الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
نظرة تاريخية في نشأة القواعد الفقهية
(1):
امتن علينا الله عز وجل ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وخصه بخصائص منها أنه أوتي جوامع العلم، وجوامع الكلم، فيتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام القليل الذي يكون له معان عديدة، ويتضمن أحكامًا كثيرة.
وإذا تأمل الناظر في آثار النبي صلى الله عليه وسلم وجد فيها من ذلك الشيء الكثير، ومثال ذلك قوله عليه السلام:"البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وهذا الحديث جزؤه الأخير: "اليمين على من أنكر" في "الصحيحين"، وفي جزئه الأول "البينة على المدعي" كلام من بعض أهل الحديث في أسانيده، إلا أنه عند جمع أسانيده والنظر في معناه نجده ثابتًا في الشريعة.
ومثله قوله عليه السلام: "الخراج بالضمان"، وقوله:"لا ضرر ولا ضرار" فإن الشريعة قد دلت على معاني هذه الآثار بعموم أدلتها الأخرى، وفهم مقاصدها الحكيمة.
فالمقصود أن المتأمل في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن هناك عددًا من الأحاديث النبوية قد وردت بألفاظ جامعة موجزة، ولكنها دلت على معانٍ عديدة، وصدقت على فروع شتى، وقد يكون ذلك متعلقًا بباب واحد، أو متشعبًا في عدة أبواب، وهذا يدلنا على مبدأ قواعد الفقه.
(1) انظر: "شرح منظومة القواعد الفقهية"(ص: 3 - 7)، "شرح القواعد الفقهية" للزرقا (ص: 36)، "القواعد الفقهية" للندوي (ص: 90 - 158)، "موسوعة القواعد الفقهية" للبورنو (1/ 50)، "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة" للزحيلي (ص: 19)، "القواعد الفقهية الكبرى" للسدلان (ص: 23)، "القواعد الفقهية" للجزائري (ص: 173 - 188)، "القواعد الفقهية" للخليفي (ص: 6).
ثم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وردت ألفاظ رشيقة عن الأئمة من الصحابة فمن بعدهم من التابعين فيها اختصار في الألفاظ وشمول في المعاني والأحكام، ومن ذلك قول الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"مقاطع الحقوق عند الشروط" -ذكره البخاري تعليقًا وبإسناد جيد رواه عبد الرزاق وغيره- وقوله أيضًا: "هذه على ما نقضى، وتلك على ما قضينا"- رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة بإسناد لا بأس به.
فهذه عبارات مختصرة أصبحت قاعدة فقهية يهتدي بها الأئمة والعلماء والفقهاء من بعد.
ثم بعد عصور الصحابة والتابعين وبعد أن جاء عصر التدوين نجد أن الواحد من العلماء يعلل الأحكام الفقهية التي يطلقها بعلل تجمع أحكامًا فقهية من أبواب شتى، فأخذ من تلك التعليلات قواعد فقهية.
يقول العلامة ابن القيم: "وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحل ويحرم عندهم مع قصور بيانهم، فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدر على ذلك، فإنه يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامة، وقضية كلية تجمع أنواعًا وأفرادًا".
ومن النماذج المأثورة لتلك القواعد في عصر التابعين وقبل أن تتكون المذاهب الفقهية المشهورة ما نقك إلينا من بعض أقوال الإمام القاضي شُريح بن الحارث الكندى (ت 76 هـ) كقوله: "من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه" وهو في معنى قول عمر المذكور آنفًا.
وقوله: "من ضمن مالًا فله ربحه" وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان".
فجميع تلك الآثار والمرويات أمارات بارزة على وجود القواعد في عصر الرسالة وعصر التابعين، وأنهم كانوا ينطقون بكلمات لا تخص موضوعًا واحدًا أو قضية معينة، بل يمكن إجراؤها في كثير من المواطن عند توافر الشروط واستعمالها باعتبارها جامعة لكثير من المسائل والفروع.
وإذا تجاوزنا هذه المرحلة وانتقلنا إلى عصر أئمة الفقهاء، العصر الذي اتسق فيه الفقه، وتفتحت براعمه، وانفصل عن الفنون الأخرى صادفنا وجود بعض هذه القواعد في المصادر الأولية الأصيلة التي تم تدوينها في ذلك العصر.
