الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد معرفة أسباب النزول
قد عرفنا فيما سبق ما هو سبب النزول، وما الذى يرجع إليه فى معرفته، وما صيغته التى يرد بها، وقد آن لنا أن نعرف ما هى الثمرة المرجوة، والفائدة المأمولة من وراء هذا البحث.
الحق أن البحث فى سبب النزول وفوائد معرفته بحث مهم، ولهذا نرى أن علماء الأمة قد أولوه عنايتهم كما سبقت الإشارة إليه فى كلام السيوطى- رحمه الله تعالى- فى بيان من أفرد هذا الموضوع بالبحث، كما نرى واحدا من أعلام هؤلاء العلماء، وهو بدر الدين الزركشى- رحمه الله تعالى- قد بدأ مصنفه القيم فى علوم القرآن الذى يعتبر عمدة فى هذا الفن، وهو كتاب (البرهان فى علوم القرآن)(29) ببحث هذا الموضوع، فجعل النوع الأول مما بحثه فى كتابه من موضوعات:(معرفة أسباب النزول).
وإنه لمخطئ من يظن أنه ليس من وراء البحث فى أسباب النزول من فائدة؛ إذ يبنى ظنه على أن هذا الموضوع من قبيل ما يجرى مجرى التاريخ الذى مرت أحداثه، وانتهت ملابساته، وعليه فإن معرفة سبب النزول لا تزيد عن كونها نوعا من الاطلاع والعلم المجرد بما وقع من أحداث، وكان سببا فى نزول بعض الآيات.
ولا شك أن هذا الظن خاطئ، بل لمعرفة أسباب النزول فى القرآن الكريم فوائد جليلة، منها ما يلى:
أولا: بيان الحكمة الباعثة على تشريع كثير من الأحكام، ومن ثم إدراك أن روح التشريع الإسلامى وجوهره يقوم على مراعاة هذا التشريع الحكيم لمصالح العباد فى معالجة ما يعرض لهم من أحداث ووقائع، وأن مراعاة هذه المصالح أمر ينطلق من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده، ورأفته بهم، وتيسيره عليهم.
ولقد تجلت هذه الحكمة واضحة فيما ورد فى حادثة سبب نزول آية التيمم من جهة، وفى النص عليها فى نفس الآية من جهة أخرى، وهذه الآية هى قول الله عز وجل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
(29) يعتبر (البرهان) أول كتاب جامع يوضع فى هذا الفن، يقول مؤلفه: (ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر ومعانيه لا تنقضى، وجبت العناية بالقدر الممكن، ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع الناس ذلك بالنسبة لعلم الحديث، فاستخرت الله تعالى- وله الحمد- فى وضع كتاب فى ذلك، جامع لما تكلم
الناس فى فنونه، وخاضوا فى نكته وعيونه) البرهان فى علوم القرآن:(1/ 30).
وعلى هذا الكتاب بنى السيوطى سفره المشهور: (الإتقان فى علوم القرآن) قال رحمه الله تعالى بعد أن استعرض خطبة كتاب الزركشى، وكذلك موضوعات هذا الكتاب:(ولما وقفت على هذا الكتاب ازددت به سرورا، وحمدت الله كثيرا وقوى العزم على ما أضمرته، وشددت الحزم فى إنشاء التصنيف الذى قصدته، فوضعت هذا الكتاب، العلى الشأن، الجلى البرهان، الكثير الفوائد والإتقان، ورتبت أنواعه ترتيبا أحسن من ترتيب البرهان .. إلى أن يقول: وسميته الإتقان فى علوم القرآن) الإتقان: (1/ 16).
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المائدة/ 6.
فعن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة- رضى الله عنها- زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لى، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبى بكر الصديق رضي الله عنه فقالوا: أترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء! قالت عائشة- رضى الله عنها-: فعاتبنى أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعننى بيده فى خاصرتى، ولا يمنعنى من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على
فخذى، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر قالت: فبعثنا البعير الذى كنت عليه فإذا العقد تحته» (30).
والمقصود بآية التيمم هنا: هى آية المائدة التى مر ذكرها قبل قليل، لأنه قد ورد فى نفس الباب عند البخارى رواية من طريق ابن وهب: عن عمرو عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه فى نفس القصة جاء فى نهايتها قول أم المؤمنين- رضى الله عنها-: «ثم إن النبى صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح- أى صلاة الصبح- فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبى بكر، ما أنتم إلا بركة لهم» .
وقد أشكل على العلماء المقصود بآية التيمم فى قول أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- وقد ساق ابن حجر- رحمه الله تعالى- هذا الإشكال من خلال مقولات العلماء فى المقصود بالآية، ثم حقق أنها آية المائدة، قال رحمه الله تعالى: «قال ابن العربى: هى معضلة ما وجدت لدائها من دواء، لأنا لا نعلم أى الآيتين عنت عائشة- رضى الله عنها- قال ابن بطال: هى آية النساء (31) أو آية المائدة. وقال القرطبى: هى آية النساء، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء،
(30) صحيح البخارى: ك: التفسير، ب: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً حديث/ 4607.
