ منها الرياح". اهـ
(2)
وقال ابنُ القيم: "يخبر الله -سُبحانه- عَن ريَاح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها وما يحدث منها؛ فريح تثير السَّحاب، وريح تلقحه، وريح تحمله على متونها، وريح تغذى النَّبات، ولماّ كانت الرِّياح مختلفة في مهابها وطبائعها جعل لكل ريح ريحًا مقابلتها تكسر سورتها وحِدَّتها، وَيبقى لينها ورحمتها، فرياح الرحمة مُتعدِّدة.
وأمّا ريح العذاب فإنه ريح واحدة ترسل من وجه واحد لإهلاك ما ترسل بإهلاكه، فلا تقوم لها ريح أخرى تقابلها وتكسر سَوْرَتهَا وتدفع حدَّتها، بل تكون كالجيش العظيم الذي لا يقاومه شيء؛ يدمر كل ما أتى عليه". اهـ
(3)
(1)
ينظر: معاني القرآن، للنحاس (5: 34)، الحجة في القراءات السبع، لابن خالويه (ص: 91)، تفسير ابن فورك (1: 199)، المحرر الوجيز (1: 233)، الفريد في إعراب القرآن المجيد، للمنتجب الهمذاني (1: 424)، إبراز المعاني من حرز الأماني، لأبي شامة (ص: 348)، تفسير القرطبي (2: 198)، تفسير أبي حيان (2: 82).
(2)
تفسير القرطبي (2: 198).
(3)
مفتاح دار السعادة (1: 201).
ثانيًا: في كون القاعدة أغلبية:
كل مَن قرّر تلك القاعدة أشار إلى أنها أغلبية وليست على إطلاقها، فاستثنوا منها ما جاء في قوله:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}
…
[يونس: 22]، حيث وردت الريح هنا مفردة في سياق الرحمة، وقد ذكروا العلة في إفراد الريح في هذا الموضع، فقالوا بأنها أفردت هنا مع الفُلك؛ لأن ريح إجراء السفن إنما هي واحدة متصلة، ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب
(1)
.
قال ابنُ القيم: " تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس: 22] فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد؛ لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها؛ فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك، فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح، وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب؛ دفعا لتوهم أن تكون ريحا عاصفة، بل هي مما يفرح بها لطيبها". اهـ
(2)
(1)
ينظر: المحرر الوجيز (1: 233)، تفسير القرطبي (2: 198)، بدائع الفوائد، لابن القيم (1: 118)، البرهان في علوم القرآن، للزركشي (4: 10).
(2)
بدائع الفوائد (1: 118).
ثالثاً: مناقشة قولي ابن عطية والسمين، والترجيح:
أمّا قول ابن عطية ومَن وافقه: فلو صحّ أنّ تلك القاعدة أغلبية، فذلك من اجتهادهم ورأيهم، أمّا احتجاجهم بالحديث فلا يصح.
وكذا ردَّ أبو جعفر النحاس على مَن احتج بذلك الحديث بأنه ضعيف ولا أصل له
(1)
.
أمّا استدراك السمين على ابن عطية بأنّ ما قاله يرده اختلاف القراء: فإن ابن عطية قد ثنّى بذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة بعد قوله مباشرة حيث قال: "وأما القراء السبعة فاختلفوا؛ فقرأ نافع (الرِّياحِ) في اثني عشر موضعا: هنا وفي الأعراف: {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الأعراف: 57]، وفي إبراهيم:(اشتَدّتْ به الرياح)[إبراهيم: 18]، وفي الحجر:{الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22]، وفي الكهف:{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]، وفي الفرقان:{أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [الفرقان: 48]، وفي النمل:{وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [النمل: 63]، وفي الروم:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46]، {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم: 48]، وفي فاطر:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [فاطر: 9] وفي الجاثية: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} [الجاثية: 5]، وفي حم عسق:(يُسكِن الرياح)[الشورى: 33].
وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر موضعين من هذه بالإفراد: في إبراهيم، وفي حم عسق، وقرؤوا سائرها كقراءة نافع.
(1)
ينظر: معاني القرآن (5: 34).
وقرأ ابن كثير بالجمع في خمسة مواضع: هنا وفي الحِجر، وفي الكهف، وفي الروم الحرف الأول، وفي الجاثية، وباقي ما في القرآن بالإفراد.
وقرأ حمزة بالجمع في موضعين: في الفرقان وفي الروم الحرف الأول، وأفرد سائر ما في القرآن، وقرأ الكسائي كحمزة وزاد عليه في الحجر:{الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22].
ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام
(1)
". اهـ
(2)
ويُعترض على ابن عطية ترجيحه قراءة الجمع (الرياح) على قراءة الإفراد (الريح) وهي قراءة صحيحة ثابتة معتمدًا على تلك القاعدة التي ذكرها! حيث قال: "قراءة الجمع أوْجَه؛ لأن عُرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب" اهـ
(3)
، ومثل هذا الترجيح بين القراءات الصحيحة لا ينبغي.
قال الآلوسي: "في كلام ابن عطية غفول عن التأويل الذي تتوافق به القراءتان
…
ولا يسوغ أن يُقال في تلك القراءة أنها أوجَه مِن القراءة الأخرى مع أن كلاً منهما متواتر". اهـ
(4)
(1)
ينظر: السبعة في القراءات، لابن مجاهد (ص: 173، 283)، معاني القراءات للأزهري (1: 183 - 186)، إبراز المعاني من حرز الأماني، لأبي شامة (ص: 348)، تفسير القرطبي (2: 198)، النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (2: 223)، فتح القدير، للشوكاني (4: 265).
(2)
المحرر الوجيز (1: 233).
(3)
المحرر الوجيز (4: 213).
(4)
تفسير الآلوسي (10: 30).
أمّا ما قاله السمين والفراء
(1)
مِن قبله بأن الرياح مجموعة لم تأتِ مع العذاب أصلاً، والريح أتت في سياق الرحمة والعذاب: فهذا الكلام أدق مِن سابقه إلا أنه ينتقض بقراءة أبي جعفر: (قاصِفًا مِن الرياح)
(2)
[الإسراء: 69] بالجمع في سياق العذاب.
والصواب أنّ القول بأن الريح تأتي مفردة مع العذاب ومجموعة مع الرحمة لا يثبت حتى كقاعدة أغلبية؛ نظرًا لأن اختلاف القراء العشرة في هذه اللفظة لم يكن في مواضع قليلة بل كان في أكثر من أحد عشر موضعًا، ولا ينبغي أن نُقعّد قاعدة في ألفاظ القرآن اعتمادًا على بعض القراءات الصحيحة دون بعضها الآخر.
والأصوب أن تُجعل هذه القاعدة على قراءة حفص وحده دون التعميم، فيُقال: على قراءة حفص: كل ما جاء من لفظة (الريح) مفردًا فهو في سياق العذاب، وما جاء مجموعاً فهو في سياق الرحمة، باستثناء ما جاء في آية يونس:{وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} ، وذلك الإفراد جاء لعلة وحكمة - سبق ذكرها-.
علمًا بأنّ هناك مواضع وردت فيها هذه اللفظة مفردة ومجموعة في سياقات أخرى غير الرحمة والعذاب، كسياق الأمثال، كما في قوله:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]، وقوله:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
* * *
(1)
ينظر: معاني القرآن (2: 269).
(2)
قرأ أبو جعفر بالجمع: (الرياح)، وقرأ الباقون بالإفراد:(الريح)، والقراءتان صحيحتان. ينظر: تفسير القرطبي (10: 293)، تفسير أبي حيان (7: 83)، النشر في القراءات العشر، لابن الجزري (2: 223).