ولعلَّ أقدم مصدر فقهي اهتم بذكر بعض هذه القواعد والضوابط العامة كتاب "الخراج" للإمام القاضي أبي يوسف (ت 182 هـ)، ومن ذلك قوله:"التعزير إلى الإمام على قدر الجناية".
وقوله: "كل من مات من المسلمين لا وارث له، فماله لبيت المال".
ومن تلك المصادر أيضًا بعض كتب الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) ومن أقواله: "كل أمر يحل بغير نكاح ولا ملك إنما يحل بالإذن فيه".
وقوله: "كل من له حق فهو له على حاله حتى يأتيه اليقين على خلاف ذلك".
ومن أمثلة ذلك أن الإمام الشافعي في كتابه "الأم" ذكر عددًا من الأحكام وعللها بعلل جامعة تضمل مسائل عديدة، ومن ذلك قوله:"لا يُنسب إلى ساكت قول"، وقوله:"الرُّخص لا يتعدى بها محلها" فأُخذت هذه الألفاظ كقواعد عامة (فقهية) رُتِّبت عليها أحكام في العديد من الأبواب.
وقوله: "قد يباح في الضرورات ما لا يباح في غير الضرورات".
وقوله: "إذا ضاق الأمر اتسع".
ومما روي عن الإمام أحمد قوله: "كل ما جاز فيه البيع تجوز فيه الهبة والصدقة والرهن".
وقوله: "كل زوج يلاعن".
ثم بعد ذلك، وبعد هذه العصور -عصور أوائل التدوين- رغب العلماء في جمع تلك القواعد في مؤلفات خاصة، وذلك أن الفروع الفقهية قد تكاثرت إلى حد لا يمكن الإحاطة بها، فعندما تضبط تلك القواعد نستطيع ضبط الفروع الفقهية، فباء ذلك بمحاولات عديدة في التأليف في القواعد الفقهية.
ومما يشهد له التاريخ ويظهر بالتتبع والنظر أن فقهاء المذهب الشافعي كما كانوا أسبق من غيرهم في وضع علم أصول الفقه وتدوين قواعده وتهذيب شوارده وتوسيع مباحثه، فإن فقهاء المذهب الحنفي كانوا أسبق من غيرهم في مضمار التأليف في القواعد الفقهية، ولعل ذلك نظرًا للتوسع عندهم في الفروع.
ولعل أقدم خبر يُروى في جمع القواعد الفقهية في الفقه الحنفي مصوغة بصيغها الفقهية المأثورة ما رواه القاضي أبو سعيد الهروي الشافعي المتوفى سنة (488 هـ): "أن بعض أئمة الحنفية بَهَراة بلغه أن الإمام أبا طاهر الدَّباس إمام الحنفية بها بما وراء النهر ردَّ جميع مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة، فسافر إليه وكان أبو طاهر ضريرًا، وكان يكرر كل ليلة تلك القواعد بمسجده بعد أن يخرج الناس منه فالتف الهروي بحصير، وخرج الناس، وأغلق أبو طاهر باب المسجد وسرد من تلك القواعد سبعًا، فحصلت للهروي سُعلة فأحسَّ به أبو طاهر فضربه وأخرجه من المسجد ثم لم يكررها فيه بعد ذلك، فرجع الهروي إلى أصحابه وتلا عليهم تلك السبع، قال القاضي أبو سعيد: فلما بلغ القاضي حسينًا ذلك ردَّ جميع مذهب الشافعي إلى أربع قواعد:
الأولى: اليقين لا يزال بالشك.
والثانية: المشقة تجلب التيسير.
والثالثة: الضرر يزال.
والرابعة: العادة محكمة" (1).
ومن أوائل من ألف في القواعد الفقهية: الإمام أبو الحسن الكرخي الحنفي (ت 340 هـ) وهو من أقران أبي طاهر الدباس، فقد ألف كتابًا سماه "أصول الكرخي" واقتبس منه بعض تلك القواعد وضمها إلى رسالته تلك التي تحتوي على سبع وثلاثين قاعدة، ولعلها أول نواة للتأليف في هذا الفن.
ثم في القرن الخامس الهجري جاء الإمام أبو زيد الدبوسي (ت 430 هـ) وألف كتابه " تأسيس النظر" وذكر فيه عددًا من القواعد الفقهية، كما أورد طائفة من الفروع الفقهية المترتبة على تلك القواعد، وإن كان غالبَّا في يذكر فيه قواعد خلافية بين الإمام أبي حنيفة وأصحابه، وبين الإمام أبي حنيفة وبقية الأئمة، كمالك والشافعي وغيرهما.
ولعل سبب كون الحنفية هم أول من ألف في القواعد الفقهية هو مقاربة طريقة التأليف في القواعد الفقهية لطريقة الحنفية في التأصيل؛ فإن من المعلوم أن علماء أصول الفقه على منهجين في التدوين الأصولي:
المنهج الأول: تقرير القواعد على الأدلة بغض النظر عن الفروع، وهذا هو منهج جمهور العلماء، وعليه سار علماء المالكية والشافعية والحنابلة.
المنهج الثاني: تأصيل القواعد الأصولية من خلال الفروع الفقهية الواردة عن الأئمة، وهذا هو منهج الحنفية، فهم يذكرون ويتتبعون الفروع الفقهية الواردة عن
(1)"الأشباه والنظائر" للسيوطي (1/ 61 - 62)، "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (1/ 20 - 21).
الإمام أبي حنيفة وأصحابه ويأخذون منها قواعد أصولية، فهذا المنهج قريب من منهج القواعد الفقهية، ولذلك كان الحنفية من أوائل من ألف في القواعد الفقهية.
ولكن النشاط الحقيقي في التأليف في قواعد الفقه لم يبرز إلا في رواق القرن السابع الهجري، إذ برز فيه هذا العلم إلى حدٍّ كبير، وإن لم يبلغ مرحلة التكامل والنضج الذي نراه الآن في المصنفات التي بين أيدينا في قواعد الفقه، ومن طليعة المؤلفات في هذا الفن إبان هذه الحقبة:
• "قواعد الأحكام في مصالح الأنام": للإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السُّلمي، المغربي الأصل، الدمشقي مولدًا، المصري دارًا ووفاة، الملقب بسلطان العلماء (ت 660 هـ) وكتابه هذا من أقدم وأعظم ما وصل إلينا في هذا الموضوع، ولم يكن غرض المؤلِّف جمع القواعد الفقهية وتنسيقها على نمط معين، بل كان "الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات، لسعي العباد في تحصيلها، وبيان المخالفات لسعي العباد في درئها، وبيان مصالح العبادات ليكون العباد على خير منها، وبيان ما يقدَّم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد على بعض، وما يدخل تحت اكتساب العبيد دون ما لا قدرة لهم عليه ولا سبيل لهم إليه"(1).
وموضوع الكتاب يدور حول القاعدة الشرعية الأساسية: "جلب المصالح ودرء المفاسد" وغالب القواعد الفقهية الأخرى التي نجدها منبثَّة في غضون الكتاب فمردُّها إلى هذه القاعدة العامة.
والواقع أن الكتاب فريد في موضوعه، ويفتح أمام القارئ آفاقًا واسعة للتفكير، ولم ينسج على منواله كتاب آخر يضارعه في موضوعه إلى عصر المؤلف.
(1)"قواعد الأحكام"(1/ 14) فصل في بيان مقاصد هذا الكتاب.
• "أنوار البروق في أنواء الفروق" المشهور بـ "الفروق": للإمام العلامة المحقق أبي العباس أحمد بن أبي العلاء ابن عبد الرحمن الصُّنهاجي المصري، شهاب الدين القرافي المتوفى سنة (684 هـ)، وكتابه هذا من أروع ما أنتجه عقل الفقه الإسلامي، أتى فيه المؤلف العبقري بما لم يسبق إليه، فقد امتاز ببيان الفروق بين القواعد في حين أن الكتب التي ألفت قبله بعنوان "الفروق" كان موضوعها بيان مسائل جزئية تشابهت صورها واختلفت أحكامها فقط، وما صنعه القرافي يُنَمِّي قوة الاستنتاج ويُربي ملكة الفقه، وهذا الكتاب استخلص فيه المؤلف ما نثره من كليات الفروع الفقهية في كتابه الفقهي "الذخيرة" ومن قواعد وضوابط عند تعليل الأحكام، بيد أنه زاد وتوسع هنا في بيان ما أجمله هناك جمع فيه المؤلف خمسمائة وثمانية وأربعين قاعدة.
