الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنشاء
الإنشاء لغة: الإيجاد والتكوين، يقال:
فلان أنشأ قصيدة أى ألفها بعد أن لم تكن (1).
أما فى اصطلاح البلاغيين فالإنشاء هو الكلام الذى يطلب به أمر لم يكن موجودا وقت النطق بالكلام. وهو عندهم ما ليس له نسبة خارجة وقت النطق بالكلام الإنشائى، يراد مطابقتها أو عدم مطابقتها. وهو ما لا يحتمل الصدق والكذب: لأن مضمونه لا يقع- أن وقع- إلا بعد النطق بطلبه. وقد يجاب الطلب أو لا يجاب ولذلك فإن الإنشاء ليس له إلا نسبتان من النسب الثلاث التى تقدمت فى مبحث الخبر، بل له نسبتان فقط:
* النسبة الكلامية.
* النسبة الذهنية. وقد يعبر عنها بالنسبة العقلية، توضيح هذا فى تحليل العبارة الآتية:
إذا قال قائل لآخر: «أعرنى كتابك» . هذه الجملة إنشائية طلب بها أمر لم يكن موجودا ساعة النطق بها والنسبة الكلامية فيها هى:
طلب المتكلم استعارة كتاب المخاطب.
أما النسبة الذهنية (العقلية) فهى التصور الذهنى لعملية إعارة الكتاب، سواء تحققت الإعارة أو لم تتحقق.
هاتان النسبتان يشترك فيهما الخبر والإنشاء وينفرد الخبر بالنسبة الخارجية (الواقعية) ولو فرضا لا تحقيقا، إذا كان الخبر غير صادق (2) والإنشاء هو شطر اللغة الثانى بعد الخبر.
ويتكوّن الكلام الإنشائى من عدة أساليب فرعية، هى:
* الأمر.* النهى.
* الاستفهام.* النداء.
* التمنى.* الرجاء.
والأصل فى الأمر أن يكون للوجوب، أى وجوب إيجاد شىء لم يكن له وجود ساعة النطق بفعل الأمر. مثل قوله تعالى:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ (3)
مضمون الأمر وَقاتِلُوا هو الوجوب والأصل فى النهى أن يكون لطلب الكف عن شىء على وجه الجزم، ومثله قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا (4).
(1) اللسان والمعاجم اللغوية. مادة: نشأ.
(2)
البلاغة الواضحة (مبحث الخبر) حامد عونى وبقية الإيضاح.
(3)
البقرة (190).
(4)
آل عمران (130).
والأصل فى الاستفهام أن يكون لإعلام المستفهم أمرا هو يجهله. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن قوم إبراهيم:
أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا (5).
والأصل فى النداء أن يكون لطلب الإقبال المادى الحسى ومثاله فى القرآن الكريم قول الله لموسى عليه السلام: يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ (6).
والأصل فى التمنى أن يكون لطلب المستحيل أو ما فيه عسر، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عما يقوله الكافر يوم القيامة: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (7).
والأصل فى الرجاء أن يكون لطلب الممكن المحبوب. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه السلام لأهله:
إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ (8).
هذا هو الأصل فى استعمال هذه الأساليب اللغوية لكن بلاغة القرآن المعجز استعملتها فى معان مجازية أخرى يضيق المقام عن ذكرها، وقد كتبت فيها مجلدات دون الإحاطة بها (9).
وما لا يدرك كله لا يترك كله لذلك نكتفى بأمثلة يسيرة من الأربعة أساليب المذكورة.
فالأمر والنهى يستعملان فى ما يقرب من خمسة وعشرين معنى مجازيا.
كالتعجيز المستعمل فيه الأمر فى قوله تعالى مخاطبا منكرى البعث:
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (10).
والإهانة فى قوله تعالى:
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (11).
والإرشاد المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى:
وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ (12).
والدعاء المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى:
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا (13).
والالتماس المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى حكاية عن قول هارون لموسى عليهما السلام:
يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي (14).
وغير ذلك كثير وكثير، استعمل فيه (القرآن) أسلوبى الأمر والنهى فى معان
(5) الأنبياء (62).
(6)
القصص (31).
(7)
النبأ (40).
(8)
طه (10).
(9)
التفسير البلاغى للاستفهام فى القرآن الحكيم. مكتبة وهبة.
(10)
الإسراء (49).
(11)
الدخان (49).
(12)
البقرة (282).
(13)
البقرة (286).
(14)
طه (94).
مجازية، مفعمة بالإيحاءات البيانية، لإقرار الحق وإظهاره، ودحض الباطل والتنفير منه.
وأكثر الأساليب الإنشائية خروجا عن معانيها اللغوية إلى معان مجازية فى القرآن الكريم هو الاستفهام، وقد ورد منه أكثر من 1260 صورة، فى القرآن الكريم وكان له شأن عظيم فى نصرة الحق وتجليته، ودحر الباطل ومحوه، والمعانى المجازية التى خرج إليها لا تكاد تحصى، وصوره فى القرآن قسمان.
قسم صادر عن الله عز وجل، غير محكى عن غيره. وهذا القسم كل صوره مجازية؛ لأن الله قد أحاط بكل شىء علما، فهو منزه عن أن يستفهم طالبا فهم ما لم يفهمه.
وقسم صادر عن غيره وحكاه القرآن.
وهذا القسم لا تكاد ترى فيه استفهاما حقيقيا إلا نادرا.
ومن صور الاستفهام الصادرة عن الله ما يأتى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (15). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو إظهار فضل الله وتكريمه لمحمد صلى الله عليه وسلم.
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (16). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو: الأمر، أى: انتهوا.
فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (17).
والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو: التقرير.
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (18). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو: التعجيز وإقامة الحجة لله على العباد.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (19). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو الحث والترغيب.
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (20). والمعنى المجازى الذى خرج هو إيناس موسى عليه السلام.
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (21).
والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو الإنكار على المخاطب.
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (22). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التسوية.
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (23).
والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التقرير والإنكار معا بحسب جملتى الاستفهام.
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً (24).
والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التعجيب.
(15) الشرح (1).
(16)
المائدة (91).
(17)
يونس (32).
(18)
التكوير (26).
(19)
القمر (17).
(20)
طه (17).
(21)
البقرة (255).
(22)
البقرة (6).
(23)
الصافات (62).
(24)
الفرقان (45).
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (25). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التهويل. الخ.
أما النداء فهو من الأساليب الإنشائية الكثيرة الشيوع فى القرآن الكريم. وله ما للاستفهام من دور جليل الشأن فى أداءات البلاغة القرآنية، وقل أن تجد فيه نداء غير مستعمل فى المعانى المجازية، التى يقتضيها المقام.
وقد بلغت الأصناف التى نوديت فى القرآن أكثر من خمسة عشر صنفا شملت العاقل وغير العاقل.
ومن نداءات العاقل فى القرآن الكريم:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ وهو أشرف نداءات القرآن الكريم ومثله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ثم مناداة الرسل المفردة يا إِبْراهِيمُ- يا نُوحُ- يا عِيسى.
ويلى هذا النداء فى الشرف:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- يا عِبادِيَ
ومن نداء غير العاقل فى القرآن الكريم قوله تعالى:
يا جِبالُ .. (26)
يا أَرْضُ
…
يا سَماءُ (27)
يا أَيُّهَا النَّمْلُ (28)
والمنادى فى القرآن الكريم باعتبار لفظه أربعة مجموعات (29):
الأولى: نداء أفراد، مثل: يا آدم، يا إبراهيم، يا موسى.
الثانية: نداء مثنى، وهو نادر، مثل: يا صاحبى السجن.
الثالثة: نداء جماعات مخصوصة، مثل:
يا قوم- يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الملأ، يا أيها الذين هادوا.
الرابعة: نداء جماعات عامة شاملة، مثل:
يا أيها الناس، يا بنى آدم.
ولكل مجموعة من هذه المجموعات الأربعة غرض خاص يناسب نداءها فى دقة وإحكام.
فمثلا يا أَيُّهَا النَّاسُ يأتى عقب ندائها أمر عام يشمل جميع أفراد المنادى. كما جاء فى مطلع سورة «النساء»
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ لأن المخاطبين بالنداء- هنا- ينطبق عليهم هذا الوصف أعنى الخلق من نفس واحدة.
وكذلك ما جاء فى مطلع سورة الحج: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا
(25) الفيل (1).
(26)
سبأ (10).
(27)
هود (44).
(28)
النمل (18).
(29)
عبد المتعال الصعيدى.
أَرْضَعَتْ فالناس كلهم مطالبون بتقوى الله (التكليف) وهم كلهم سيرون أهوال القيامة أما نداء الذين آمنوا فلا يأتى بعده إلا أمر خاص بالإيمان، وتابع له. مثل قوله تعالى
فى مطلع سورة «الحجرات»
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فالتزام الأدب والإذعان بين يدى الله ورسوله أمر خاص بالمؤمنين.
ونداءات القرآن، وبخاصة ما كان صادرا عن الله عز وجل، خرجت إلى معنى مجازى غير طلب الإقبال المادى الحسى. وهذا هو مكمن البلاغة فى نداءات القرآن الكريم.
فمثلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى المراد منه الإقبال الذهنى المعنوى. لتنفرغ أنفس المنادين من كل الشواغل لتلقى ما يتلى عليها فتعيه أكمل وعى. وهكذا كل معانى القرآن الكريم من نداءات.
د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع: