الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حجية السنن الإلهية
(1) فى رحاب القرآن الكريم
القرآن كلام الله سبحانه وتعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ 1 ومنه تستمد الأحكام فى نطاق العقيدة والشريعة، وفى أعطافه تنظيم أحوال الخلق فى دنياهم وأخراهم، لأنه سبيل الهداية ومنهج الرشد، وقد جعله الله تعالى آية على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فى الرسالة الخاتمة التى حمّلها الله إياه فى كمال صدقها وإعجاز وسطيتها، وتمام إبلاغها عن رسالات الله إلى من سبقه من الأنبياء والمرسلين، وكتبهم التى أنزلها الله عليهم، وأخبارهم مع من آمنوا معهم ومن كفروا برسالة
خالقهم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. (2)
والقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التى عليها بنيت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهى الرسالة الخالدة الخاتمة طبقا لنص الآية الكريمة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. (3)
هذا المعنى يردده عدد من العلماء الذين عنوا بالدراسات القرآنية- ونعنى به المعجزة الكبرى أو الوحيدة- ويضيفون القول: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أيّد بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت فى أوقات وأحوال ومناسبات خاصة، ونقل بعضها متواترا وبعضها نقل نقلا خاصا (هكذا)، ثم يضيف هذا الفريق قائلا: وأما القرآن فهو معجزة عامة، ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم القيامة. (4)
وهذا القول فيما يتصل بمعجزة القرآن الكريم صواب لا يحتمل الجدل أو النقاش، ولكن ثمة خشية فيما يتصل بالمعجزات الأخرى الكثيرة، أن يؤدى ذلك إلى التقليل من شأنها أو التهوين من قيمتها مثل معجزات النصر، ومعجزة الإسراء والمعراج خصها المولى بسورتين كاملتين هما سورة الإسراء وسورة النجم، على النحو الذى سوف نعرض له فى الفصول القادمة من هذه الدراسة بإذن الله.
إن الله- سبحانه وتعالى والقرآن وحيه وكلامه- يزكى كتابه العزيز فى كثير من الآيات، ويرفع من قدره مع التسليم بتلك
(1) سورة فصلت الآية 42.
(2)
البقرة الآية 143.
(3)
سورة الحجر الآية 9.
(4)
تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة العاشرة صفحة 102.
الحقيقة من رفعة القدر فى آيات أخرى كثيرة، ويجعل منه قسما- بفتح السين- على صدقه فى مواقع عدة، ثم يتحدى الذين لم يؤمنوا به بآيات تخذلهم وتسفه كفرهم به، الأمر الذى يفحمهم ويؤدى إلى إيمان فريق كبير منهم بصدقه وقدسيته، وأنه كلام منزل من رب العالمين.
وإن كل من يمسك المصحف بيديه يقع بصره أول ما يقع على قول الله جل وعز:
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. (5)
فى هذه الآيات الأربع القصيرة شحنة نفسية من تكريم رب العالمين وتعزيزه وتقديسه لكتاب رب العالمين، فلا يمسه إلا المطهرون، الأمر الذى نزه الله به كتابه العزيز من أن يمسه بيديه إنسان على غير طهارة لأنه تنزيل منه نفيس كريم.
ولما كان القرآن الكريم كتابا ربانيا يهدى من الضلال إلى الإيمان ومن الشك إلى اليقين، فإن هذه القيم تجىء واضحة جلية فى قول الحق سبحانه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً. (6)
وفى السورة نفسها تتكرر النفحات الإلهية فى تعزيز القرآن الكريم ووصفه بأعز وصف وأكرم توصيف فى قوله جلّ وعزّ:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (7)
ويتولى التعزيز الإلهى فى بلاغة إعجازية؛ لتثبيت النفحات الربانية التى تضمنها الكتاب العزيز حاملة الإنذار لسكان مكة ومن حولها، لأن القرآن الكريم نزل أول ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فى غار حراء فى جبل النور فى الطرف الشمالى لمكة، فيقول الحكيم الخبير سبحانه:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ. (8)
إن أهل مكة ومن حولها عرب خلّص ذوو بلاغة، وأصحاب فصاحة وأرباب بيان، يتذوقون حسن القول، ويتعشقون بديع الكلام، فقد شاءت إرادة الخالق منزل الكتاب أن يغلق على أهل مكة كل باب ينكرون من خلاله صدق القرآن، وأن يسقط كل حجة يتذرعون بها للشك فى جلالة هذا الوحى، الذى يسمعونه من محمد الذى أجمعوا على وصفه بالأمين، فجاءت الآية الكريمة ملبّية لملكاتهم البليغة فيما لو صدقوا النية، ولسجيتهم الفصيحة متى أخلصوا العزم قال عز وجل:
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(5) سورة الواقعة الآيات 77 - 80.
(6)
سورة الإسراء الآية 9.
(7)
الإسراء الآية 82.
(8)
سورة الأنعام الآية 92.
