الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(7) تتابع سنّتى الإيمان والعصيان فى آية واحدة أو أكثر
ومن السنن الإلهية الإيمانية فى القرآن الكريم أن تأتى سنة الإيمان وجريرة العصيان فى الآية الواحدة أو فى آيتين متجاورتين رحمة من الرحمن الرحيم بخلقه من بنى الإنسان، حيث يضع الحسن والقبيح متجاورين، وينزل الإيمان والكفر متتاليين حتى يكون العبد على بيّنة من أمره، من آمن بالخير اتخذه طريقا، ومن ارتضى العصيان فهو المسئول عن سوء ما ارتضى، والآيات فى هذه السنّة كثيرة شأنها فى ذلك شأن آيات الإيمان وشأن آيات فضل الله على العباد، ولأن هذا النوع من الآيات يبين رحمة الله بخلقه وعدله بين عباده، فقد رأينا أن نقدم نماذج منها، وهذه النماذج وإن تكن قليلة بالقياس إلى ما حفل به الكتاب العزيز منها، فإن قليلا من الخير فى أحيان كثيرة يغنى عن كثيره، وإن كانت هذه القاعدة لا يجمل بنا أن نجعلها مقياسا ونحن نتعامل مع القرآن الكريم، كلام الله الذى أنزل على سيد خلقه وخاتم رسله وأنبيائه.
يقول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ. (1)
ويقول الله- عز وجل فيمن استجابوا لربهم والذين لم يستجيبوا: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. (2)
وفى الفرق بين طلاب الدنيا وطلاب الآخرة يقول عز وجل: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ
(1) سورة الحشر الآيات 18 - 20.
(2)
سورة الرعد الآية 18.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (3).
والذى يستوقف القارئ المتمعن فى هذه الآيات هو أن منزل الكتاب جلت قدرته حسم القضية فى آية واحدة هى أولى الآيات الثلاث فى إيجاز وإعجاز، ثم يتبع فى الآية الثانية بقصر الكلام على طلاب الدنيا فى إطار من التوبيخ والوعيد، وتكمل أولى كلمات الآية الثالثة وصف حال الظالمين بما يشبه الإشفاق؛ ثم تكون بقية الآية تتويجا لحال من أرادوا حرث الآخرة بأنهم فى روضات الجنات لهم ما يشتهون عند ربهم ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ فشتان- فى القول الإلهى- بين حال الفريقين: لطلاب حرث الآخرة روضات الجنات، وللآخرين عذاب عظيم.
ولمن يسلم وجهه إلى الله، وعن من يكفر، يقول رب العزة: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (4).
ولا ينبغى لنا ونحن بسبيل العيش فى رحاب كلام الله ألا نشير إلى أن هنا خطابا من العزيز الحميد موجها إلى حبيبه ورسوله يخفف عنه بعض ما يمكن أن يكون قد لحقه من حزن ألمّ به لإصرار بعض أهل الكتاب على شركهم، يجادلون فى توحيد الله وصفاته بغير علم أو برهان. إنّ أحد أكابر المفسرين (القرطبى) قال: إن الآية نزلت فى يهودى جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرنى عن ربك من أى شىء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته (5). وهنا ينبغى أن نذكر أن الآيتين موضع الاستشهاد مسبوقتان بآيتين كاشفتين هما قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ. (6)
ومن السنن الحسنة والسيئة التى مثل الله لها فى آيتين متجاورتين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فالأولى دالة على الخير والإيمان، والثانية دالة على الخبث والكفران، وفى ذلك يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
(3) سورة الشورى الآيات 20 - 22.
(4)
سورة لقمان الآيات 22 - 24.
(5)
القرطبى 14/ 74.
(6)
الآيتان 20، 21 من لقمان.
الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ. (7)
وإن ما قد عود الله عباده عليه من قارئى كتابه العزيز، أن هذا القبيل من الآيات التى تتجاور فيها آيات الإيمان مع آيات الكفران تكون مسبوقة حينا بمدخل إيمانى يتمثل
فى آية كريمة، وحينا آخر تكون مسبوقة بآية أو آيات إيمانية متسقة مع روح الآية التالية لها ثم متبوعة بآية أو آيات تعزيزية كما هو الحال فى آيات سورة النور التى سبق التمثيل بها، وكما هو الحال هنا فى آيات الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فآية الكلمة الطيبة مسبوقة بآية يقول الله سبحانه فيها:
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وآية الكلمة الخبيثة جاءت تالية لها آية فى إطراء وتثبيت للمؤمنين وإنذار ووعيد للظالمين فى قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ. (8)
إن خير ما نختتم به هذا الفصل هو قول الله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
أ. د. مصطفى الشكعة
(7) سورة إبراهيم الآيات 24 - 27.
(8)
سورة إبراهيم الآيات 27، 29.