الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التّشبيه
التشبيه فى اللغة: التمثيل، يقال فلان شبيه بفلان، إذا كانت فيه أوصاف (1) تشابه أوصافه. أما فى اصطلاح البلاغيين فقد عرفه الخطيب القزوينى فقال:
«التشبيه: الدلالة على مشاركة أمر لآخر فى معنى» (2) وهذا التعريف فيه قصور؛ لأنه لم يذكر أداة التشبيه وهو- مع قصوره أقرب تعريفات التشبيه إلى الكمال لأن ما قبله من التعريفات أكثر منه قصورا.
وأكمل تعريفات التشبيه ما عليه متأخرو البلاغيين حيث عرفوه بقولهم:
وإنما كان هذا التعريف أكمل ما قيل فى تصوير التشبيه لأنه اشتمل على كل أركانه وعناصره:
فالأمر الأول هو: المشبه.
والثانى هو: المشبه به.
وفى معنى، هو وجه الشبه.
وبأداة، هى أداة التشبيه حرفا كانت مثل الكاف فى قولنا الشمس كالمرآة.
أو اسما فى: الشمس مثل المرآة.
أو فعلا فى: الشمس تحاكى المرآة.
أما: الغرض الذى يقصده المتكلم فهو الغرض البلاغى من كل عملية تشبيهية.
كما تضمن هذا التعريف حالتى ذكر الأداة وحذفها، وكذلك حذف وجه الشبه وذكره، وهما ليسا من أطراف التشبيه، بل أمران عارضان وأركان التشبيه هى المشبه، وهو الأمر الأول فى التعريف.
المشبه به، وهو الأمر الثانى فى التعريف.
الوجه، وهو الصفة المشتركة، بين الأمرين.
الأداة، وهى وسيلة الدلالة على المشاركة.
والمشبه والمشبه به يسميان: طرفى التشبيه.
ومجموع الأربعة، يسمى أركان التشبيه.
وللتشبيه عند البلاغيين أربعة ألقاب، وثلاث مراتب:
(1) اللسان،- والمعاجم اللغوية مائدة: شبه.
(2)
بغية الإيضاح (2/ 7).
* فاللقب الأول: التشبيه المرسل المفصل وهو ما ذكرت فيه أركانه الأربعة: مثل: (حجة كالشمس فى الظهور) فالحجة هى المشبه، والشمس هى المشبه به، والكاف هى أداة التشبيه. وفى الظهور هو وجه الشبه.
وسمى مرسلا لذكر الأداة، ومفصلا لذكر الوجه.
واللقب الثانى: التشبيه المرسل المجمل، وهو ما ذكرت فيه الأداة وحذف الوجه، مثل: حجة كالشمس.
وسمى مرسلا لذكر الأداة، ومجملا لحذف وجه الشبه.
* واللقب الثالث: التشبيه المؤكد المفصل، وهو ما حذفت فيه الأداة، وذكر الوجه، مثل:
حجة هى الشمس فى الظهور.
* واللقب الرابع: التشبيه المؤكد المجمل، وهو ما حذف فيه الوجه والأداة معا. مثل:
حجة هى الشمس.
ومراتبه الثلاث من حيث الدلالة على قوة المعنى هى:
* أدنى درجاته ومراتبه: ما ذكرت فيه أركانه الأربعة كقول الشاعر:
فوجهك كالنار فى ضوئها
…
وقلبى كالنار فى حرها
فى البيت صورتان تشبيهيتان:
المشبه فى الأول وجه المخاطبة، والمشبه به النار، والكاف أداة التشبيه. وفى ضوئها وجه الشبه. والصورة الثانية مثلها، ما عدا وجه الشبه فهو «فى حرها» .
المرتبة الوسطى: هى ما ذكرت فيها الأداة مع حذف الوجه وما حذفت فيه الأداة مع ذكر الوجه. لأن هاتين الصورتين، وهما الثانية والثالثة، من ألقاب التشبيه، معناهما متكافئان.
المرتبة العليا، هى ما حذف فيها الوجه والأداة معا، وإنما كانت هذه المرتبة عليا مراتب التشبيه لأن:
فى حذف الأداة دعوى الاتحاد بين الطرفين، حتى لكأن المشبه صار هو المشبه به، دون عازل بينهما.