(3)
بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون هذه الآيات الثلاث مسبوقة بتوكيد إلهى بأن هذا الكلام منزل من عند الله، وذلك فى قوله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. (9)
ولتمكين هذه الحقائق فى أسماع كفار قريش، المعروفة بالفصاحة وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له أبو بكر الصديق متسائلا: ما رأينا الذى هو أفصح منك يا رسول الله!! فكانت إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم على تساؤل أبى بكر: «لأنى ولدت فى قريش وربيت فى بنى سعد» والمعنى النبوى: أن كلا من قريش وبنى سعد أفصح القبائل وكانت نشأة رسول الله فيهما طفلا وصبيا فى الأولى وشابا ويافعا ثم كهلا فى الثانية، ومن هنا كان وصف القرآن فى الآية الكريمة قُرْآناً عَرَبِيًّا حجة على قريش وتحديا غير مباشر لفصحائهم بخاصة، ولجمهرتهم بعامة.
ويتكرر فى الكتاب العزيز التوصيف الإلهى للقرآن الكريم بأنه منزل بالعربية فى قول الله جل وعز: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (10) وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (11) وقد استهلت سورة الزخرف التى وردت فيها هذه الآية بقسم عظيم هو قوله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ثم كانت الآية التالية: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ والآيتان الأخيرتان: آية يوسف وآية الزخرف متشابهتان شكلا وصوغا، متباينتان هدفا وغرضا، فآية يوسف إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فيها تحدّ غير مباشر لكفار قريش، وأما آية الزخرف فهى إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولفظ جعلناه يحمل تحديا مباشرا لمنكرى أن الكتاب
العزيز منزل من عند الله رغم القسم الإلهى ب الْكِتابِ الْمُبِينِ.
أما وقد استبد المخاطبون من العرب بفساد الرأى وقبح الإنكار فقد تحداهم منزل الكتاب- سبحانه- أن يعارضوه بما يماثله بلاغة أو يعدله حكمة وبيانا، فنزل قوله عز وجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. (12)
فلم يستجيبوا بطبيعة الحال، ليس عنادا وعصبية هذه المرة، ولكن عجزا وقصورا وخذلانا، فيعطيهم منزل الكتاب العلىّ الكبير مزيدا من التيسير بعد أن يعطيهم مزيدا من التأكيد على أن الكتاب كتابه، وأن الكلام
(9) فصلت الآيات 2 - 4.
(10)
يوسف الآية 2.
(11)
الزخرف الآية 3.
(12)
سورة هود الآيتان 13، 14.
كلامه فيوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. (13)
ثم يتبع المولى هذه الحجة البالغة بحجة أخرى تخرس الكفار فيما يخرصون وتلجم ألسنتهم عما يكذبون فينزل قوله تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. ثم تتم الآية التالية كمال صيغة التحدى بقوله عز وجل:
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (14).
ويجتهد القاضى عياض- إمام المغرب- فى تعليل إنكار المنكرين بقوله: «فلم يزل يقرعهم النبى صلى الله عليه وسلم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم وهم فى كل هذا ناكصون عن معارضته محجومون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتكذيب والإغراء والافتراء وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ وسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وإِفْكٌ افْتَراهُ وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وقد قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فما فعلوا وما قدروا. ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، ولما سمع الوليد بن المغيرة- وهو من فصحائهم- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ النحل: 90 قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بكلام بشر. وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ الحجر: 94 فسجد، وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام، وكان موضع التأثير فى هذه الجملة هو كلمة «اصدع» فى إبانتها عن الدعوة والجهد بها والشجاعة فيها، وكلمة «بما تؤمر» فى إيجازها وجمعها. وسمع آخر رجلا يقرأ:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (15). قال:
«أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام» (16).
وفى مقام إعجاز القرآن وحقيقة كونه لا يماثله كلام بشر، وأنه كلام رب العالمين الذى لا يجاريه كلام مخلوق، الحديث الذى تمثل به الشيخ ابن عاشور فى المقدمة العاشرة:
ما رواه مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة- أى سورة الفاتحة- بينى وبين عبدى نصفين، ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، قال الله تعالى: حمدنى عبدى. وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قال الله تعالى: أثنى علىّ عبدى، وإذا قال:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قال: مجّدنى عبدى
(13) سورة يونس الآيتان 37، 38.
(14)
سورة البقرة الآيتان 23، 24.
(15)
الضمير فى استيأسوا يعود على أخوة يوسف.
(16)
كتاب الشفا للقاضى عياض صفحة 56.
(وقال مرّة: فوّض إلىّ عبدى) فإذا قال:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال: هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل» (17).
وفى تلك الدراسة القيمة التى أعدها الشيخ الطاهر بن عاشور عن إعجاز القرآن وعن كونه كلام الله وليس كلام بشر، يضرب أمثلة عديدة لشهادة بعض عتاة الكفر قبل أن يسلموا مثل الوليد بن المغيرة- وقد أوردنا له فيما سلف وصفا للقرآن- ومثل عتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وغيرهم. وكان الوليد بن المغيرة يذهب متخفيا بليل إلى بيت النبى صلى الله عليه وسلم ليتسمع تلاوة الرسول للقرآن الكريم- وكذلك يفعل أقرانه دون أن يخبر أحدهم زميله للغرض نفسه- فلما استمع الوليد إلى قراءة النبى صلى الله عليه وسلم قال:«والله ما هو بكاهن، وما هو بزمزمته ولا سجعه، وقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر» .
وكذلك فعل أنيس بن جنادة الغفارى أخو أبى ذر حين اتجه إلى مكة ليسمع من النبى صلى الله عليه وسلم ليخبر أخاه أبا ذرّ بما سمع، وكان أبو ذر مشوقا إلى سماع خبر عن القرآن من مصدر يثق به، وعن محمد الذى يتنزل عليه هذا القرآن، فعاد أنيس إلى أخيه ليخبره بما سمع فقال:«لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر- أى طرقه- فلم يلتئم، وما يلتئم على لسان واحد بعدى أنه شعر» . فأسلم أنيس وأبو ذر (18)، وكان من شأن أبى ذر ما كان من اقترابه من رسول الله، ومن
حب رسول الله له ما قد امتلأت به كتب السيرة والصحاح من كتب الحديث.
لقد برع العرب حين نزول القرآن فى فنون الأدب التى كان الشعر أهمها شأنا وأخطرها أثرا، كانت لهم الفصاحة فى الخطب والأمثال والمحاورات، فجاء القرآن بأسلوب جديد صوغا ومحتوى صالحا لأغراض الحياة كلها تضمن الجديد من أغراض فنون القول جميعا: الخطابة والحوار والجدل والقصص والرواية والأخبار عن الأولين وضرب الأمثال وتربية المجتمع الإسلامى تربية رفيعة تصلح شأنه فى الدنيا وتسعد مصيره فى الآخرة.
لقد آمن العرب جميعا بإعجاز القرآن لأنه كلام الله، كما اعترفوا بعجزهم من محاكاته أو الإتيان بآية واحدة من مثله على النحو الذى فصلناه فيما سلف من قول؛ ولكن فريقا ممن دخلوا فى الإسلام، أكثرهم من غير العرب- وإن كان الإسلام لا يفرق بين عربى وأعجمى- أطلقوا على أنفسهم «أهل العدل» وعرفوا بالمعتزلة، اخترعوا فرية حول إعجاز القرآن الكريم أطلقوا عليها «الصّرفة» ومعناها أن القرآن ليس معجزا بذاته ولكن سبب إعجازه أن الله صرف العرب عن أن ينشئوا مثله، وهو رأى فاسد، ومذهب قبيح،
(17) تفسير التحرير والتنوير: المقدمة العاشرة صفحة 108.
(18)
المصدر السابق صفحة 114.
فيه تطاول على القرآن الكريم ومنزل القرآن الكريم- سبحانه وتعالى وذهبت هذه الفرقة من القرآن مذاهب شتى، وابتدعوا فتنة عذّب بسببها عدد كبير من كبار علماء المسلمين ومات بعضهم فى السجن، وهذه الفتنة عرفت بفتنة «خلق القرآن» وتبناها ثلاثة من خلفاء بنى العباس وبعض من شايعهم، ولكن الله لطف بكتابه وبالمؤمنين من عباده، والمتقين من علماء دينه، فلم تستمر بفتنة طويلا، بل إن المذهب نفسه أصابه الانحلال وانفضّ المؤمنون عن المنادين به، ولم يبق منه إلا القليل فى فكر عدد محدود من علماء المسلمين المعاصرين. فالقرآن إذن هو كلام الله الذى جعله آية على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فى حمل الرسالة الخاتمة التى حمّلها المولى إياه والقيام بتبليغها إلى الخلق كافة.
إن القرآن معجز للبشر كافة إعجازا مستمرا موصولا على مر العصور وكرّ الدهور؛ ومن جملة ما شمله قول أئمة الدين:
أن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية. (19)
ولقد تحقق ذلك فى زماننا هذا بقدر ملحوظ، ذلك أن عددا غير قليل ممن قرءوا ترجمات معانى القرآن إلى لغاتهم قد آمنوا بقدسيته وأعلنوا إسلامهم وعملوا فى بلدانهم فى مجال التبشير بالإسلام، ويشاركوننا فى مؤتمراتنا وندواتنا الإسلامية مشاركة فاعلة ولهم الأجر من الله على دعوة قومهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وما أطيب أن نختم هذا الفصل من الحديث عن بعض معالم القرآن الكريم بقول الله- منزل القرآن- عز وجل: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. (20)
أ. د. مصطفى الشكعة
(19) تفسير الشيخ الطاهر بن عاشور المقدمة العاشرة صفحة 105.
(20)
المائدة الآية 48.