الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البليغ المشابه لما أتى به فصحاء العرب، والقراءات تستعصى على العلم أن يجعلها قاعدة يستثمرها أحد فيأتى بنتاج أدبى ذى قراءات شريفة شرف قراءات القرآن، أو تكاد. (ومن أقل القليل أن تجد نظيرا للقراءات فى أدب الفصحاء القدماء من رجال الجاهلية أو من رجال الإسلام)(161).
(وإن وجدت نظيرا كمثل المقامة القهقرية عند الحريرى فليست فى العير ولا فى النفير من يسر وشريف معنى، وروعة أسلوب، وتغذية قلوب)(162) وما ذلك إلا لأن القراءات وجه من وجوه الإعجاز، ولن يطالعك بهذا الوجه إلا القرآن. أما أثر القراءات أو تسببها فى ظهور دراسات بلاغية حولها فهذا شىء طبيعى من عادة المسلمين فى خدمة الكتاب العزيز، ومع ذلك فلا زالت تلك الدراسات قليلة (163)، مع أن الداعى إلى زيادتها ذو صوت جهير.
فى التفسير:
أثر القراءات فى تفسير القرآن الكريم أثر كبير، وهذه نماذج منه:
- قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ (البقرة: 219) العفو: الفضل (164).
وقرئ بالنصب، والرفع (165) وقراءة النصب تفسر (ماذا) إذ تدل على أنها كلمة واحدة مفعول مقدم لينفقون، حتى تكون جملة السؤال فعلية لتطابق الجواب، فإن الجواب (العفو) تقديره:(أنفقوا العفو) جملة فعلية، والتطابق هو الأولى بالرعاية، فتقدير السؤال:
(أىّ شىء ننفق؟) كما تستدعيه هذه القراءة.
وقراءة الرفع تفسر (ماذا) بتفسير آخر، إذ تدل على أن (ما) كلمة، وهى مبتدأ، و (ذا) كلمة، وهى خبر، والأولى اسم استفهام، والثانية اسم موصول بمعنى الذى، وصلته الجملة التى بعده، والعائد محذوف، والتقدير (ينفقونه). فالسؤال جملة اسمية كالجواب، فتطابقا. وتقدير السؤال: ما الذى ننفقه؟، وتقدير الجواب: الذى تنفقونه العفو (166)(167).
- وقوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (المسد: 4) قرئ بنصب (حمالة) وبالرفع (168). أما النصب فيشير إلى أن (حمالة) بدء جملة، وإلى أن (امرأته) عطف مفرد على مفرد هو ضمير سَيَصْلى (المسد: 3) وعلى ذلك يسوغ الوقف على (وامرأته)، وينكشف أن المعنى والتقدير:
سيصلى نارا ذات لهب هو وامرأته، أعنى حمالة الحطب.
وأما الرفع فيكشف عن معنى آخر، وهو أن امرأة أبى لهب امرأة حمالة للحطب.
فامرأته مبتدأ، و (حمالة الحطب) خبر،
(161) انظر رسالة (القراءات
…
) ص 208 - 212 مثلا.
(162)
انظر السابق 801.
(163)
منها ما فى رسالة (القراءات
…
) ص 782 - 801، وبحث للدكتور فتحى فريد الأستاذ بكلية اللغة العربية عن القراءات وإعجازها، وكتاب «التوجيه البلاغى للقراءات القرآنية» للدكتور أحمد سعد محمد، وما يدل عليه من دراسات فى هذا المجال. انظر (ص 11 - 12) ط 2 سنة 2000 م مكتبة الآداب.
(164)
انظر مدارك التنزيل للنسفى 1/ 86 المطبعة الحسينية المصرية 1344 هـ.
(165)
انظر النشر 2/ 227.
(166)
راجع مدارك التنزيل السابق.
(167)
أضف إلى هذا الأثر التفسيرى ما تلمسه من أثر لغوى حيث أفادت القراءتان أن (ماذا) تستعمل على أنها كلمة واحدة اسم استفهام، وعلى أن (ما) كلمة، اسم استفهام، و (ذا) كلمة ثانية، اسم موصول بمعنى الذى. وتأمل أيضا إفادة هاتين القراءتين لمعنيين.
وهكذا شأن القراءات تتكاثر فوائدها، لا فى هذا المقام فقط، أو هذا المثال فقط.
(168)
انظر النشر 2/ 404.
والعطف عطف جملة على جملة، ولا يسوغ الوقف على (وامرأته) لأنه لا يوقف على المبتدأ دون خبره (169).
- وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (النساء: 94)(قرئ: (فتبينوا) وقرئ:
(فتثبتوا)(170). (وفسر ابن الأنبارى الأولى بالثانية، فجعلهما بمعنى واحد، وذلك أن أحد المترادفين قد يكون أجلى فيكون شارحا)(171).
إلى غير ذلك (172).
- هذا وأثر القراءات فى علم التفسير ماثل فى كتبه بما لا حصر له.
ومن فوائد اختلاف القراءات- بالإضافة إلى ما سلف:
- ما فى ذلك الاختلاف- كما قال ابن الجزرى- «من عظيم البرهان وواضح الدلالة، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد ولا تناقض ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضا، ويبين بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض، على نمط واحد، وأسلوب واحد، وما ذاك إلا آية بالغة، وبرهان قاطع على صدق من جاء به صلى الله عليه وسلم.
- ومنها سهولة حفظه، وتيسير نقله على هذه الأمة، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة، فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام تؤدى معانى تلك القراءات المختلفات، لا سيما فيما كان خطه واحدا، فإن ذلك أسهل حفظا، وأيسر لفظا.
- ومنها إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم فى تتبع معانى ذلك واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين أسراره وخفى إشاراته، وإنعامهم النظر، وإمعانهم الكشف عن التوجيه والتعليل والترجيح والتفصيل، بقدر ما يبلغ غاية علمهم، ويصل إليه نهاية فهمهم .. والأجر على قدر المشقة.
- ومنها بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقى، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عنه لفظة لفظة، والكشف عنه صيغة صيغة، وبيان صوابه، وبيان تصحيحه، وإتقان تجويده، حتى حموه من خلل التحريف، وحفظوه من الطغيان والتطفيف، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا، ولا تفخيما ولا ترقيقا، حتى ضبطوا مقادير المدّات، وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، ولا يوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم.
(169) راجع مدارك التنزيل 4/ 284 - 285 وغيره.
(170)
انظر النشر 2/ 251.
(171)
انظر رسالة (القراءات
…
) ص 827.
(172)
انظر السابق 824 - 827.