الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البديع
البديع فى اللغة، هو الجديد والطريف والمخترع (1) أما فى اصطلاح البلاغيين.
فهو: علم يعرف به وجوه تحسين الكلام (2).
وهو العلم الثالث من علوم البلاغة: المعانى والبيان ثم البديع. ومنزلته بين علوم البلاغة أن علمى المعانى والبيان علمان أساسيان فى بلاغة الكلام. ويأتى البديع يزيد الكلام البليغ حسنا راجعا إلى المعانى أولا، ثم إلى الألفاظ ثانيا. أو حسنا راجعا إلى الألفاظ أولا ثم إلى المعانى ثانيا.
وعلى هذا الاعتبار قسموا البديع قسمين:
أحدهما البديع المعنوى كالطباق والمقابلة ومراعاة النظير، والثانى: لفظى كالجناس والسجع (3).
وقد وضعوا لقبوله فى الكلام شروطا منها:
* عدم الإكثار منه، وترك الإسراف فيه.
* ألا يكون متكلفا بل يقبل منه ما جرى على الطبع وعلى أساس هذا نقدوا كثيرا من الشعراء لإسرافهم فى الألوان البديعية، وتكلفهم بعض صوره فى شعرهم وقالوا إن المسرف فيه يكون عرضة للذم وكثرة الخطأ.
أما بديع القرآن فسوف نتناول أطرافا منه من خلال بعض آيات القرآن الكريم لنثبت بالأدلة القاطعة إنه كثير جدا فى القرآن الكريم، ومع هذه الكثرة لا نقول إنه سلم من كل عيب فحسب، بل هو سمة من سمات الإعجاز فى كتاب الله العزيز. وهذا هو الفرق بين كلام الله وكلام البشر.
نعرض فى هذا المبحث نصوصا من القرآن الكريم، محاولين توضيح ما فيها مما أطلقوا عليه «بديعا» سواء دخل عندهم فى المعنوى، أو اللفظى، ولنبدأ بقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (4).
(1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: بدع.
(2)
سر الفصاحة (193).
(3)
بغية الإيضاح (3/ 3) تعليق الشيخ عبد المتعال الصعيدى مكتبة الآداب 1420 هـ.
(4)
البقرة (26 - 27).
جاءت فى هاتين الآيتين ضروب عدة من البديع نذكرها فيما يلى:
(أ) المشاكلة: وذلك فى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما وهى مشاكلة من النوع الثانى الذى ذكروه فى قولهم: «المشاكلة هى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته تحقيقا أو تقديرا» (5).
فهى مشاكلة تقديرية. وذلك بناء على ما ذكره المفسرون. فالزمخشرى يقول «ويجوز أن تقع هذه العبارة فى كلام الكفرة. فقالوا: أما يستحى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب- إشارة إلى قوله تعالى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً (6) فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال- وهو فن من كلامهم بديع وطراز عجيب منه قول أبى تمام:
من مبلغ أبناء يعرب كلها
…
أنى بنيت الجار قبل المنزل
ويلاحظ أن اللفظ «المشاكل» هنا مجازى المعنى حقيقته الترك. فمعنى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أى لا يترك الضرب بالبعوضة ترك من يستحى أن يمثل بها لحقارتها
…
لأن الحياء تغير وانكسار يعترى الإنسان من تخوف ما يعاب به أو يذم (7) وهو بهذا المعنى مستحيل فى جانب الله.
إذن فقد اجتمع هنا لونان بديعيان:
المشاكلة .. وقد تقدم شرحها.
(ب) والمماثلة أو التمثيل .. وقد سبق أنهم يعتبرونه لونا بديعا. وسبق كذلك أنه عندهم يطلق على عدة أمور: الاستعارة المفردة، الاستعارة التمثيلية، المثل السائر.
(ج) الإبهام: وذلك بناء على ما ذكره المفسرون- كذلك- من أن «ما» فى قوله تعالى: ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها أن «ما» الأولى إبهامية، وهى التى إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شيوعا وعموما (8) وكون «ما» إبهامية مشروط بنصب «بعوضة» - كما هى القراءة المشهورة- وإن رفعت «بعوضة» فإن «ما» تصبح موصولة.
