الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان جملة ما ظهر لنا من فنون البديع فيها- بعد حذف المكرر- واحدا وأربعين فنا.
وهى:
1 -
التمثيل 2 - المشاكلة 3 - الإبهام 4 - التوجيه 5 - حسن التقسيم 6 - المقابلة 7 - التعطف 8 - البيان بعد الإبهام 9 - صحة التفسير 10 - النزاهة 11 - التكافؤ 12 - الترشيح 13 - التسجيع 14 - التذييل 15 - حسن النسق 16 - الانسجام 17 - المجاز 18 - الإدماج 19 - التفصيل 20 - ائتلاف اللفظ مع المعنى 21 - حسن الجوار 22 - الإشارة 23 - الإرداف 24 - التعليل 25 - الاحتراس 26 - الانفصال 27 - المساواة 28 - التسهيم 29 - التهذيب 30 - التمكن 31 - الإبداع 32 - المناقصة 33 - الكناية 34 - الجناس اللفظى 35 - الاستقصاء 36 - المزاوجة 37 - الإبهام 38 - العكس والتبديل 39 - لزوم ما لا يلزم 40 - الإيجاز 41 - الافتنان.
*
نتائج مهمة:
والباحث فى بديع القرآن مع إطلاق القول به حتى يشمل ما هو من المعانى والبيان يخرج بعدة نتائج:
أولا: أن العلماء قد اشترطوا لقبول البديع وحسنه وبلاغته شروطا منها: ألا يكون متكلفا ولا مسرفا فيه صاحبه، وأن يرسل مع الطبع والسجية ولا يكون على حساب المعنى.
وبديع القرآن قد تحقق فيه عدم التكلف وكونه لا على حساب المعنى.
أما الشرط الثانى- وهو عدم الإكثار- فلم يتحقق ذلك إذ إن نصوص القرآن قد اشتملت على كثير من ألوان البديع، وقد رأينا أن آية واحدة قد استخرج منها العلماء أكثر
من عشرين فنا من فنون البديع، ولم تزد كلماتها على سبع عشرة كلمة، بل إن ابن أبى الأصبع قد استخرج من حرف واحد وهو «ثم» - فى قوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (21) - استخرج من هذا الحرف وحده ثمانية فنون بديعية. (22)
ومع هذه الكثرة فى بديع القرآن لم تجد له إلا بلاغة وحسنا، ولم يؤثر عن أحد من العلماء والنقاد التقليل من قيمة البديع فى القرآن، وما رأيناهم قد استحسنوا فيما سواه ما كثر منه فى القصيدة أو البيت لأن التاريخ والنقد الأدبيين لم يجدا مكثرا من البديع أو مسرفا فيه إلا كان خطؤه أكثر من صوابه وإجادته أقل من رداءته.
ولم يكن الإقلال منه عاصما من التكلف فيه حتى يكون مع الإكثار عذر لذلك التكلف.
فقد أخطأ المقلون كما أخطأ المكثرون.
فمثلا .. قد ورد فى القرآن الكريم أسلوب مراعاة النظير فملح وحسن، كقوله تعالى:
(21) آل عمران (11).
(22)
المثل السائر (3/ 3).
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (23).
وتناول الشعراء هذا الأسلوب فأصابوا وأخطئوا.
وجاءت المبالغة فى القرآن قوية جزلة لا تنبو عن ذوق ولا ينكرها عقل. مثل قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (24).
ففي هذه الآية مبالغة مقبولة غير منكرة ولا نافرة تصف أثر الخوف وهذا يصوره زوغ الأبصار لشدة الاضطراب وهذا أمر واقع، عطف عليه أمر قريب من الواقع هو بلوغ القلوب الحناجر فإن القلب حين يضطرب تظهر آثار اضطرابه فى تهدج الصوت واضطرابه، والصوت يكون مسموعا بعد مروره بالحنجرة، فلذلك ساغ هذا التعبير وقوى به المعنى وحسن.
ومثل قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ (25). مبالغة فى صفاء الزيت.
وقوله تعالى: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها (26) .. مبالغة فى تصوير الظلمة المحيطة به.
وجاءت هذه المبالغة على ألسنة الشعراء فأصابوا وأبعدوا فى الخطأ.