أما القرن الثامن الهجري فيعتبر العصر الذهبي لتدوين القواعد الفقهية وتواصل التأليف فيها، برزت فيه عناية الشافعية لإبراز هذا الفن وتفوقت ثم تتابعت هذه السلسلة في المذاهب الفقهية المشتهرة، ومن أبرز وأشهر ما ألف في هذه الحقبة الزمنية:
• "الأشباه والنظائر" للعلامة صدر الدين محمد بن عمر بن مكي، المعروف بابن الوكيل، وبابن المرحل، المصري الدمياطي المولد، الدمشقي النشأة، توفي سنة (716 هـ)، وكتابه هذا أول مؤلف في موضوعه سُمِّي باسم "الأشباه والنظائر" في مجال الفقه الإسلامي (1)، ثم حذا حذوه بعد ذلك كثير من
(1) أما عن أول مؤلف سمى باسم "الأشباه والنظائر" فلم يكن في الفقه ولكن في علم التفسير للإمام مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150 هـ) حيث ألف كتابًا بعنوان: "الأشباه والنظائر" في تفسير القرآن العظيم"، ثم توالت المؤلفات في التفسير وغيره مصدَّرة باسم "الأشباه والنظائر".
المؤلفين في هذا العلم كالتاج بن السبكي، والجلال السيوطي، والسراج بن الملقن، والزين بن نجيم.
وقد كان هذا الكتاب حافزًا على التأليف في هذا العلم لكثير من جهابذة العلماء، وقد ذكر المحققون أن هذا الكتاب لم يتمكن المؤلف من تحريره وترتيبه وإنما تركه نبذا متناثرة.
قال ابن السبكي في "الأشباه والنظائر"(1): "وزين الدين هو جامع "الأشباه والنظائر" المنسوبة إلى عمة وله فيها زيادات يسيرة، مميزة عن كلام عمه بلفظ: "قلت"
…
".
وفي "طبقات الشافعية"(2) قال: "وللشيخ صدر الدين كتاب "الأشباه والنظائر"، ومات ولم يحرره، فلذلك ربما وقعت فيه مواضع على وجه الغلط".
فالذي حرره إذًا وهذبه هو ابن أخيه زين الدين بن الوكيل (ت 738 هـ).
وكتاب ابن الوكيل ليست القواعد فيه -سواء أكانت فقهية أم أصولية- على النمط المألوف عند المتأخرين في حسن عبارتها، وجودة صياغتها ولكنها نُقِّحت وصيغت من جديد في كتاب "الأشباه والنظائر" لابن السبكي.
• "القواعد": للمَقَّري؛ محمد بن محمد بن أحمد المقَّرى المالكي التلمساني المتوفى سنة (758 هـ)، وكتابه المذكور هو الكتاب الثاني بعد "الفرق" للقرافي في القواعد الفقهية عند المالكية، ويعد من أقوم ما أُلِّف في قواعد المذهب المالكي، ولعله أوسع كتب القواعد عند المالكية، بحث فيه مؤلفه مسلك الإمام مالك وأصحابه مع الموازنة بمذهبي الحنفية والشافعية في كثير من القواعد
(1)(1/ 293).
(2)
(9/ 255).
والفروع مع التعرض أحيانًا لأقوال الحنابلة، ولم يتوسع المؤلف في شرح هذه القواعد وبيانها، ثم إنه لم يستوف ذكر النظائر والفروع، أما القواعد المهمة العامة فقد لا يربو عددها على مائة قاعدة.
• "المجموع المُذْهب في قواعد المذهب": للإمام الحافظ خليل بن كيكلدي، صلاح الدين العلائي، الشافعي، الدمشقي، أبي سعيد، المتوفى سنة (761 هـ)، وكتابه هذا من أنفس الكتب التي ألفت في القرن الثامن الهجري في قواعد فروع الفقه الشافعي، وهو يجمع بين قواعد أصولية وقواعد فقهية، ومن أهم خصائص الكتاب أن المؤلف أطال نَفَسه في شرح القواعد الخمس الأساسية شرحًا وافيًا، محاولًا ردَّ جميع مسائل الفقه إليها، ومما زان الكتاب أن المؤلف دعم بعض القواعد وخصوصًا الأساسية بأدلة من الكتاب السنة، والكتاب في الجملة يمثل خير نموذج لتخريج الفروع على قواعد الأصول.
