الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن المُلَقِّن وكتابه "القواعد" أو "الأشباه والنطائر" منهجه وكلام العلماء فيه
وسراج الدين بن الملقن من رجالات القرن التاسع الهجري (1)، ذلك العصر الذي مثَّل حلقة وصل بين حقبتين تاريخيتين تمثلتا في القرن الثامن والعاشر، هذه الحلقة اتسمت بطابع الجمع، والتلخيص، والشروح، والتهذيب لكتب السابقين في سائر العلوم من فقه، وأصول، وحديث، ولغة.
وابن الملقن -وهو من فحول هذا العصر وأرباب هذه الطريقة- كتبه في الفقه والحديث والتخريج والشرح والاختصار أدلُّ شاهد على براعة ملكاته وثقابة أدواته، ولما لا وقد تفقه بالتقي السبكي، والعز بن جماعة، وغيرهما من فحول الفقه والأصول، وأحاط بفقه الشافعي والمذاهب الأخرى، وأذن له بالإفتاء فيها، كما أجاز له في الحديث وعلومه جهابذة هذا الفن كالمزِّي، والعلائي، وأثنى عليه كثير من الأئمة ونعتوه بالحافظ.
•
منهج ابن الملقن في كتابه:
أبرز ابن الملقن كتابه هذا في حُلَّةٍ جديدة في مضمار المؤلفات في هذا الفن
(1) ومن المؤلفات التي ألفت في هذا العصر:
"أسنى المقاصد في تحرير القواعد" لمحمد بن محمد الزُّبيري (ت 808 هـ)، و"القواعد المنظومة " لابن الهائم المقدسي (ت 815 هـ)، و"نظم الذخائر في الأشباه والنظائر" لعبد الرحمن بن علي المقدسي المعروف بـ "شُقير"(ت 876 هـ)، و"القواعد" لأبي بكر الحصني (ت 829 هـ).
تنتظم جودة الترتيب والتنسيق؛ حيث رتَّبه على الأبواب الفقهية، وضمن كل باب من أبوابه كل ما يتضمنه من القواعد والفوائد الفقهية والأصولية التي لم أشتاتها من أجمع الكتب المؤلفة في القواعد، مثل "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام، و"الأشباه والنظائر" لابن الوكيل، و"الفروق" للقرافي، و"الأشباه والنظائر" لابن السبكي، و"قواعد العلائي"، و"قواعد الزركشي" وغيرها من كتب السابقين من رجال المذهب الشافعي قديمًا وحديثًا: كابن الحداد، والقفال، وابن القاص، والقاضي حسين، والروياني، والجرجاني، وإمام الحرمين، والماوردي، والغزالي، والهروي، وابن الصلاح، وابن الرفعة، والسبكي، والرافعي، والنووي، والمتولي، وغيرهم من فقهاء المذهب ورجاله.
ويعطينا ابن الملقن نبذة في مقدمة كتابه بين فيها تعريفًا لكتابه وأوضح أهمية الاشتغال بالقواعد، وسلط الضوء على المنهج الذي سلكه فيه، فيقول:
"فإن الاشتغال بالأشباه والنظائر والقواعد لما تحتوى من الفوائد والفرائد يُحِدُّ الأذهان ويُظهر النظر، وقد هذَّب العلماء جملة منها واعتنوا بها؛ فمنهم العلامة عزُّ الدين، وشهاب الدين القرافي، وللعلامة عَصْرِيِّنا محمد بن المُرَحِّل فيه مصنَّف حسن هذَّبه ورتَّبهُ ابن أخيه زَيْن الدين، وهو الذي أبرزه، ولشيخنا الحافظ العلامة صلاح الدين بن العلائي فيها مصنَّف مفرد أيضًا، لكنها كلها غير مرتَّبة على شأن القواعد وعلى ما يقع في تلك المقاصد، وقد استخرت الله والخِيَرَةُ بيده في كتاب في ذلك، مرتَّبٍ على الأبواب الفقهية على أقرب ترتيب، سهل التنقيح والتهذيب مُبيِّن ما وقع في الاختلاف، وما يفي به عند الاضطراب من الخلاف، لم يُنسج مثله على منوال، ولم يسبقني أحد إلى ترتيبه على هذا المثال
…
".
ولكن يؤخذ على الطريقة التي سلكها ابن الملقن في ترتيبه القواعد على ترتيب
الأبواب الفقهية أمران:
الأمر الأول: أن كون القاعدة مما تعمُّ أو تشمل، وكونها تقتصر على بعض الأبواب دون بعض مما تختلف فيه الأنظار، وتتفاوت فيه وجهات العلماء، ولعل هذا الأمر بالتحديد هو الذي حدا بالعلماء إلى أن يسلك كلٌّ منهجًا يخالف منهج غيره، فجاءت كل هذه الطرق المتباينة في المنهج والترتيب.
الأمر الثاني: أن هذه الطريقة ربما ألجأت ابن الملقن إلى أن يكرر قاعدة ما في أكثر من باب لكونها تعم فروعًا من هذه الأبواب جميعًا، لذا كان ابن الملقن يتخلص من ذلك التكرار بأن يذكر القاعدة في باب معين موردًا فيه عبارة ابن الوكيل مثلًا، ثم يذكرها في باب آخر موردًا فيه عبارة ابن السبكي.
-كما أن هناك بعض الأبواب الفقهية لم تكن فروعها داخلة تحمسا قاعدة معينة فكان يذكر فيها بعض الضوابط والفوائد التي لا تدخل في مسمى "قاعدة".
- حاول ابن الملقن أن يجمع تحت كل قاعدة أكبر عدد من النظائر حتى لربما تعدت نظائر القاعدة الواحدة (أو مستثنياتها) الأربعين فرعًا.