(د) التوجيه: وذلك فى قوله تعالى: فَما فَوْقَها فإن الفوقية هنا لها معنيان، أحدهما: فما تجاوزها فى المعنى الذى ضربت فيه وهو القلة والحقارة.
وثانيهما: فما زاد عليها فى الحجم.
ولما كان أحد هذين المعنيين لم تنصب قرينة على إرادته بعينه، وبقى الفهم والاعتقاد شركة بينهما حصل النوع البديعى الذى يسمونه «التوجيه» ؛ وهو أن يكون للفظ معنيان لم تقم قرينة على إرادة أحدهما. والمتأمل يرى أن كلا المعنيين هنا صالح للفهم والاعتقاد.
(5) الإيضاح (6/ 27).
(6)
الحج (73).
(7)
الكشاف (1/ 84).
(8)
المصدر نفسه (860).
(هـ) حسن التقسيم: حيث قسم الناس بالنسبة لضرب الأمثال بالبعوضة وما زاد عليها فى الحقارة أو ما زاد فى الحجم إلى فريقين: فريق مؤمن مصدق، وآخر كافر مكذب.
(و) المقابلة: حيث طابق بين «آمنوا» و «كفروا» و «يضل» و «يهدى» ، وقد جمعت المقابلة هنا التكافؤ حسبما يرى ابن أبى الأصبع لأن «يهدى» و «يضل» مجازيان.
(ز) التعطف: وذلك فى ثلاثة مواضع «مثلا» و «مثلا» ، «يضل» و «يضل» ، «كثيرا» و «كثيرا» .
(ح) البيان بعد الإبهام: وذلك أنه سبحانه قال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً فبين أن فريقا يضل به وآخر يهدى، ولم يبين من المهدى ومن المضل، ثم عاد فقال: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ليعلم من هو الفريق المضل وفى هذا البيان معنى الاحتراس.
(ط) صحة التفسير: حيث فسر «الفاسقين» فى قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ بقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
(ى) النزاهة: وذلك لأنه سبحانه حين أراد ذمهم لم يستعمل فيه هجين اللفظ، ولا قبيح المعانى، بل سجل عليهم نقضهم ميثاق الله، وترك ما أمر الله بفعله وفسادهم فى الأرض، وأخبر عنهم بأنهم هم الخاسرون لا غيرهم.
(ك) التكافؤ: وهو- كما عرفه ابن أبى الأصبع- أن يكون ركنا الطباق مجازين لا حقيقيين، وأن تكون أركان المقابلة مجازية كذلك. والتكافؤ بهذا المعنى وارد فى الآية
الثانية: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، حيث قابل بين النقض والتوثقة، والقطع والوصل، وهذه كلها أركان مجازية، فالنقض لا يكون إلا فى المركبات الحسية، وكذلك التوثقة، والقطع لا يكون إلا فى المتماسك الحسى، وقد استعمل هنا مرادا به الترك، والوصل صنو القطع، واستعمل هنا فى أمر معنوى هو: الإتيان والفعل.
(ل) الترشيح: وذلك أنه قال: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ هو الذى رشح لإيقاع النقض على العهد، وهو لا يكون إلا فى المركب الحسى و «العهد» معنى من المعانى، فالذى رشح له أنهم يسمون العهد «حبلا» على سبيل الاستعارة. قال الزمخشرى: «فإن قلت من أين ساغ استعمال النقض فى إبطال العهد؟
قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على
سبيل الاستعارة لما فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين» (9).
(م) التسجيع: وهذا ظاهر من فاصلتى الآيتين: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فاتحدت الفاصلتان فى حرف النون مسبوقا بحرف مد فى الموضعين.
(ن) التذييل: وذلك فى قوله تعالى:
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فإنه تذييل جاء مؤكدا لما فهم من أوصاف الفاسقين.
(س) حسن النسق: حيث جاءت الجمل مرتبة ترتيبا حسنا خالية من عيوب النظم.
فقد بدأ- سبحانه- بأن له مطلق الإرادة يمثل بما شاء لما شاء. والناس إزاء هذا التمثيل ضربان: مؤمن مصدق، وكافر مستريب، وفى هذا يضل الله من يشاء وهم كثيرون، ويهدى من يشاء وهم كثيرون، ثم بين أنه لا يضل إلا الفاسقين، ثم شرع فى بيان صفات الفاسقين فبدأ بنقضهم عهد الله، وتركهم ما أمر الله به أن يؤتى، ثم عطف عليه كونهم مفسدين فى الأرض. ثم أخبر عنهم بأنهم الخاسرون.
والمتأمل يرى أن كل جزء تقدم على آخر فإنه كالسبب فيه أو أخص منه وما أتى بعده عام. أو حكم تقدمت مسبباته. فجاء التعبير محكم البناء، موصول العرى، متلاحم الفقرات.
(ع) الانسجام: وقد عرفه ابن أبى الأصبع: بأن يكون الكلام منحدرا كانحدار الماء المنسجم بسهولة سبك وعذوبة ألفاظ وسلامة تأليف، حتى يكون للكلام موقع فى النفوس وتأثير فى القلوب ما ليس لغيره وإن خلا من البديع (10).
وهذا الانسجام ينطبق على آيتينا هاتين بل ينطبق على كل موضع فى القرآن الكريم فهو وصف عام له، لم يختص به موضع دون آخر.
(ف) المجاز: هكذا عدوا المجاز من فنون البديع، وهو فى آيتنا ظاهر فى بعض مواضعها كالنقض فى الإبطال، والتوثق فى الحفاظ على عهد الله، والقطع فى الترك والوصل فى الفعل، ومن قبل هذا كان الاستحياء فى الترك أيضا.
(ص) الإدماج: وهو كما عرفه ابن أبى الأصبع (11): أن يدمج غرض فى غرض أو بديع فى بديع بحيث لا يظهر إلا أحد الغرضين: وهذا قد مر بنا فى موضعين من النص الكريم:
أحدهما: دمج التكافؤ فى المقابلة فى قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ
(9) المصدر نفسه (1/ 90).
(10)
بديع القرآن (166).
(11)
المصدر نفسه (172).
مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً فإن «يضل» و «يهدى» مجازيان- كما سبق- وهذا تكافؤ مدمج فى المقابلة.
وثانيهما: دمج التكافؤ فى المقابلة- كذلك- فى قوله تعالى: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ على ما سبق بيانه.
(ق) التفصيل: وهو الواقع بعد «أما» ، و «أما» فى قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ولا يقف بنا الأمر عند هذا الحد، فإن لنا أن نصف النص بما يأتى:
(ر) ائتلاف اللفظ مع المعنى: لأن كل لفظ فيه قد ائتلف مع معناه. فهما مقدران بقدر، وموضوعان بحكمة، وهذا اللون- وإن مثلوا له ببعض آيات القرآن- فإنه وصف عام ليس فى موطن دون موطن بل القرآن كله موصوف بائتلاف ألفاظه مع معانيه.
(ش) حسن الجوار: وهذا مثل سابقه:
وصف عام للقرآن حيث لم تقع فيه لفظة واحدة متنافرة مع سابق عليها أو لاحق لها، وهو ينطبق على آيتينا باعتبارهما جزءا من التنزيل الحكيم.
فهذه أكثر من عشرين لونا بحثوها فى ألوان البديع، وقد جاءت فى القرآن على أحسن موقع وأجمل مطلع.
وهل ترى فى هذا النص- وقد علمنا ما فيه من ألوان البديع- قصورا فى معناه الذى سيق من أجله؟ أم اقتسارا للفظ على المعنى؟
ليس فى النص شىء من هذا. بل هو واف بالمراد فى وضوح وقوة، وهذا هو الفارق بين كلام معجز، وكلام هو عرضة للخطأ والمغالاة.
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
(هود: 44)
هذه الآية الكريمة تصور لنا فى إيجاز نهاية قصة الطوفان فى عهد نوح عليه السلام، وقد اشتملت على الألوان البديعية الآتية:
(أ) المناسبة اللفظية التامة، بين «أقلعى» و «ابلعى» . فقد جمع بين اللفظين وهما هنا موزونان مقفيان بزنة وقافية واحدة وهذا هو معنى المناسبة التامة.
(ب) المطابقة: بين «السماء» و «الأرض» فى قوله تعالى: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وقد مر تعريف المطابقة فلا حاجة إلى ذكره.
(ج) الاستعارة: فى قوله تعالى: «أقلعى» و «ابلعى» .
(د) المجاز المرسل: فى قوله تعالى: «يا سماء» والحقيقة: يا مطر السماء والعلاقة:
المجاورة.
(هـ) الإشارة: وهى أن يدل اللفظ القليل على المعنى الكثير بحيث يكون اللفظ لمحة دالة. وذلك فى قوله تعالى: «وغيض الماء» لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء، فدل هذا التركيب القليل:«وغيض الماء» على أن كل ذلك قد حدث.
(و) الإرداف: فى قوله تعالى: «واستوت على الجودى» وقد مر بحث هذه العبارة.
(ز) التمثيل: وقد مر تعريفه والتمثيل له بهذه العبارة: «وقضى الأمر» .
(ح) التعليل: لأن «غيض الماء» علة الاستواء.
(ط) صحة التقسيم: حيث استوعب- سبحانه- حالة الماء حين نقصه.
(ى) الاحتراس: من توهم متوهم أن الماء قد عم من لا يستحق الهلاك وقد تحقق «الاحتراس» بالدعاء على الهالكين.
(ك) الانفصال: لأن لقائل أن يقول: إن لفظة «القوم» يستغنى عنها المعنى إذ لو قيل:
«وقيل بعدا للظالمين» لتم الكلام.
(ل) المساواة: لأن لفظ الآية لا يزيد على معناه ولا ينقص عنه، وستأتى مخالفة هذا الوجه.
(م) حسن النسق: فى عطف القضايا بعضها على بعض حسبما وقعت: الأول فالأول.
(ن) ائتلاف اللفظ مع المعنى: لكون كل لفظة لا يصلح غيرها مكانها، وقد مر تعريفه.
(س) الإيجاز: لأن الله اقتص قصة السفينة بلفظها مستوعبة فى أخصر عبارة بألفاظ غير مطولة.
(ع) التسهيم: لأن أول الآية إلى قوله تعالى: «أقلعى» يقتضى آخرها، والتسهيم أن يكون فى أول الكلام ما يدل على آخره لأنه يقتضيه.
(ف) التهذيب: لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، كل لفظة سهلة مخارج الحروف، عليها رونق الفصاحة.
(ص) حسن البيان: لأن السامع لا يتوقف فى فهم معنى هذا الكلام لوضوحه، وصفائه.
(ق) التمكين: لأن الفاصلة مستقرة فى
قرارها. مطمئنة فى مكانها غير قلقة ولا مستكرهة.
(ر) الانسجام: وهو تحدر الكلام بسهولة وعذوبة سبك.
(ش) الإبداع: وهو فى مجموع الآية.
هذا خلاصة ما ذكره ابن أبى الأصبع فى بديع هذه الآية. ولنا عليها ملاحظة مهمة.
ذلك أنه وصف الآية بالمساواة وجعل المساواة فنا من فنون البديع كما جعل الاستعارة كذلك. ثم عاد ووصف الآية بالإيجاز، والإيجاز والمساواة ضدان لا يجتمعان، فإما أن يكون الكلام مساويا أو غير مساو بأن يكون موجزا أو مطنبا، أما أن يوصف كلام واحد بعينه بأنه مساو، وموجز مرة أخرى فهذا شىء غير مفهوم على الإطلاق، ونحن- إذا جاريناه على أن الإيجاز من فنون البديع- فإن الآية موصوفة به لا بالمساواة إذ هى قد اشتملت على نوعى الإيجاز:
ففيها إيجاز الحذف. ويكفى فى تصور ذلك أن فى الآية قد بنى الفعل للمفعول فى عدة مواضع: «قيل يا أرض» و «غيض» و «قضى الأمر» و «قيل بعدا» .
كما طوى ذكر السفينة وأضمر فاعل الفعل «استوت» ، وحذف معمول «أقلعى»
…
وهذا موسوم بإيجاز الحذف.
وفيها إيجاز قصر .. لأن بعض ألفاظها قد حوى كثيرا من المعانى مثل: «غيض الماء» و «قضى الأمر» .
وبهذا يظهر خلط ابن أبى الأصبع فى عد الآية من باب المساواة مرة والإيجاز مرة أخرى.
وكيف ساغ له ذلك وهو البلاغى الضليع والناقد الأديب؟ لا أرى سببا وراء ذلك إلا ولوعه بألوان البديع وكثرة محصوله منها.
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. (يوسف الآيتان 26 - 27).
المعنى الإجمالى لهاتين الآيتين:
تكذيب يوسف عليه السلام لدعوى امرأة العزيز، ثم تأييده فيما قال بشهادة شاهد من أهلها لفت نظر العزيز إلى قرائن الأحوال التى منها: علم العزيز صدق يوسف عليه السلام وكذب امرأته على يوسف.
والناظر فيهما لا يجد تكلفا فى العبارات.
ولا نقصا فى المعنى، ومع هذا فقد جاءت فيها فنون شتى من البديع لم تخرج عن سمات البلاغة الأصلية، والبيان الآسر.
وتلك الفنون هى:
1 -
المناقضة: وهى- هنا- مناقضة المتكلم غيره فى معنى. فقد ادعت امرأة العزيز أن يوسف عليه السلام راودها عن نفسها.
فنقض هذا المعنى فى قوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.
2 -
الكناية: فى قوله أيضا: راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وحقيقته: طلبت منى الفحشاء.
والمراودة: أن تنازع غيرك فى الإرادة فتريد غير ما يريد (12)، فقد كان يوسف عليه السلام عزوفا عنها فأرادت أن تثنيه عن رأيه لتحقق مقصودها.
3 -
النزاهة: لأن فى قوله: راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي بعدا عن الألفاظ المعيبة. وفيها كذلك الاعتدال فى الاتهام ويبدو هذا جليا إذا ما قورنت هذه العبارة بعبارة امرأة العزيز:
ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (13) فهى تدل على نفس حاقدة كائدة مغيظة إذ لم تكتف بمجرد الاتهام، بل بالغت فيه مقترحة الجزاء: إما السجن، وإما العذاب الأليم.
4 -
جناس الاشتقاق: وذلك فى قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ لأنهما يرجعان فى اللفظ إلى أصل واحد.
5 -
الاستقصاء: وهو فى قوله تعالى:
مِنْ أَهْلِها وصفا للشاهد، وفى هذا مدخل عظيم الأثر فى براءة يوسف عليه السلام، وإدانة امرأة العزيز.
6 -
حسن البيان: لأن المعنى فى هاتين الآيتين واضح لا يعوق عنه فهم ولا يغرب عن طالب.
7 -
حسن التفسير: لأن قوله تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ، والآية التى بعدها- كل هذا تفسير للشهادة التى أشارت إليها العبارة السابقة.
8 -
حسن التقسيم: حيث قسم قرائن الواقعة قسمين باعتبار ما حدث من قدّ القميص.
9 -
المزاوجة: حيث زاوج بين الشرط والجزاء، فقدّ القميص من القبل يترتب عليه صدقها وكذبه. وقده من الدبر يترتب عليه كذبها وصدقه.
10 -
الإيهام: حيث ساوى بين امرأة العزيز ويوسف عليه السلام فى احتمال دعوى كل منهما فى الصدق والكذب، والقرائن التى أشار إليها الشاهد تخص دعواها بالكذب. وتثبت الصدق ليوسف عليه السلام.
11 -
المقابلة: حيث طابق بين القبل والدبر، والصدق والكذب.
12 -
العكس والتبديل: حيث قدم الصدق مرة وأخّره مرة أخرى، وقدم الكذب تارة وأخره تارة أخرى.
(12) مفردات الراغب (206).
(13)
يوسف (25).
13 -
التمكين: لأن الفاصلة فى الموضعين قارة فى مكانها لا نافرة ولا قلقة.
14 -
التسهيم: لأن قوله فى الآية الأولى:
إِنْ كانَ قَمِيصُهُ إلى: فَكَذَبَتْ يدل على الفاصلة وكذلك القول فى الآية الثانية.
15 -
التسجيع: لأن الفاصلتين فى الموضعين متماثلتان: «الكاذبين» ، «الصادقين» .
16 -
لزوم ما لا يلزم: حيث التزم فى الفاصلة الياء المكسور ما قبلها وذلك نلحظه فى الموضعين.
17 -
الإيجاز: ففي الآيتين لوحظ حذف بعض الكلمات منها: «قال» قبل: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وحذف الفاعل فى «قد» فى الموضعين. وكان فى هذا الحذف من الفخامة والروعة ما فيه.
18 -
حسن النسق: حيث رتبت الأجزاء ترتيبا حسنا فبدأ بتكذيب يوسف لدعوى امرأة العزيز ثم ذكر شهادة الشاهد الذى أيده. ثم تفصيل تلك الشهادة وما يترتب عليها فى عرض حسن ونسق جميل.
19 -
الانسجام: وذلك من جزالة الألفاظ، وجودة السبك والترتيب المنطقى لأجزاء القضية.
20 -
الافتنان: وقد عرفه ابن أبى الأصبع بأن يأتى المتكلم فى كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين، وقد جاء ذلك ظاهرا فى الجمع بين البراءة والإدانة، ثم الإدانة والبراءة فى قوله تعالى حكاية عن شاهد واقعة امرأة العزيز: وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وقد خطّأ نصيب الشاعر الكميت فى قوله:
أم هل ظعائن بالعلياء نافعة
…
وإن تكامل فيها الأنس والشنب
قال نصيب للكميت: أين الأنس من الشنب، ألا قلت كما قال ذو الرمة:
لمياء فى شفتيها حوّة لعس
…
وفى اللثات وفى أنيابها شنب (14)
فإن الشنب يذكر مع اللمس، والأنس يذكر مع الغنج. وبمثل هذا عاب ابن الأثير قول أبى نواس يصف الديك:
له اعتدال وانتصاب قد
…
وجلده يشبه وشى البرد
كأنها الهداب فى الفرند
…
محدوب الظهر كريم الجد
(14) الأغانى للأصفهانى (1/ 134).
لأنه ذكر الظهر وقرنه بالجد، وهذا لا يناسب هذا، لأن الظهر من جهة الخلق والجد من جهة النسب (15).
وكذلك خطأه فى قوله:
وقد حلفت يمينا
…
مبرورة لا تكذب
برب زمزم والحوض
…
والصفا والمحصب
لأن ذكر الحوض مع الصفا والمحصب غير مناسب. وإنما يذكر الحوض مع الصراط والميزان.
وأما التكرار فى القرآن فعذب وراق.
كقوله تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (16).
وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17).
وقوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (18).
وهو على تقاربه تجد له قوة وجزالة وأغراضه: إما المدح، وإما التهويل وإما للاستبعاد كما فى قوله تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (19)
…
إلى غير ذلك من الأغراض.
وهذا التكرار لا يخرج عندهم عما سموه الترديد أو التعطف. أو الجناس والمشاكلة ..
وقد جاء فى الشعر وغيره من كلام الناس فلم يسلم من العيب إلا فيما قل.
فمما عيب قول أبى الطيب:
فقلقلت بالسهم الذى قلقل الحشا
…
قلاقل عيش كلهن قلاقل
غثاثة عيش أن تغث كرامتى
…
وليس بغث أن تغث المآكل
قال ابن سنان معلقا عليهما: «فقد اتفق له أن كرر فى البيت الأول لفظة مكررة الحروف فجمع القبح بأسره فى صيغة اللفظة نفسها، ثم فى إعادتها وتكرارها، وأتبع ذلك بغثاثة فى البيت الثانى وتكرار «تغث» فلست تجد ما يزيد على هذين البيتين فى القبح» (20).
وقال أبو تمام:
قسم الزمان ربوعها بين الصبا
…
وقبولها ودبورها أثلاثا
وقد أخطأ أبو تمام فى ذكر «القبول» مع «الصبا» ، لأن الصبا هى القبول لذلك عده النقاد غير مفيد.
ففي الآية الأولى جمع بين براءة امرأة العزيز- فرضا- وإدانة يوسف عليه السلام، وفى الآية الثانية جمع بين إدانتها- حقيقة- وبراءة يوسف عليه السلام.
وإلى هنا فإننا تناولنا ثلاثة نصوص من القرآن الكريم. وقد أبنّا على طريقتهم ما يحتمله النص من وجوه البديع، وهذه النصوص فى جملتها تتكون من خمس آيات:
(15) المثل السائر (3/ 155).
(16)
القارعة (1 - 2).
(17)
الانفطار (17 - 18).
(18)
الواقعة (10).
(19)
المؤمنون (36).
(20)
سر الفصاحة (93).