وفى حذف الوجه دعوى مشاركة المشبه للمشبه به فى جميع ما ثبت له من صفات.
لذلك يسمى البلاغيون كل تشبيه حذف منه الوجه والأداة معا: التشبيه البليغ:
لأنه أقوى مراتبه فى الدلالة على المعنى المراد من التشبيه.
وضابط وجه الشبه عندهم أن يكون مجرورا ب «فى» أو منصوبا على التمييز.
مثل أن يقال: خالد كالأسد فى الشجاعة:
وخالد كالأسد شجاعة.
والتشبيه فى القرآن الكريم لم يخرج عن هذه الضوابط التى ذكرناها تمهيدا لفهم تشبيهات القرآن الكريم ومنزلتها فى البيان المعجز الرفيع.
والتشبيه فى القرآن الكريم من أساليب بلاغته العالية وهو فيه كثير الورود، بلغت صوره ما يقارب الخمسمائة صورة، وشملت كل أنماط التشبيه من حيث الإفراد والتركيب فى الطرفين والوجه، ومن حيث الحسية والمعنوية فيهما، وأدت هذه الصور خدمات بيانية وتربوية فى مجال الدعوة تحنو لها الجباه، وكانت وجها أو وجوها من وجوه الإعجاز القرآنى المفحم للإنس والجن، وحفلت بدقائق ولطائف وأسرار ليس لها نظير خارج دائرة البيان القرآنى.
وجمعت فى دلالاتها بين إقناع العقل، وإمتاع العاطفة وتغذية القلوب، وكشفت عن خبيئات المعانى، ترغيبا وترهيبا، تحبيبا وتنفيرا، ومثلت الخفى فى صورة الجلى، والغامض فى صورة المكشوف، وخاطبت كل حواس الإدراك فى الإنسان وكل ملكات الفهم والتذوق عند العقلاء.
خذ إليك مثلا قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (5).
جاء التشبيه فى نهاية الآية، وقد تقدم عليه ما ينفى عنه كل نقص، هو قوله تعالى:
فِي سَبِيلِهِ دفعا للقتال الذى لم يرد به نصرة الحق، كالقتال عصبية، أو ظلما.
كما تقدم عليه قوله تعالى صَفًّا إلماحا إلى شدة التماسك بين المجاهدين فى سبيل الله، بحيث لا يترك تماسكهم أدنى خلل يضعف قوتهم. ثم جاء التشبيه شارحا لذلك التماسك المفهوم من قوله: صَفًّا هكذا:
كالبنيان ووجه الشبه هو «القوة والإحكام، وهو محذوف وقد صار التشبيه بحذف الوجه مجملا، فأفاد عموم الاشتراك بين المشبه والمشبه به، وهو أحد عنصرى التشبيه البليغ.
ومن سحر البيان فى هذا التشبيه إيثار أداة التشبيه كأن وقد تقدم أن ذكر الأداة يكون معه التشبيه مرسلا، والإرسال أدنى دلالة من التوكيد الذى يترتب على حذف الأداة، لكن الأداة كأن دفعت هذا الاحتمال لأن «كأن» مركبة من عنصرين كما ترى:
الكاف، ثم أن. وهى من أدوات التوكيد، لأنها من أخوات «إن»
هذا التركيب يوحى بأن «الكاف هى أداة التشبيه، أما «أن» فهى أداة توكيد قائمة برأسها. فيكون التشبيه فى الآية مؤكدا،
(3) البلاغة التطبيقية (مبحث التشبيه) د/ أحمد إبراهيم مرسى.
(4)
بغية الإيضاح (2/ 176).
(5)
الصف (4).
فيزول عن هذه الصورة التشبيهية وصف الإرسال.
وحتى لو لم تكن «كأن» مركبة. فهى عند فريق من العلماء تستعمل فى التشبيه المؤكد، فيكون مرسلا من جهة، ذكر الأداة لفظا، ومؤكدا من جهة معنى «كأن» .
والمشبه به بُنْيانٌ جىء به منكرا بقصد التعظيم أى بنيان عظيم فى قوة تماسكه.
أما قوله مَرْصُوصٌ فقد كمل به الحسن من كل وجه، لأن البنيان قد يكون على هيئة لا تماسك فيها. فجاء «مرصوص» بمثابة احتراس لدفع كل عوامل الوهن عن المشبه به.
أما من حيث تحليل عناصر هذا التشبيه فإن الملاحظ فيه:
أن المشبه مفرد حسى وإن كان جمعا: لأن المثنى والجمع فى هذا المبحث من قبيل الإفراد، وهو الذين يقاتلون فى سبيل الله صفا.
والمشبه به مفرد حسى كذلك، وهو البنيان المرصوص والوجه مفرد حسى، وهو: قوة التماسك الملحوظة فى المشبه والمشبه به معا.
أما الغرض من التشبيه فهو الترغيب.
ومثال آخر، هو قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (6)
التشبيه هو قوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً والخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. المشبه فيه هو النبى عليه السلام.
والمشبه به هو السراج، وأداة التشبيه محذوفة والوجه محذوف كذلك. وليس هو مُنِيراً لأنه وصف للمشبه به، لا منصوب على التمييز، حتى يصلح أن يكون وجها للتشبيه.
وإنما الوجه هو: فى الهداية «لأن الهداية متحققة فى الطرفين المشبه (محمد صلى الله عليه وسلم والمشبه به (السراج المنير).
والمشبه والمشبه به مفردان حسيان، والوجه (الهداية) مفرد عقلى معنوى. والغرض الثناء وفى هذا التشبيه لطيفة من لطائف البيان العالى والبلاغة الآسرة والإعجاز الحكيم.
ذلك أن المشبه به هو السراج، والسراج مصدر ضوئى ذاتى، كالشمس، وليس مصدر إنارة مستمدة من غير السراج. فكان الظاهر أن يقال: وسراجا مضيئا. كما قال:
الشَّمْسَ ضِياءً أى جعلناها مضيئة لا منيرة، لأن الضوء ما صدر عن مصدره صدورا مباشرا. أما النور والإنارة فمصدره
(6) الأحزاب (45 - 46).
عاكس لضوء غيره. لذلك وصف القمر فى القرآن بأنه نور، ومنير، لأنه يعكس ضوء الشمس، وليس له إشعاع ذاتى.
إذن، لماذا وصف القرآن محمدا صلى الله عليه وسلم بعد تشبيهه بالسراج بأنه مُنِيراً والسراج له ضوء لا نور؟
إن إيثار مُنِيراً على «مضيئا» قبس من ضوء الإعجاز البلاغى فى القرآن الكريم؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يخترع الهدى الذى جاء به من عند نفسه وإنما تلقاه عن الله عز وجل، فهو عاكس لهذا الضوء الإلهى ولو قيل «مضيئا» لوقع فى بعض الأفهام أنه مجرد عبقرى من عباقرة البشر، وليس له صلة بالله. وهذا ما يردده بعض المستشرقين الآن، لكن لما قال مُنِيراً أحكم غلق كل النوافذ أمام الأوهام المريضة، عن طريق استخدام مفردات اللغة فى أعلى وأدق وأحكم مستويات استعمالها.
كما كان فى إيثار مُنِيراً علي «مضيئا» إثبات لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه منير عاكس لضوء مصدره الله عز وجل، وليس هو مصدره.
ولقائل أن يقول:
ولماذا لم يقل القرآن: وقمرا منيرا؟
فيريحنا من تلك التأويلات؟
والجواب: أن البلاغة والإعجاز فى وَسِراجاً مُنِيراً وليس كذلك: وقمرا منيرا.
وذلك لأن من منهج القرآن البلاغى ألا يشبه أحدا من الخلق بالقمر «فهذا أمر هجره البيان القرآنى تماما. هذه واحدة.
والثانية أن التشبيه بالقمر لا يرقى إلى مستوى التشبيه بالسراج. ولا يؤدى عشر معشار المعانى التى تشع منه، بيان ذلك: أن القمر متقلب لا يدوم على حال. ففي كل يوم له وضع يختلف عما قبله وما بعده:
يبدو ضعيفا هزيلا نحيفا فى أولى مراحله، قصير المكث فى الأفق ولا يبلغ تمامه إلا ليلة واحدة فى دورته الشهرية، ثم يعود عكس ما بدأ، يصغر حجمه ليلة قليلة، ثم يختفى تماما فى آخر لياليه.
وليس الهدى الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كذلك فهو مستقر لا متقلب كالقمر، دائم لا تعتريه آفات ولا علل.
إن السراج الذى شبه الله به محمدا صلى الله عليه وسلم لم ينطفئ منذ أشعله الله، ولم يضعف، ولن ينطفئ ولن يضعف. لذلك كان التشبيه به بلاغة وإعجازا. أما التشبيه بالقمر- فى هذا المقام- فعىّ وفهاهة، لذلك لم يشبه الله رسوله به؛ لأن حديث الله أحسن الحديث، وقوله أصدق الأقوال.
فتأمل هذه الروائع واللطائف فى هذا التشبيه، وقس عليها ما شئت من تشبيهات البشر، لتدرك بعد الثريا من الثرى.
وصورة ثالثة نعرج عليها فى سرعة، هى قوله تعالى:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً (7).
هذه الآية تتحدث عن رجل أو صنف من الناس كانوا يقفون عقبة كئودا فى وجه الدعوة، ويستجلبون بدائل عنها يلهون بها الناس عن سماع دعوة الحق، ويفرون هم منها فرار الحمر المذعورة من الأسد الهصور. هذه هى القضية، فكيف صورها التشبيه القرآنى للناس، فى كلمات صغار ذوات معان كبار.
تعال معى لنرى ونتذوق: صورها أولا:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً والتولى هو الفرار أو الهروب السريع، ثم بين علة هذا الهروب والفزع، وهى الاستكبار، وجعل الاستكبار حالا منه، يعنى هرب يطير به استكباره الخادع. ومن أى شىء هرب مسرعا؟ من آيات الله الهادية إلى سبيل أقوم.
هذا التصوير كان كافيا فى رسم شخصية هذا الخصم الألد، لكن القرآن يخطو بنا خطوة أخرى عن طريق التشبيه فيقول:
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها شبه حاله فى عدم التأثر بهدى الله، وهو يتلى عليه بحال من لم يسمع تلك الآيات الهاديات. ووجه الشبه هو انعدام الإحساس بما يتلى.
ومن دقائق هذه الصورة إيثار (أن) المخففة من الثقيلة (أنّ) لأن هذا الإيثار أتاح حذف ضمير الشأن من (أن) مضافا إلى تخفيف (أن) من التشديد. فكان فى هذين (التخفيف وحذف ضمير الشأن) إسراع إلى وصف هذا الصنف من الناس بعدم السماع، وفى هذا ذم لهم وتسجيل سريع عليهم بالإعراض عن دعوة الحق.
والمشبه والمشبه به أمران معنويان: انعدام التأثر، وفقد القدرة على السماع. ووجه الشبه هو شدة التبلد فى كل منهما ثم جاء التشبيه الثانى كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً كاشفا، وشارحا لفقد القدرة على السماع فى التشبيه الأول، مع زيادة تأصيل للصمم الذى حل بالمعرضين عن دعوة الحق، فقد أصيبت أذناه بآفة عطلت وظيفتهما فكأنهما- أعنى أذنيه- غير موجودتين.
فتأمل كيف بنى التشبيه الفكرة تصاعديا، حتى وصل بها الذروة فى المعنى المراد:
ولى مستكبرا.
كأن لم يسمعها.
كأن فى أذنيه وقرا.
فبشره بعذاب أليم.
(7) لقمان (7).
ونشير بعد ذلك إلى أمرين:
أولهما أن جميع تشبيهات القرآن تشبيهات مجملة، لم يذكر فيها وجه الشبه ولا مرة واحدة.
وثانيهما: أن فى تشبيهات القرآن نوعا أسميناه فى بعض كتبنا: التشبيه السلبى ..
وتحته صور كثيرة. هذا النوع نادر جدا فى غير القرآن، وكثير فى القرآن وضابطه أن التشبيه وقع خطأ بين أمرين خارج القرآن.
فجاء القرآن ونفى ذلك التشبيه، ومن أمثلته قوله تعالى:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (8).
فهذا التشبيه بين الصالحين والطالحين وقع خارج دائرة القرآن، فى ظن الذين عاندوا الله ورسوله. والذى فى القرآن هو نفى ذلك التشبيه. لذلك أسميناه ب «التشبيه السلبى أو التشبيه المسلوب» (9).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(8) الجاثية: 21.
(9)
خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية (مبحث التشبيه) مكتبة وهبة- القاهرة.