(31)
وهى قول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً النساء/ 43.
وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء، فيتجه تخصيصها بآية التيمم. وأورد الواحدى فى (أسباب النزول)(32) هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا، وخفى على الجميع ما ظهر للبخارى من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد، لرواية عمرو بن الحارث، إذ صرح فيها بقوله: فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية» (33).
ثانيا: تخصيص الحكم- فيما نزل بصيغة العموم- بصورة السبب التى نزل فيها- أى بالحادثة التى كان وقوعها سببا فى نزول الحكم- وذلك عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.
ومعنى هذا الكلام: أن النص العام الوارد على سبب خاص لا يبقى على عمومه بعد نزوله على سببه الخاص، بل يكون مقصورا على حالة هذا السبب، بمعنى أن استفادة الحكم فى هذا السبب بذاته مما نزل تكون بطريق النص، فإذا عمل بهذا الحكم فى حادثة أو حوادث تشابه حادثة صورة السبب كان استفادة الحكم فى هذه الحوادث المشابهة بطريق القياس لا بطريق النص، ولكن هذا التخصيص مسألة خلافية سوف نعرض لها بالتفصيل عند بحث مسألة عموم اللفظ وخصوص السبب.
ثالثا: إذا كان اللفظ النازل فى سبب ما عاما، وقام الدليل على تخصيصه، فإن معرفة سبب النزول تجعل التخصيص الوارد قاصرا على ما عدا الحادثة التى كانت صورة السبب، ذلك لأن صورة حادثة السبب لا يجوز إخراجها بالاجتهاد قياسا على صورة أخرى لا يجرى فيها الحكم الوارد فى ذلك النص، ذلك أن دخول الحادثة التى هى صورة السبب فى اللفظ العام قطعى، فلا يجوز إخراجها بالاجتهاد وهو ظنى.
مثال ذلك: ما ذكره المفسرون فى سبب نزول قول الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ النور/ 23.
فقد أوردوا عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى، وابن عباس رضى الله عنهما: أن هذه الآية نزلت فى رماة عائشة رضى الله عنها خاصة، أو فيها وسائر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم عامة (34) وهو وعيد لهؤلاء الرماة، عام فى عذابهم فى الدنيا والآخرة، مما يفيد عدم قبول توبتهم، ولكن هذا العموم قد خصص بقبول توبة من يقذف غيرهن من المؤمنات إذا تاب بدليل قول الله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
(32) أسباب النزول: ص 113.
(33)
فتح البارى: للحافظ ابن حجر العسقلانى: دار المعرفة- بيروت، بدون تاريخ:(1/ 434).
(34)
راجع تفسير القرطبى: طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987 (12/ 209)، وفتح القدير: للشوكانى: دار الوفاء، الطبعة الأولى: 1415 هـ 1994 م (4/ 19).
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ النور/ 4، 5.
فهذه الآية مخصّصة لعموم الآية السابقة، ولكن لا ينبغى أن يقاس فى هذا التخصيص قبول توبة من يقذف عائشة رضى الله عنها أو إحدى أمهات المؤمنين على قبول توبة قاذف غيرهن، لأن قذف أزواج النبى صلى الله عليه وسلم هو صورة السبب التى نزل عليها الحكم فى قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ الآية، وعليه فيمتنع أن تخرج صورة السبب من النص العام النازل عليها بالتخصيص الوارد فى الآية الثانية، بل يقتصر هذا التخصيص على ما عدا صورة السبب، فلا يكون لقاذف أزواج النبى صلى الله عليه وسلم توبة.
قال السيوطى رحمه الله تعالى: «إن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته، فإن دخول صورة السبب قطعى، وإخراجها بالاجتهاد ممنوع، كما حكى الإجماع عليه القاضى أبو بكر فى التقريب، ولا التفات إلى من شذ فجوّز ذلك» (35).
لكن الآية التى معنا قد تخرّج على اعتبار أن الوعيد الوارد فيها إنما هو لمن أصرّ على القذف ولم يتب، وأن ذلك يكون فى حق القاذف المصرّ عموما سواء كان قذفه لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم أو لغيرهن.
كما يمكن تخريجها على اعتبار أن الوعيد الوارد فيها خاص بمن قذف عائشة رضى الله عنها، أو احدى أمهات المؤمنين رضى الله عنهن جميعا، بعد نزول ما نزل فى شأن عائشة رضى الله عنها من القرآن.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: «وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبّها- يعنى بذلك عائشة رضى الله عنها- بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذى ذكر فى هذه الآية فإنه كافر، لأنه معاند للقرآن وفى بقية أمهات المؤمنين قولان، أصحهما:
أنهن كهى، والله أعلم» (36).
رابعا: من أهم فوائد معرفة أسباب النزول، بل من دواعى هذه المعرفة والحاجة إليها: أنها تعين فى كثير من المواطن على فهم معنى الآيات، وإزالة ما قد يبدو فيها من إشكال، وبدون معرفة سبب النزول يمكن أن يخطئ المفسر فى فهم معنى الآية فيحمله على غير المراد، وقد لا يعرفه على الإطلاق، وفى هذا من الخطورة ما فيه، لأن الجهل فى هذا الصدد يفتح الباب على مصراعيه أمام
(35) الإتقان: (1/ 92، 93).
(36)
تفسير القرآن العظيم: دار المعرفة- بيروت 1403 هـ 1983 م (3/ 276).
الفتاوى الخاطئة، ويلبس على المؤمنين أمر دينهم، ولهذا نبه العلماء على أهمية معرفة سبب النزول من هذه الحيثية.
فقد أشار الواحدى- رحمه الله تعالى- إلى امتناع معرفة تفسير الآية، ومعرفة ما تعنيه، دون الوقوف على قصتها والعلم بسبب النزول (37).
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى:
«بيان سبب النزول طريق قوى فى فهم معانى القرآن» (38).
وقال ابن تيمية- رحمه الله تعالى-:
«معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب» (39).
وهناك أمثلة كثيرة من أسباب النزول توضح كيفية إزالة الإشكال فى فهم كثير من آيات القرآن الكريم، التى لم يكن يتأتى فهم معناها بدون معرفة هذه الأسباب.
ومن بين الآيات التى يتضح فيها ذلك ما يلي:
1 -
قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ البقرة/ 158.
فإن ظاهر هذه الآية لم ينص على فرضية السعى بين الصفا والمروة، مما يفهم منه أن السعى بينهما مباح، من شاء فعله، ومن شاء تركه ولا حرج عليه، لأن رفع الجناح يفيد الإباحة لا الإلزام، وهذا الفهم قد تبادر إلى عروة بن الزبير بن العوام (ت 94 هـ) رحمه الله تعالى، وصرّح به لخالته أم المؤمنين الصديقة عائشة- رضى الله عنها-، فلما سمعت منه ذلك بينت له ما تفيده الآية الكريمة على الوجه الصحيح، وكان ذلك ببيان سبب نزولها. وقد أوردت الصحاح قصة طويلة فى بيان ذلك نوردها بتمامها لما فيها من الفائدة.
فعن ابن شهاب الزهرى رحمه الله تعالى:
قال عروة: «سألت عائشة رضى الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فو الله ما على أحد جناح ألّا يطّوف بالصفا والمروة؟
قالت: بئس ما قلت يا ابن أختى، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت: لا جناح عليه ألّا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت فى الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التى كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ يتحرج أن يطّوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطّوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الآية، قالت عائشة رضى الله
(37) راجع أسباب النزول: ص 3.
(38)
انظر الإتقان: (1/ 93).
(39)
مقدمة التفسير: (ضمن مجموع الفتاوى) لشيخ الإسلام ابن تيمية: (13/ 339).
عنها: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس- إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة- كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة فى القرآن قالوا: يا رسول الله، كنّا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطّوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى:
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الآية، قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت فى الفريقين كليهما: فى الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا فى الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما فى الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت» (40).
2 -
قول الله سبحانه: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ الآية، الطلاق/ 4.
فقد أشكل معنى هذا الشرط (إن ارتبتم) على البعض، حتى قال الظاهرية (41) بأن الآيسة لا عدة عليها إذا لم ترتب (42) وسبب ذلك أنهم فهموا أن الشرط مرتبط بالحيض، فحسبوا أن المعنى: إن ارتبتم فى حيضهن.
ولكن ما ورد فى سبب نزول هذه الآية يزيل هذا الإشكال، لأنه يجعل الارتياب فى حكم عدة الآيسة وليس فى حيضها.
فقد أخرج الحاكم (43) وصححه عن أبىّ ابن كعب رضي الله عنه قال: «لما نزلت الآية التى فى سورة البقرة فى عدد من عدد النساء، قالوا:
قد بقى من عدد النساء لم يذكرن، الصغار والكبار، ولا من انقطعت عنهن الحيض، وذوات الأحمال، فأنزل الله عز وجل:
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ».
3 -
قول الله عز وجل: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ آل عمران/ 188.
فقد أشكل أمر هذه الآية على مروان بن الحكم، فأرسل إلى عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما، فأجابه فيها ببيان سبب النزول، الذى أزال الإشكال واللبس.
(40) هذا الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: الحج، ب: وجوب الصفا والمروة، وجعل من شعائر الله حديث/ 1643 ومسلم فى صحيحه:
ك: الحج، ب: بيان أن السعى بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به حديث/ 1277.
(41)
الظاهرية: هم أصحاب المذهب الظاهرى الذى أسسه داود بن على الأصبهانى رحمه الله (ت 270 هـ) الذى عرف بالظاهرى لانتحاله القول بظاهر الشريعة، فالمذهب الظاهرى يقرر أن المصدر الفقهى هو النصوص، فلا رأى فى حكم من أحكام الشرع، وقد نفى المعتنقون لهذا المذهب الرأى بكل أنواعه، فلم يأخذوا بالقياس ولا بالاستحسان، ولا بالمصالح المرسلة ولا الذرائع، بل يأخذون بالنصوص وحدها، وإذا لم يكن النص أخذوا بحكم الاستصحاب، الذى هو الإباحة الأصلية الثابتة بقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً البقرة/ 29، ومن فرسان هذا المذهب كذلك: على بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت 456 هـ) رحمه الله تعالى، راجع فى ذلك:(تاريخ المذاهب الإسلامية) للإمام محمد أبى زهرة، طبع: دار الفكر العربى، بدون تاريخ: ص 544.
(42)
الإتقان: (1/ 94).
(43)
فى المستدرك: (دار الباز للنشر والتوزيع- بدون تاريخ) ك: التفسير، ب: تفسير سورة الطلاق (2/ 492) وأقره الذهبى على تصحيحه فى التلخيص.
فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن مروان ابن الحكم قال: «اذهب يا رافع- لبوّابه- إلى ابن عباس، فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتى- فى رواية مسلم: فرح بما أتى- وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون، قال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما أنزلت هذه فى أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ وتلا:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ثم قال ابن عباس: سألهم النبى صلى الله عليه وسلم عن شىء فكتموه وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أنهم أخبروه بما قد سألهم عنه فاستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه» (44).
4 -
قول الله تبارك وتعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ البقرة/ 189.
فإن هذه الآية يصعب التوصل إلى المقصود فيها من قول الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها إلا بمعرفة سبب نزولها، أو فى أى شىء نزلت.
وبالفعل فإنه قد ورد سبب يوضح المعنى المراد، أخرج البخارى (45) عن أبى إسحاق السبيعى قال: سمعت البراء رضي الله عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها (46) فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قبل بابه، فكأنه عيّر بذلك فنزلت:
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها.
خامسا: ومن الفوائد المترتبة على معرفة سبب النزول: ما ذكره الزركشى من دفع توهم الحصر المتبادر من بعض الآيات، وقد فصل ذلك بقوله: (قال الشافعى ما معناه فى معنى قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ- الآية 145 من سورة الأنعام: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة
(44) الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه: ك: التفسير، باب: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا حديث/ 4568 ومسلم فى صحيحه: ك:
صفات المنافقين، حديث/ 2778 والترمذى فى سننه: ك: تفسير القرآن ب: ومن سورة آل عمران حديث/ 3014 واللفظ للترمذى، ولا ينبغى أن يفهم من كلام ابن عباس رضى الله عنهما تخصيص الوعيد الوارد فى الآية بفعل اليهود، فليس هذا التخصيص من مقصودها، بل هى عامة فى كل من فعل فعل اليهود من ارتكاب الشر وإيهام فعل الخير، وطلب الحمد عليه، والفرح بكل هذه الآثام.
(45)
فى صحيحه: ك: العمرة، ب: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها حديث/ 1803.
(46)
وذلك حتى لا يحول بينهم وبين السماء حائل من سقف أو نحوه، كما ذكر ابن حجر عن الزهرى فى شرح الحديث، انظر كتاب فتح البارى:
والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه، نازلا منزلة من يقول:
لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض المضادة، لا النفى والإثبات على الحقيقة، فكأنه قال: لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ولم يقصد حل ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.
قال إمام الحرمين: و «هذا فى غاية الحسن، ولولا سبق الشافعى إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك فى حصر المحرمات فيما ذكر فى الآية» أ. هـ. ما قاله الزركشى (47).
قلت: وهذا يتوقف على ورود سبب صحيح فى نزول الآية، يقضى بأن الكفار أحلوا ما حرمته تلك الآية فجاءت الآية ردا عليهم، ولكن الزركشى لم يورد مثل هذا السبب صريحا، كما أن السيوطى فى نقله ذلك عنه لم يصرح بهذا السبب كذلك، بل نقل عبارة الزركشى بنصها كما ذكرها صاحبها فى البرهان.
(47) البرهان فى علوم القرآن: (1/ 46، 47).