الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالتوقيف والنقل عن صحيح السنة ومقبولها، فإننا نعمد إلى ما روى من السنة الصحيحة فى هذا الصدد:
فيروى البخارى عن عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- أنه قال: «إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السماوات شيئا، فإذا فزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق» (23). ولا مرية فى أن أهل السماوات هم الملائكة.
كما أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبى معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله- عز وجل إذا تكلم بالوحى سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجرّ السلسلة على الصفاء، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاء جبريل فزّع عن قلوبهم.
قال: ويقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟
قال: فيقول: الحق. قال فينادون: الحقّ، الحقّ» (24).
هذا مع الأخذ فى الاعتبار أن الملائكة ذواتهم نورانية علوية، ويعتريهم من أثر الوحى هذا الصعق، كما يعترى السماء ذاتها تلك الصلصلة، ولا عجب فإنه تجلى الحق تعالى بصفة الكلام القديم وأنّى للمحدثات بالصمود لسطوتها!! إنهم من فزعهم يحسبون أن الساعة قد حان مرساها.
فقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود مرفوعا: «إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيفزعون، ويرون أنه من أمر الساعة» (25)!!
وسيأتى مزيد تبيان لتلقى الملك الوحى سماعا من الله تعالى فى تناولنا للوحى القرآنى خلال هذا البحث بإذن الله تعالى.
******
أنواع الوحى ومراتبه:
فنجد الأصل فى معرفة ذلك- قرآنيا- قوله تعالى شأنه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (26). فقد استنبط أساطين المفسرين منها جملة أنواع للوحى الإلهى إلى من اصطفاهم الله تعالى من البشر:
النوع الأول: ما كان الوحى فيه إلقاء فى القلب مناما، وهو ما يعرف بوحى الرؤيا الصادقة، كرؤيا خليل الرحمن- عليه السلام التى قصّها القرآن فى قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (27).
وكرؤيا النبى صلى الله عليه وسلم أنه يدخل المسجد
(23)،
(24)
فتح البارى بشرح صحيح البخارى لابن حجر 13/ 389 ط/ الهيئة المصرية 1348 هـ.
(25)
انظر تخريجه فى (الإتقان) للإمام السيوطى بتحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم 1/ 127 ط/ المشهد الحسينى 1387 هـ.
(26)
سورة الشورى: الآية 51.
(27)
سورة الصافات: الآية 102.
الحرام، حيث قال تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (28).
النوع الثانى: ما كان الوحى فيه إلقاء فى القلب يقظة، بالإلهام الذى يقذفه الله تعالى فى قلب مصطفاه، على وجه من العلم الضرورى الذى لا يستطيع له دفعا ولا يجد فيه شكا ولا إشكالا، ومن هذا النوع: ما رواه أبو نعيم عن أبى أمامة والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن روح القدس نفث فى روعى: أنه لن
تموت نفس حتى تستوفى رزقها» (29).
النوع الثالث: ما كان الإيحاء فيه يقظة من غير طريق الإلهام. وذلك كإيحاء الزبور لنبى الله داود- عليه السلام فقد روى عن مجاهد رضي الله عنه أن الزبور أوحى إليه فى صدره إلقاء فى اليقظة وليس بإلهام، والفرق فى ذلك: أن الإلهام لا يستدعى صورة كلام نفسى حتما فقد وقد، وأما اللفظى: فلا.
وأما إيحاء الزبور فإنه يستدعيه (30).
النوع الرابع: ما كان الوحى فيه بالتكليم مشافهة ومكافحة عيانا بغير حجاب ولا واسطة، كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فقد استشهد الأئمة من المفسرين لرؤية النبى صلى الله عليه وسلم ربه عند تفسير قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (31) بما فى حديث أنس عند البخارى من قوله: «
…
ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبّار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة .... ». (32)
ومناط هذا الاستدلال: إرجاع الضمائر فى:
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى وكذا الضمير المنصوب فى وَلَقَدْ رَآهُ لله تعالى، ومن ثم يتقرر ثبوت الوحى المباشر مع الرؤية عيانا وهو أرفع أنواع الوحى.
