الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر الجهل بسبب النزول
سبق فى بحث مسألة العبرة فى سبب النزول هل هى بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ بيان اتفاق الجميع على شمول الحكم فى اللفظ العام لسبب النزول وغيره، وأن القائلين بقصر العام على سببه لا يقولون بقصر الحكم على ذلك السبب وانتفاء شموله لما عداه، لأن اللفظ العام الوارد فى الآية وإن ارتبط عند هؤلاء بمعين، وهو السبب الذى نزل عليه، إلا أن الحكم لا يرتبط عندهم بعمل ذلك المعين بذاته بل بنوعه، كل ما فى الأمر: هو التفريق فيما يتعلق باستفادة الحكم للسبب المعين وغيره.
فالقائلون بعموم اللفظ: يرون أن استفادة الحكم فى الجميع بطريق النص، والقائلون بخصوص السبب: يرون أن استفادة الحكم فى السبب بطريق النص، وفى غيره بطريق القياس.
ويتفرع عن ذلك: أنه إذا كان المعتبر فى تطبيق الحكم نوع العمل فى أفراده، لا صورة السبب بذاتها- وذلك لما بين صورة السبب وغيرها من التشابه- فإن الجهل بسبب النزول لا يتأتى أن يترتب عليه تعطيل العمل بالحكم الوارد فى الآية، فليس معنى عدم الوقوف على أن هذه الآية قد نزلت فى هذا الشخص بذاته، أو هذه الحادثة بعينها ألا يطبق الحكم الذى تضمنته على من وجدت فيه علة تطبيق هذا الحكم، وذلك يشبه أن يكون مسلّمة فى مجال الاستدلال الشرعى.
لكن البعض ذهب إلى أن عدم معرفة سبب نزول الآية يترتب على الجهل بمن نزلت فيه أولا، وبما أن صورة السبب هى الأصل الذى يقاس عليه، فإن العمل يتعذر فيمن نزلت فيه من جهة لعدم معرفته، ويتعذر فى غيره لتعذر إمكان القياس على المجهول من جهة أخرى، وبذلك يؤدى الجهل بسبب النزول على التحديد إلى تعطيل العمل بما تضمنته الآيات من أحكام.
وممن ذهب إلى ذلك: الشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى رحمه الله تعالى، فنراه يقول فى معرض حديثه عن رأى من يقول بخصوص السبب لا بعموم اللفظ: «فآيات الظهار فى مفتتح سورة المجادلة سببها أن
أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت حكيم بن ثعلبة، والحكم الذى تضمنته هذه الآيات خاص بهما وحدهما- على هذا الرأى- أما غيرهما فيعلم بدليل آخر: قياسا أو سواه، وبدهى أنه لا يمكن معرفة المقصود بالحكم، ولا القياس عليه إلا إذا علم السبب، وبدون معرفة السبب تصير الآية معطلة خالية عن الفائدة» (79).
والحق أن الشيخ رحمه الله تعالى قد أسرف فى هذا الحكم، كما أن المثال الذى ساقه لا يساعده فى تقرير ما ذهب إليه، لأنه كما سبق مرارا: الحكم فى الآية منوط بأمر معين، إذا وقع هذا الأمر طبق الحكم، وذلك فى الجميع (صورة السبب وغيرها) إلا أنه فى صورة السبب بالنص، وفى غيرها بالقياس، وما دام الأمر كذلك فمن التجاوز القول بإهمال العمل بحكم الآية، لأن ما يجرى الحكم فيه نصا لم يتميز عما يجرى الحكم فيه قياسا، ما دام الاتفاق على ثبوت الحكم فى الجميع بدليل شرعى هو: النص أو القياس.
وبعبارة أخرى: فبالنسبة للمثال الذى ساقه الشيخ (80): هل من المقبول: القول بإهمال العمل بما تضمنته الآية من حكم الظهار، وما جاء فيها من وصفه بأنه منكر من القول وزور، وما ينبغى على المظاهر من الكفارة المبينة قبل أن يمس امرأته .. إلى آخر ما فى الآية. أقول: هل من المقبول إهمال العمل بهذا الحكم رأسا إذا لم نعرف أن من نزلت فيه هذه الآية اسمه أوس بن الصامت، وأن زوجته اسمها خولة بنت ثعلبة، مع أن الحكم فى الآية ليس منوطا بمعرفة من نزلت فيه، بل بمن يظاهر من زوجته بالصيغة المعروفة.
وهل من المعقول كذلك: أن نهمل مثلا العمل بحكم اللعان الوارد فى قول الله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ النور/ 6 - 9، ما لم نعرف أن من نزلت فيه الآيات اسمه هلال بن أمية، أو عويمر العجلانى، أو هما معا كما سبق ..
اللهم لا.
لكن .. لعله يكون لما قاله الشيخ الزرقانى، ومن قال برأيه وجه فيما قدمناه عند الكلام عن فوائد معرفة أسباب النزول من أنه: قد يتوقف فهم الآية ذاتها على معرفة سبب
(79) مناهل العرفان فى علوم القرآن: ط دار الفكر- بيروت 1408 هـ- 1988 م: (1/ 112، 113).
(80)
أعنى آية الظهار وهى: قول الله: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ الآيات: سورة المجادلة:
نزولها، أو يشكل أمرها ما لم يعرف هذا السبب، كما ذكرنا من قبل على سبيل المثال، فى قول الله سبحانه: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ البقرة/ 189.
وكذلك فى قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ البقرة/ 158.
فالصحيح إذن: أن الجهل بسبب نزول الآية- أى آية- لا ينبغى أن يؤدى إلى تعطيل العمل بمقتضى هذه الآية، وما تضمنته من أحكام عند القائلين بخصوص السبب لا بعموم اللفظ .. فضلا عن غيرهم.