• "الأشباه والنظائر": لتاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، المصري، الشافعي، المتوفى سنة (771 هـ)، وكتابه هذا يحتل منزلة مرموقة بين مؤلفات هذا الفن، لما أبان فيه مؤلفه من وجوه القواعد الأصولية والفقهية، وأتى فيها بدرر علمية نفيسة، ومناقشات جادة ومطارحات ومباحثات عزيزة، وذلك راجع إلى براعة المؤلف ونبوغه في علمي الفقه والأصول، لذا أضفى ذلك النبوغ الفقهي على كتابه ثوبًا جميلًا، ورغم كون الكتاب حاويًا لأنواع من الفقه فإنه من أهم الكتب وأقومها التي ألفت في موضوع القواعد الفقهية، ولذا أشاد به العلماء وساروا على نهج تأليفه؛ منهم العلامة ابن نجيم الحنفي الذي صاغ كتابه على غرار هذا الكتاب.
• "المنثور في القواعد": للعلامة بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي،
المصري، الشافعي، المتوفى سنة (794 هـ)، وكتابه ذو قيمة عالية بين المؤلفات في القواعد الفقهية، وذلك مرده إلى أن مؤلفه أضفى عليه من روحه العلمية الجادة، وملكاته البحثية الفياضة ما أكسبه جودة ودقة وقبولًا عند العلماء، فقد جمع المؤلف بين دفَّتيه فروع المذهب الشافعي المحررة، والقواعد والضوابط الفقهية المقررة، ولعله أجمع كتاب فيما وصل إلينا من جهود السابقين في هذا المجال.
• "تقرير القواعد وتحرير الفوائد" المشهور بـ "القواعد": للعلامة الحافظ عبد الرحمن بن شهاب بن أحمد، زين الدين، أبي الفرج بن رجب البغدادي، ثم الدمشقي، الشهير بابن رجب الحنبلي، المتوفى سنة (795 هـ)، وكتابه هذا من أنفس وأحفل الكتب للقواعد في الفقه الحنبلي، ويحمل من الثروة الفقهية ما يجل عن الوصف والبيان، وقد بنى المؤلف مباحث الكتاب على مائة وستين قاعدة، وأردفها بفصل يحتوي على فوائد تلحق بالقواعد في مسائل مشهورة فيها اختلاف في المذهب، ومنهجه في هذه القواعد أن يضع أحيانًا تحت عنوان "القاعدة" موضوعًا فقهيًّا ثم يتناوله بالإسهاب والتفصيل، وتارة يورد القاعدة على النَّسق المألوف في كتب القواعد بصيغة موجزة، والكتاب في محتوياته وغضونه تضمن معظم القواعد المشهورة المتداولة، وإن اختلف الأسلوب والصياغة في بيانها، أما الضوابط: الفوائد والأحكام الأساسية الموضوعة تحت عنوان "القواعد" فهي متناثرة وكثيرة في الكتاب (1).
(1) ومن المؤلفات في هذا العصر: "القواعد الكبرى في فقه الحنابلة" لنجم الدين الطوفي الحنبلي (ت 716 هـ)، و"القواعد النورانية الفقهية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ)، و" الأشباه والنظائر " لجمال الدين الإسنوي (ت 772 هـ)، و"القواعد في الفروع" لعلي بن عثمان الغَزِّي (ت 799 هـ).
أما في القرن العاشر (1): فقد استوى النشاط التدوين لهذا العِلْم، ومن أبرز ما دُوِّن فيه:
• "الأشباه والنظائر": للإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ابن محمد الشافعي، المصري، الشهير بالسيوطي، المتوفى سنة (911 هـ)، وكتابه المذكور من أروع المؤلفات في القواعد الفقهية وأغزرها مادة، وأحسنها ترتيبًا وتنسيقًا، قام فيه باستخلاص أهم القواعد الفقهية المتناثرة المُبدَّدة عند ابن عبد السلام، وابن الوكيل، والعلائي، والسبكي، والزركشي، وأضحى بذلك مصدرًا خِصبًا لدراسة القواعد الفقهية خاصة في المذهب الشافعي، ومن ثمَّ تداولته أيدي العلماء في كل مكان وحظى بحسن القبول والرواج.
• "إيضاح المسالك إلى قؤاعد الإِمام مالك": للعلامة المحقق أحمد بن يحيى بن محمَّد التلمساني الوِنْشَريسي، ثم الفاسي، المتوفى سنة (914 هـ)، وكتابه هذا من أشهر ما ألف في قواعد المذهب المالكي، وهو كتاب معتدل وسط بين كتب القواعد المشهورة، ضمنه مائة وثماني عشرة قاعدة، ومعظم قواعده مذهبية تخدم المذهب المالكي، أوردها المؤلف بصيغ استفهامية باعتبار أنها ليست مما يتفق عليها بين العلماء، بل إنها قواعد خلافية، وقد يتعرض لبعض القواعد المتفق عليها بين المذاهب بصيغة الاستفهام أيضًا، وأحيانًا بصيغة الخبر، وأردف كل قاعدة بما يناسبها من الفروع الفقهية من أبواب مختلفة، ويؤخذ عليه إغفاله بعض القواعد المهمة مثل:"الأمور بمقاصدها"، و"العادة محكمة"، و"الضرر يزال"، و"الحدود تسقط بالشبهات"، والكتاب في الجملة من آثاره العلمية النافعة
(1) وإنما ذكرت ما دُوِّن في القرن العاشر وتركت التاسع لحين أتكلم عن ابن الملقن ومنهجه، فهو أبرز من ألف في هذا العصر.
التي تدل على تمكنه في الفقه المالكي وتضلعه فيه.
• "الأشباه والنظائر": للعلامة زين الدين بن إبراهيم بن محمد، الشهير بابن نُجَيْم، الحنفي، المصري، المتوفى سنة (970 هـ)، وكتابه هذا من أشهر المؤلفات في القواعد الفقهية تحت عنوان "الأشباه والنظائر"، وهو موضوع على غرار كتاب العلامة ابن السبكي كما صرَّح ابن نجيم في مقدمة كتابه المذكور، فقد التزم السير على منهج السبكي مع اختلاف يسير في ترتيب المباحث وتنسيق القواعد، إلا أن للقاعدة الأصولية نصيبًا وافرًا عند السبكي بخلاف ابن نجيم، فإنه لم يتعرض للقواعد الأصولية، فقد خص الفن الأول للقواعد الكلية الفقهية، وبسط فيها القول، ووضع الفنون الأخرى للكتاب في مباحث أخرى ذات مِساسٍ بالفقه الإِسلامي؛ كالألغاز والمطارحات والفروق والحكايات، والمراسلات الفقهية، وبلغ عدد القواعد الفقهية خمسًا وعشرين عند ابن نجيم جمعها في الفن الأول من الكتاب، والكتاب هذا قرين لكتاب العلامة السيوطي "الأشباه والنظائر" في اسمه وصيته وخصائصه، ويحتل مكانًا رفيعًا بين مؤلفات هذا الفن، وقد جاء خطوة جديدة بعد أن توقف سير التأليف في هذا الموضوع على مدى الأيام في الفقه الحنفي (1).
وبالنظر في الكتب المؤلفة في القواعد الفقهية يمكن تقسيم تلك المؤلفات إلى تقسيمات عدة:
(1) ومن أهم الشروح التي وضعت على كتاب ابن نجيم: "تنوير البصائر على الأشباه والنظائر" لشرف الدين الغزي (ت 100 هـ)، و"غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر" للحموي (ت 1098 هـ)، و"عمدة ذوي البصائر لحل مهمات الأشباه والنظائر" لابن بيري (ت 1099 هـ)، و"عمدة الناظر على الأشباه والنظائر" لأبي السعود الحسيني (ت 1172 هـ).
- التقسيم الأول: تقسيم المؤلفات في القواعد الفقهية بحسب عنوان تلك الكتب، فإن المؤلفات في القواعد الفقهية منها ما يُعَنْون باسم "الأشباه والنظائر"، ويراد بالأشباه المسائل المتشابهة من أوجه متعددة، وأما الأمثال فهي المسائل المتشابهة من كل وجه، وأما النظائر فهي المسائل المتشابهة من وجه واحد وإن كانت تختلف في بقية الوجوه، والغالب في إطلاق لفظ (النظائر) أن يراد به المسائل المتشابهة في الصورة المختلفة في الحكم، ومن الكتب المؤلفة باسم "الأشباه والنظائر" -كما سبق- كتاب ابن الوكيل، وابن السبكي، والإسنوي، والسيوطي، ابن نجيم.
والاسم الثاني مما سميت به المؤلفات في هذا العلم اسم "الفروق"؛ وممن ألف باسم "الفروق" أبو محمد الجويني (ت 438 هـ)، والجرجاني (أحمد بن محمد)(ت 482 هـ)، والروياني (ت 501 هـ)، والكرابيسي (ت 570 هـ)، والقرافي (ت 684 هـ).
ومن الأسماء التي سميت بها المؤلفات في هذا العلم اسم "القواعد" مثل: "قواعد ابن عبد السلام"، و"قواعد ابن رجب"، و"القواعد" للمَقَّري، و"قواعد الونشريسي"، و"قواعد العلائي"، و"قواعد الزركشي"، و"القواعد" لأبي بكر الحصني الشافعي (ت 829 هـ)، و"القواعد" لابن تيمية.
- التقسيم الثاني: تقسيم المؤلفات في القواعد الفقهية بحسب منهجها في الترتيب، فليس ترتيب القواعد الفقهية سائرًا على منهج واحد، بل الكتب في القواعد الفقهية على طرائق مختلفة في الترتيب:
فمن هذه المؤلفات ما يرتب القواعد بحسب أهميتها وشمولها، فيبدأ بالقواعد الكلية الكبرى التي لها فروع من كل باب فقهي، ثم يتطرق إلى القواعد الكلية التي تدخل في أبواب متعددة وإن لم تكن تدخل في جميع الأبواب، ثم يذكرون القواعد
المختلف فيها، ومن أمثلة الكتب المؤلفة على هذا الترتيب:"الأشباه والنظائر" لابن السبكي، والسيوطي، وابن نجيم.
- ومنها: ما يرتب القواعد الفقهية بحسب الترتيب الهجائي، فيبدأ بالقواعد التي تبدأ بحرف الألف مثل: قاعدة الأمور بمقاصدها، ثم بحرف الباء، مثل:"البينة على المدعي" وهكذا.
وممن ألف على هذا المنهج الزركشي في كتابه "المنثور في القواعد"، ولعل هذه الطريقة من أحسن الطرق في ترتيب القواعد؛ لأن كون القواعد تعم وتشمل، أو تقتصر على بعض الأبواب مما تختلف فيه الأنظار وتختلف فيه وجهات العلماء.
- ومنها: ما يرتب القواعد الفقهية بحسب الأبواب الفقهية، فيورد القواعد المتعلقة بكتاب الطهارة، ثم كتاب الصلاة، وهكذا.
وممن ألف على هذا المنهج المقري المالكي في كتابه "القواعد"، وشيخ الإِسلام ابن تيمية في كتابه "القواعد النورانية"، وصاحبنا ابن الملقن في كتابنا هذا، ولهذه الطريقة مآخذ سنذكرها بإذن الله في الكلام على منهج ابن الملقن في كتابه "القواعد".
- ومنها: ما سرد القواعد الفقهية بدون ترتيب معين، وقد سار على هذه الطريقة بعض العلماء من أبرزهم ابن رجب في كتابه "تقرير القواعد"، فإنه كان يذكر القواعد بدون أي ترتيب.
التقسيم الثالث: تقسيم المؤلفات في القواعد الفقهية بحسب منهجها في شمول القواعد الفقهية وغيرها:
فمنها: ما الغالب فيه الاقتصار على القواعد الفقهية فقط دون غيرها مثل كتاب "الأشباه والنظائر" لابن الوكيل.
ومنها: ما أورد القواعد الفقهية مع قواعد أخرى أصولية أو عقدية أو نحوية أو موضوعات فقهية تمَسُّ الفقه وفروعه من الفوائد والفروق والألغاز والمطارحات والحكايات والمناظرات مثل كتب الدبوسي، والقرافي، والعلائي، وابن السبكي، والزركشي، وابن رجب، وابن الملقن، والسيوطي، وابن نجيم.