قال الأعشى:
فتى لو ينادى الشمس ألقت قناعها
…
أو القمر السارى لألقى المقالد
فقد غالى فى تصوير المعنى فعلق تبذل الشمس على مجالسته لها، وكذلك تخلى القمر السارى عن المقالد مرهون بتلك المجالسة، وهذه مبالغة موصوفة بالغلو. ولم يخل كلامه من التكلف؛ فقد أثبت للشمس قناعا وللقمر مقالد وجوز فى جانبهما المنادمة.
وقال أبو نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه
…
لتخافك النطف التى لم تخلق
وهذا البيت معيب «لما فى ذلك من الغلو والإفراط الخارج عن الحقيقة» .
وصحة التقسيم جاء فى الكتاب الحكيم على أبلغ وجه، وأصح منهج كقوله:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً (27).
وقوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (28).
(23) الرحمن (5 - 6).
(24)
الأحزاب (10).
(25)
النور (40).
(26)
النور (40).
(27)
الرعد (12).
(28)
الواقعة (88 - 94).
الآية الأولى: تبين قسمى أثر البرق عند الناس.
والآية الثانية: تبين أقسام الناس يوم العرض، فهم ثلاثة لا رابع لهم. فهذه قسمة صحيحة.
وقد أخطأ بعض الشعراء عند ما تناولوا هذا الفن. مثل قول البحترى:
قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا
…
أو معينا أو عاذرا أو عذولا
(29)
قال ابن الأثير: «فإن المشوق يكون حزينا والمسعد يكون معينا، وكذلك يكون عاذرا ..
وكثيرا ما يقع البحترى فى مثل ذلك».
وعابوا قول أبى الطيب:
فافخر فإن الناس فيك ثلاثة
…
مستعظم أو حاسد أو جاهل
لأن المستعظم يكون حاسدا، والحاسد يكون مستعظما، ومن شرط التقسيم ألا تتداخل أقسامه بعضها فى بعض» (30).
«وأما صحة التقسيم .. فأن تكون الأقسام المذكورة لم يخل بشيء منها، ولا تكررت ولا دخل بعضها فى بعض» .
ومثل للمعيب منه بقول جرير:
صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم
…
من العبيد وثلث من مواليها
ثم علق عليه قائلا: فهذه قسمة فاسدة من طريق الإخلال لأنه قد أخل بقسم من الثلاثة. وقيل: إن بعض بنى حنيفة سئل من أى الأثلاث هو؟ قال: من الثلث الملغى» (31).
وهذه لمحة نقد بالغة الدقة.
وجاء الإيجاز فى القرآن الكريم بقسميه:
إيجاز الحذف وإيجاز القصر، فلم يبهم معه معنى ولا اختفى معه مراد. كقوله تعالى:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (32)، وقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ (33)، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (34)، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى (35)، وقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ (36)، وقوله تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (37)، وقوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ (38).
والقرآن ملىء بمثل هذه الدرر الغوالى مع قوة المعنى ووضوحه وشدة أسره للأفهام.
وقد تناوله قوم فأصابوا وأخطئوا، فأما ما جاء فى القرآن فهو أبلغ منه وأوجز، ولعل مضرب الأمثال فى ذلك قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (39).
فإذا قورن به قول العرب: «القتل أنفى للقتل» . فإن عبارة القرآن قد فاقته من عدة
(29) ديوان البحترى (2/ 1).
(30)
سر الفصاحة (94).
(31)
سر الفصاحة (227).
(32)
يوسف (82).
(33)
الفجر (22).
(34)
سبأ (51).
(35)
الرعد (31).
(36)
الأنعام (82).
(37)
يونس (23).
(38)
البقرة (134).
(39)
البقرة (179).
وجوه (40) قد عنى العلماء بإفاضة القول فيها.
مع أن هذا القول الصادر عن العرب كانوا يعدونه أبلغ ما قيل فى معناه.
على أن كثيرا من الشعراء قد أوجزوا فأخلوا، وسر بلاغة الإيجاز وضوح المعنى ..
من ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود:
أعاذل عاجل ما أشتهى
…
أحب من الأكثر الرائث
(41)
لأنه أراد: عاجل ما أشتهى مع القلة أحب إلى من الأكثر البطىء، فترك «مع القلة» وبه تمام المعنى.
ومنه قول عروة بن الورد:
عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم
…
ومقتلهم عند الوغى كان أعذر
كأنه أراد أن يقول: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم فى السلم وقتلهم فى الحرب أعذر، فترك «فى السلم» وبه تمام المعنى كذلك.
وكذلك قول الحارث بن حلزة:
والعيش خير فى ظلال النوك
…
ممن عاش كدا
أراد: العيش الناعم فى ظلال الجهل خير من العيش الشاق فى ظلال العقل.
والوجه الذى يقرب هذه الأمثلة الثلاثة إلى الصواب أنه يمكن أن يقال: إن دليل الحذف فيها ما قابل المحذوف. فقوله: «ومقتلهم عند الوغى» دليل «فى السلم» المحذوف، وإلا لخرج الكلام مخرج الأحاجى والألغاز، ولما استحق أن يدخل فى باب الأدب.
ولو أننا تتبعنا سائر فنون البديع بمعناها العام لوجدنا أمثلتها فى القرآن لا تخرج عن البلاغة الأصلية مع الوفاء بحق المعنى، وحق اللفظ.
فليس فيه إحسان فى موضع، وإساءة فى آخر، بل هو على وتيرة واحدة فى جميع فنونه وطرق تعبيره، وهذا هو الفرق الذى رمناه بين بديع القرآن وبديع الناس.
فالناس- شعراؤهم وناثروهم- إذا أكثروا من استعمال البديع لم يسلم لهم منه إلا القليل، وإذا لم يكثروا منه- وهذا شرط قبوله- فإنهم ليسوا فى مأمن من السقوط والكلفة، كما وقع لبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبى تمام، وكما وقع للمتأخرين منهم حينما أسرفوا وغالوا فى السعى وراء البديع فضعف معه المعنى أو زال من أساسه كبديع الزمان الهمذانى وصفى الدين الحلى، وغيرهم من عشاق البديع.
والبديع فى القرآن فطرى جرى مع طبيعة
(40) انظر- مثلا- بديع القرآن لابن أبى الأصبع.
(41)
الرّائث: البطيء.
الأسلوب ولم يصر إليه حلية لفظ أو تزويق عبارة، وهو فيه سمة من سمات إعجازه وحسنه سواء أكان راجعا إلى المعنى أو راجعا إلى اللفظ وحسنه ذاتى لا عرضى، ولو ذهبنا ننحى ما جاء من بديع القرآن عن أصالة أسلوبه وروعة معانيه، لذهبنا بشرط الحسن فيه لقوة صوره وأصالة وروده فيه، وقد تقدم لنا أن كثيرا من فنون البديع من صميم طرق التعبير فى القرآن الكريم- كالمطابقة- لأنه كثيرا ما يقارن بين أنواع متضادة أو كالمتضادة، والمشاكلة والسجع
…
وما إلى هذه الألوان الآسرة.
على أن هنا ملاحظتين إحداهما ترجع إلى البديع بعامة، والثانية ترجع إلى بديع القرآن بخاصة.
أما ما ترجع إلى البديع بعامة .. فإنه فن فى حاجة إلى الإنصاف وإعادة النظر، ونحن هنا أمام طريقين:
إما أن نطلق كلمة «البديع» على فنون البلاغة جميعا، وإما أن نرد كل حق إلى نصابه، فنرد ما للمعانى للمعانى، وما للبيان للبيان- مما يدرس ضمن فنون البديع- ولو فعلنا
ذلك لما بقى شىء يمكن أن يطلق عليه بديعا، لاختلاس هذه الفنون من علمى المعانى والبيان، إلا فيما ندر.
وأما ما يتعلق ببديع القرآن .. فإن بعض الباحثين مسرف فى إثبات الألوان كما فعل ابن أبى الأصبع فى كتابه الموسوم «بديع القرآن» مثل التفويف والتنكيت والانفصال، والتردد والاطراد، فإن إدراك جمال التعبير فى القرآن لا يحتاج إلى أكثر من الذوق وصفاء النفس فلا داعى لكثرة التلقيب والتنويع.
والحمد لله فى الأولى والآخرة ..
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى