الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أوحى به هذا الروح المرتفع من بيان لندرك بعض أسراره أما الاتجاه إلى المعنى الكلى دون تحليل لخصائص الكلمات والجمل والسياق فقد لا يكفى فى إرواء غلّة الدارس، وإطفاء عطشه حين يحاول أن يقف على سرّ هذا النمط الرفيع من البيان، ولعل الأستاذ وجدى يذهب إلى أن الخوض فى معرفة أسرار التركيب البيانى للقرآن قد ينتهى ببعض الدراسين إلى محاكاة هذا النّمط ما دامت أسراره البيانية قد عرفت بخصائصها البلاغية، وهذا كلام برّاق فى ظاهره ولكنّنا عند التمحيص نعرف أن إدراك السرّ البيانىّ بخصائصه الفنية لا يعنى القدرة على محاكاته، فالناقد الأديب قد يدرك جمال القصيدة الشعرية ويعرف موضع التأثير بها، ويشتدّ إعجابه حتى يرتّلها ترتيلا، ولكنه يعجز عن محاكاتها، ولو كان إدراك السرّ الجمالى فى البيان كافيا لاحتذائه والإتيان بمثله، لوجدنا أساتذة البلاغة جميعا من كبار الأدباء، ولكنّ الكثيرين منهم لا يتجاوزون الناحية العلمية فإذا انطلقوا إلى الإبداع كبا بهم اليراع.
ومع هذا فإن اتجاه الأستاذ فريد وجدى إلى الحكم لسيطرة الروح الإلهى وحدها على مناحى البيان، وعدّها سرّ الإعجاز قد دفع كثيرا من القائلين من بعده إلى مناح ترتكز على ما قاله، إذ أضافوا إلى ما دبّجوه ما يشهدونه من روعة التأثير المنفرد بجاذبيته عن كلّ تأثير بشرى، ولا نقول بتوارد الخواطر فى المسائل العلمية إذا كانت ذات منطق يرتكز على التحليل، إذ ربما وقع التوارد فى الخواطر الأدبية أمّا الاتجاهات العلمية فستكون فى أصلها بذرة جيدة يبذرها السابق ويتعهّدها اللاحق بالرىّ والتشذيب حتى تستوى على سوقها شجرة فينانة، ولكل من السابق واللاحق نصيبه الموفق فى مجال البحث، فللأول اهتداؤه للفكرة، وللثانى بسطها وتفريعها على نحو قد تبدو به جديدة قشيبة، على أن العقول قد تتلاقى فى إثبات بعض الحقائق ولكن على ندرة هى إلى الاستثناء أقرب، وليست هكذا دائما.
مصطفى صادق الرافعى
الرافعى- رحمه الله أوّل من أخرج كتابا مستقلا فى الإعجاز القرآنى من المعاصرين، فمنذ أن كتب السيوطى كتابه عن الإعجاز والمكان فارغ ينتظر من يملؤه على وجه شامل مستوعب يضيف الجديد مما يشبع رغبة
القارئ المعاصر، وقد تصدّر الكتاب ببحوث تتّجه وجهة الأدب الإبداعى، ولكنّها لا تدخل فى صميم المنهج العلمى، وأول صور الإعجاز ما كتبه الرافعى تحت عنوان (آداب القرآن) إذ جعل الأخلاق القرآنية والمسائل التشريعية، والتربية السلوكية إحدى وجوه الإعجاز، والسابقون من أمثال الباقلانى وعبد الجبار وعبد القاهر ممّن خصوا الإعجاز بأبواب مستقلة جعلوا الأسلوب البيانى وحده مدار الارتكاز فى قضية الإعجاز أما الرافعى فافتتح بهذا الفصل موضوعا جديدا مؤكدا أن قواعد الأخلاق قد وجدت من القرآن الركيزة المتبنية لعلم السلوك الإنسانى، فى أسلوب بيانى يجب أن يلتفت إليه معنى ومبنى، وقد قال بصدد ذلك:«وما فرّط المسلمون فى آداب هذا القرآن إلّا منذ فرّطوا فى لغته، فأصبحوا لا يفهمون بيانه، وبالتالى لا يدركون آدابه» (2).
ثم أخذ يعرض آراء السابقين فى الإعجاز، وقد حمل على المتكلمين حملة لا أرى معه الحقّ فيها، فإذا كانت الشّبه التى تحدّت عنها المتكلمون قد فقدت مضمونها فى هذا العصر، فقد كانت من قبل ذات نقد هادم، فإذا كرّ عليها المتكلمون بالنسف المبيد فقد قاموا بواجب يشكرون عليه، كما رفض القول بالصّرفة على المعنى الشائع العام، وهو مرفوض بداهة وقد سبقت الإشارة إلى المعنى الدقيق فى هذا الاتجاه.