- أكثر ابن الملقن النقل عن صدر الدين بن الوكيل وهو أحيانًا يعزو إليه وأخرى يذكر النقل مختصرًا مهذبًا بدون عزو إليه فكنت أشير إلى كل هذه المواضع، وأكثر أيضًا من النقل عن شيخه تقي الدين السبكي وولده تاج الدين، وكان يكنى عن الأول دائمًا بـ "شيخنا"، أما الثاني فأغفل ذكره تمامًا وربما غنى عنه بـ "بعض المتأخرين" مع أن نُقُولَ ابن الملقن عن ابن السبكي لا تقل عددًا وأهمية عن تلك التي أخذها من "أشباه ابن الوكيل".
- انماز كتاب ابن الملقن بكثرة التنقيحات الفقهية، والتحقيقات الأصولية والترجيحات بين الأقوال والأوجه التي ربما سكت عن الترجيح فيها مَنْ نقل عنهم.
"وإن الناظر في الكتاب يشاهد أن المؤلف رحمه الله أنجز ما ومحمد وأخرج لنا كتابًا حافلًا في هذا الموضوع، يبدو فيه شيء من الابتكار والتميز ترتيبًا وتنقيحًا للقواعد ومسائلها"(1).
- ونظرًا لكثرة النقول التي أخذها ابن الملقن من كتابي "ابن الوكيل" و"ابن السبكي"، فإن بعض العلماء دعاهم ذلك إلى غمز الكتاب والحطِّ منه، فيقول صاحب "كشف الظنون" (2):
"وللشيخ سراج الدين عمر بن علي الشافعي المتوفى سنة أربع وثمانمائة -يعني: ابن الملقن"- التقطه من كتاب التاج السبكي خُفية".
"وليس ذلك مما يشين الكتاب ويحط من قدره وما يمتاز به من حسن الديباجة، وجودة الصناعة في الترتيب، وجمع الشتات الكثيرة من كتب مختلفة
…
" (3).
وعلى هذا الدرب سار المؤلف في سائر كتابه، ولا شك أن تأصيل القواعد وترتيبها على الأبواب مما يدل على ثقابة نظر في الفقه ومهارة فائقة في ربط الفروع بأصولها، وبجانب تلك القواعد يحمل الكتاب في طياته ضوابط مهمة تحت أبواب مختلفة.
ويقول السيوطي في كتابه "الأشباه والنظائر في النحو"(4) في غضون حديثه عن أشهر المصنفين في القواعد:
(1)"القواعد الفقهية" للندوي (ص: 238).
(2)
"كشف الظنون"(1/ 136).
(3)
"القواعد الفقهية" للندوي (ص: 239).
(4)
"الأشباه والنظائر في النحو"(1/ 8).
"وأول من فتح هذا الباب شيخ الإسلام ابن عبد السلام في قواعده الكبرى، فتبعه الزركشي في القواعد، وابن الوكيل في "أشباهه"، وقد قصد السبكي بكتابه "تحرير" كتاب ابن الوكيل بإشارة والده له في ذلك كما ذكره في خطته، وجمع أقسام الفقه وأنواعه ولم تجمع في كتاب سواه، وألف السراج بن الملقن مرتبًا على الأبواب، وألَّفتُ مرتبًا على أسلوب آخر" -بتصرف-.
ولكن الذي ينبغي التنويه عليه حقًّا ما أغفله ابن الملقن من القواعد الكبرى في هذا الكتاب، فقد نسي أن يذكر ثلاث قواعد شهيرة وهي:
1 -
الأمور بمقاصدها:
فقد أغفلها ابن الملقن على الرغم من أنه ذكر كثيرًا من القواعد والضوابط والفروع التي تنبني على تلك القاعدة.
2 -
الضرر يُزال.
3 -
المشقة تجلب التيسير.
ولكن الذي يرى كم القواعد والضوابط التي زخر بها كتابه فإنه يلتمس له العذر، خاصة وأن هذه القواعد المتروكة لم تُتْرك فروعها بل أوردها منثورة هي وما انبنت عليه من قواعد وفوائد، كما أن العذر معه أيضًا في ذلك بسبب طريقته في ترتيب الكتاب على الأبواب الفقهية؛ فإنها طريقة ليست باليسيرة في علم القواعد الفقهية.
• اسم الكتاب:
ورد اسم الكتاب في النسخ التي اعتمدنا عليها: "الأشباه والنظائر"، والناظر يجد أننا أخرجناه باسم "القواعد"، والأمر فيه سعة خاصة في مجال التصنيف في قواعد الفقه، فالكلام على القواعد يعقبه ولا بد بيان لنظائر كل قاعدة من الفروع
الفقهية، والكلام على الأشباه والنظائر الفقهية لا يمكن إلا بعد إيراد القاعدة التي تندرج تحتها هذه الأشباه والنظائر، لذا فالأمر على سعته.
ويعضد ما نقول أن بعض المصنفات التي صنفت في هذا العلم قد سماها مصنفوها بأكثر من اسم، ففي بعض نسخ "الأشباه والنظائر" لابن السبكي ورد باسم "قواعد ابن السبكي"، وكتاب "تقرير القواعد وتحرير الفوائد" لابن رجب، اشتهر بين الأوساط العلمية باسم "قواعد ابن رجب"، وقد آثرت إخراج الكتاب باسم "قواعد ابن الملقن" جريًا على هذه السُّنة، وترغيبًا للطلبة فيه، إذ قد يستغلق على بعضهم معنى "الأشباه والنظائر" خاصة وأن هذا العلم -أعني علم "الأشباه والنظائر"- مما لم يخترعه علماء هذا الفن، بل استعمله من قبلهم علماء التفسير والأدب، وبعدهم علماء اللغة والنحو.
والله من وراء القصد