الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ينكر، أو بعيدا توقفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذى أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب- قلنا به من غير توقيف، كما فى قوله تعالى: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ- فنحمله على حق الله وما يجب له. أه.
وقد اتفق هؤلاء وأولئك على أمرين:
الأول: صرف هذه الآيات عن ظواهرها المستحيلة فى حق الله- تعالى- لكونه مغايرا لجميع الخلق، كما هو معلوم من قوله تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الشورى: 11).
وحملها على معان تليق بذاته- جل وعلا- وذلك برد المتشابهات إلى المحكمات، وهى التى لا تحتمل إلا وجها واحدا من التأويل، وهو الوجه الذى يريده الشارع الحكيم دون سواه.
الثانى: أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا- وجب القول به إجماعا.
وذلك مثل قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ.
فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعا، وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد، وهو الكينونة معهم بالإحاطة علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة.
وكقوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ (الزمر: 56).
فالمراد بجنب الله: حقه وما يجب له، كما تقتضيه لغة العرب، ليس له معنى يجب أن يحمل عليه غيره.
(8)[القرآن الكريم كله محكم]
والقرآن الكريم كله محكم باعتبار أنه متقن فى نظمه وأسلوبه وأحكامه، مانع من دخول غيره فيه، ومن طروء الخلل فى ألفاظه والتناقض فى معانيه.
وكله متشابه باعتبار أنه متماثل فى فصاحته وبلاغته وحلاوته وطلاوته.
وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار أن بعضه أحكام نصية، لا تحتمل إلا وجها واحدا، ولا يختلط الأمر فى فهمها من هذا الوجه على أحد، وبعضه أحكام تحتمل أكثر من وجه لحكمة سامية، ذكرناها من قبل، وهى التى يقع فيها الاشتباه ويتأتى فى فهمها الاختلاط والالتباس عند النظرة الأولى فى ألفاظه ومعانيه.
ويدل على أن القرآن محكم كله بهذا الاعتبار قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود: 1).
والدليل على أنه متشابه كله قوله تعالى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (الزمر: 23).
والدليل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه، قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (آل عمران: 7).
فلا تعارض- كما علمت- بين هذه الآيات؛ لأن كلا منها قد وصف فيها القرآن بالأوصاف التى تخصه على وجه من الوجوه اللغوية السابقة.
فالمحكم من الآيات- بهذا الاعتبار- يجب العمل به.
والمتشابه- بهذا الاعتبار- قد جاء للإيمان به والاجتهاد فى معرفة تأويله على النحو الذى يردّ فيه إلى المحكم.
فقوله تعالى- مثلا- يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ (الأنعام: 103) لا يترتب عليه حكم شرعى يجب العمل به، بل هو من الأمور الاعتقادية التى يكفى الإيمان بها مع التوقف فى تأويلها أو تأويلها على المعنى الذى لا يتعارض مع قوله- جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
ودليل ذلك قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.
والراسخون فى العلم هم المتثبّتون فى العلم، لا تزيغ قلوبهم عن الحق ولا تدفعهم أهواؤهم إلى التأويل البعيد، ولا يطلبون للمتشابه علة بل يؤمنون به؛ لأنه من عند الله وكفى.
أ. د/ محمد بكر إسماعيل