وحين تحدّث الرافعى عن الإعجاز الأسلوبى ذكر أنّ العرب حين ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا أن ألفاظه هى الألفاظ التى يتداولونها، ولكنّ طريقة نظم هذه الألفاظ ووجوه تركيبها ونسق حروفها فى كلماتها، ونسق الكلمات فى الجمل كلّها جديدة فى بابها، فأحسّوا بعجزهم عن احتوائها، ورأوا أن أسلوب القرآن جنس من الكلام غير ما هم فيه، ولا سبيل إلى محاكاته، إذ هو وجه الكمال اللغوى الذى تشرئب إليه أرواحهم (3).
أما التكرار فى البيان القرآنى فقد خاض فى تعليله كثير من البلغاء ولكنّ الرافعى أتى بالجديد حين ذكر أن التكرار مألوف عند العرب؛ ولكنّه فى النسق القرآنى غير مألوف، إذ أنّ المعنى يتردّد بصور، كلّ صورة منها غير الأخرى وهم عاجزون عن محاكاة الصورة الواحدة فما بالهم بالصّور المتعددة، فكأنّ الرافعى يريد أن يقول لهؤلاء إن القرآن يأتى بالمعنى ويتحداهم أن يأتوا بمثله، فيدركهم
(2) إعجاز القرآن للرافعى ص 113.
(3)
السابق ص 214.
العجز، فيأتى بالمعنى نفسه فى صورة أخرى جديدة، فيدهش السامعون لهذا التكرار الطريف، مع أنّه تكرار. وقد خفى هذا المراد على الملاحدة ومن لا نفاذ لهم فى أسرار العربية، فزعموا المزاعم السخيفة مع أنّهم وأشباههم قد عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله.
وخلص الرافعى إلى تحليل الأسلوب القرآنى، فحصر جهات النظم فى ثلاث. هى الحروف والكلمات والجمل، وخصّ كل جهة بفصل شاف مشفوع بالأدلة الكاشفة، والجديد بها أكثر من أن يحصر. وقد باهى الرافعى بما اهتدى إليه، ولم يلتفت ناقدوه إلى ما اختاره من أمثلة لم تكن من مختارات سابقيه، ممّا يجعلنى أؤكد أن كتاب الرافعى هو الثانى فى بابه بعد كتاب «دلائل الإعجاز» لأن الكتابين اجتمعا فى خاصية واحدة، لم يشركهما فيها مشارك، وهى روعة البيان الأسلوبى وتدفق التحليل.
ومن الجديد الذى اهتدى إليه الرافعى من بارع الأفكار المضيئة فى أفق الإعجاز نستشهد بهذه السطور: « .. كل من يبحث فى تاريخ العرب وآدابهم، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة، وتأتى حكمة الأشياء، فإنه يرى كل ما سبق على القرآن من أمر الكلام العربى وتاريخه، إنما كان توطيدا له، وتهيئة لظهوره، وتناهيا إليه ودربة لإصلاحهم به، وليس فى الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل الجزيرة، فما كان فيهم كالبيان آنق منظرا وأبدع مظهرا، وأمدّ سببا إلى النفس، وأردّ عليها بالعافية، ولا كان لهم كذلك البيان أزكى فى أرضهم فرعا، وأقوم فى سمائهم شرعا، وأوفر فى أنفسهم ريعا، وأكثر فى سوقهم شراء وبيعا، وهذا موضع عجيب للتأمل، ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأىّ شىء فى تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية تنتهى بمعجزة لغوية، وتأتى بها على أكمل الوجوه وأحسنها، ثم يكون الدين والعلم والسياسة، وسائر مقومات هذه الأمة مما تنطوى عليه المعجزة، فتخرج به للدهر أمة كان عملها فى الأمم صورة من تلك المعجزة» (4).
وهذا الوجه من النشأة اللغوية للأمة العربية قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه الرافعى إعجازا للقرآن الكريم، إذ نشأ فى أمّة هذه مقدرتها اللغوية لتكون قادرة على استيعابه، وهى فى الوقت نفسه عاجزة عن الإتيان بمثله، وأنا أرى أن هذه النشأة ليست
(4) السابق ص 158.