النوع الخامس: ما كان الوحى فيه من وراء حجاب، بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة، بأن يسمع كلاما من الله من غير رؤية السامع من يكلمه، كما سمع سيدنا موسى- عليه السلام من الشجرة، ومن الفضاء فى جبل الطور، قال تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (33) وليس المراد بالحجاب فى قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ: حجاب الله تعالى عن عبده حسّا، إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حسا، وإنما المراد: المنع من رؤية الذات الأقدس بلا واسطة (34).
النوع السادس: هو ما كان الوحى فيه
(28) سورة الفتح: الآية 27.
(29)
انظر (الجامع الكبير) للحافظ السيوطى 1/ 243، وانظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 16، و (مناهل العرفان) للزرقانى 1/ 57.
(30)
انظر (روح المعانى) للإمام الآلوسي 25/ 54 ط/ المنيرية، و (مفاتيح الغيب) للفخر الرازى 27/ 187 ط/ دار الفكر 1401 هـ 1981 م.
(31)
سورة النجم: الآية 13.
(32)
أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد من صحيحه 4/ 199، ط/ حجازى، وانظر (روح المعانى) للآلوسى 28/ 52.
(33)
سورة القصص: الآية 30.
(34)
انظر (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) لابن عجيبة الحسنى 5/ 330، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1421 هـ- 2000 م.
بواسطة ملك يرسله الله تعالى إلى مصطفاه من البشر، وهذا النوع هو المعروف بالوحى الجلىّ، وهو المذكور فى قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ.
هذا: ووجه انحصار هذه الأنواع الستة فى الأقسام الثلاثة المذكورة فى الآية الكريمة- التى صدرنا بها هذا المبحث- أن القسم الأول- المستنبط من قوله سبحانه: إِلَّا وَحْياً ينتظم الأنواع الأربعة الأولى، وهى:
الوحى المنامى، والإلهامى- بالنفث فى الروع-، والإلقائى فى الصدر بصورة الكلام النفسى، والتكليم مشافهة مع الرؤية.
والقسم الثانى: المذكور فى قوله تعالى:
أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ يختص بالنوع الخامس. وكذلك القسم الثالث- المأخوذ من قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا يختص بالنوع السادس الأخير.
* تلك هى الأنواع الرئيسية للوحى، على أن الإمام الحليمى قد ذكر أن الوحى كان يأتى النبى صلى الله عليه وسلم على ستة وأربعين نوعا، فذكرها، وغالبها من صفات حامل الوحى، ومجموعها يدخل فيما ذكر (35).
* وبناء على ما تقدم، فإن مراتب الوحى يمكن أن تصنّف باعتبارين:
فباعتبار المشافهة والتلقى من المصدر دون حجاب أو واسطة يكون ترتيب الأقسام فى الآية الكريمة أولوية، حيث ذكر أولا: الكلام بلا واسطة بل مشافهة، ويندرج تحته- أولويا-: النوع الرابع- فى تصنيفنا الآنف- ثم النوع الثالث، ثم النوع الثانى، ثم الأول.
ثم ذكر ما كان بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة، بل من وراء الغيب، وهو النوع الخامس. ثم ذكر ثالثا: الكلام بواسطة الإرسال.
وأما بالاعتبار الثانى- وهو باعتبار الجلاء والخفاء- فإن النوع السادس هاهنا وهو المصطلح على تسميته ب (الوحى الجلى) له الصدارة، إذ هو أشهر الأنواع وأكثرها.
ولذلك كان وحى القرآن الكريم جلّه- على المعتمد الراجح- من هذا النوع. ووجه تفضيله: أنه مخصوص بالأنبياء- عليهم السلام وليس لأنه أشرف من وحى المشافهة.
ثم يليه الوحى فى اليقظة بدون حجاب سواء كان إيحاء مع استدعاء صورة الكلام النفسى، أم إلهاما بالنفث فى الروع، ثم الإلقاء المنامى فى القلب- الذى أخرج فيه الشيخان- عن النبى صلى الله عليه وسلم:«رؤيا الأنبياء وحى» (36). ثم التكليم من وراء حجاب.
(35) انظر (فتح البارى) لابن حجر 1/ 16، ط/ الهيئة المصرية.
(36)
أخرجه البخارى فى باب (التخفيف فى الوضوء) حديث 138، وخرجه الحافظ فى فتح البارى عن مسلم (1/ 289).