الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والروايات التى تزعم أن بعض البشر حاول معارضة القرآن، تدل إن صدقت- على هذا الإعجاز؛ وإن كنت أرى أن البليغ الممتاز ممن عزيت إليه هذه المعارضة أعقل
وأحصف من أن يتورط فى شىء لا يقوم له، فما قيل فى هذا المجال موضع توهين.
2 - أوّل من نفى الإعجاز عن القرآن:
لا يعرف على وجه التحديد أوّل من ذهب إلى أن القرآن الكريم غير معجز، وقد قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعى فى كتابه إعجاز القرآن (2) إنّ أول من ذهب إلى ذلك هو الجعد بن درهم، يقول الرافعى:
وكتب الكلام التى دوّنت آراء الجعد، تحدثت عن قوله بخلق القرآن، وعن قوله بالتعطيل، وقوله بالقدر، ولكنها لم تتحدث عن إنكاره للإعجاز، فإذا كان الرافعى قد قرأ عن جعد ما لم نقرأه، فكان عليه أن يذكر مصدره، ومهما يكن من شىء فإن القول بخلق القرآن فى هذا الزمن المتقدم- فى العصر الأموى- جرّأ الملاحدة والزنادقة ممن دخلوا فى الإسلام ظاهريّا دون أن تطمئن قلوبهم إلى نوره؛ جرّأهم على الحديث المتسرّع عن كتاب الله؛ ومنه ما قالوه عن عدم الإعجاز، وقد دعت حرية الجدل فى مطلع العهد العباسى هذا النفر إلى الافتراء بغير العلم، فراج حديثهم عن عدم الإعجاز، واضطر المدافعون عن دين الله أن يواجهوا الباطل بما يدحضه، فبدأ الحديث عن الإعجاز، وتنوّع القول فى بيان خصائصه. وفى هؤلاء المدافعين من تورط فى حديث فهم على غير وجهه، وأعنى به حديث الإعجاز بالصرفة، وهو مما يحسن أن نقف لديه.
3 - القول بالصرفة:
ينسب القول بالصرفة فى تفسير الإعجاز القرآنى لأبى إسحاق النظام، وهو قول لم يدونه النظام فى كتاب، ولولا أن الجاحظ رواه عنه ما اشتهر وما ذاع، وفحواه أن العرب قد انصرفوا عن معارضة القرآن، وهذا الانصراف دليل الإعجاز، ويوحى هذا القول بأنهم لو اتجهوا إلى معارضته لجاءوا بمثله؛ كما أن تمام الرأى عند النظام أنه قال إن الإعجاز إنما جاء من الإخبار عن الأمور
(2) إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعى- الطبعة السادسة سنة 1956 مطبعة الاستقلال ص 161.
الماضية والآتية، والحق أن تفسير الصرفة بمعنى عدم اتجاه العرب إلى المعارضة فقط، مما لا يعقل أن يقول به رجل كبير العقل كالنظام مهما أرجف أعداؤه بما اختلفوا من مثالبه، وقد جعله الجاحظ عبقرى القرن الثالث، فكيف يكون بهذه المنزلة الرفيعة ثم يذهب هذا المذهب المخطئ، كما أن مما يجعل المسألة ذات خطر فى حديث الإعجاز أن أفاضل من الأعلام مثل الجاحظ وابن سنان والمرتضى وابن حزم والعلوى قد قالوا به؛ أفيكون هؤلاء من الضحالة وضيق النظر حتى يفهموا من الصرفة هذا الفهم الذى ينكره الغلام الناشئ بله العالم المفكر؟ إن الأمر لا يستقيم إلا إذا فهمت الصرفة فهما يتفق وجلال هؤلاء الكبار الذين هتفوا بما قال النظام. وهم أنفسهم الذين تحدثوا عن بلاغة القرآن وإعجاز فصاحته تركيبا ونظما وتصويرا بما يجعل ذلك من أسباب الإعجاز، إن الذى فهمته من معنى الصرفة، ولا أدرى إذا كنت قرأته من قبل لبعض الفضلاء ونسيت اسمه أو أنه شىء قذفه الله فى نفسى! هذا المعنى هو أن العرب حين دهشوا من روعة القرآن، وبهرهم تأثيره بما فوق القدرة، انصرفوا تلقائيا عن معارضته، لأنهم علموا أنهم مهما حاولوا هذه المعارضة وجمعوا لها أساطين القول من بلغائهم المعدودين فلن يأتوا بسورة من مثله، أو بعشر آيات من مثله، فكانت (الصرفة) عن المعارضة التى توقعوا استحالتها بادئ ذى بدء هى وجه الإعجاز الذى عناه النظام وهو وجه معقول نلمس نظائره فى الحياة حين يبنى مهندس عبقرى صرحا رائعا. فيكون آية الآيات فى بابه، ويراه زملاؤه فيقرون بالعجز عن بناء مثله، ويصرفون أنفسهم عن محاولة هذا البناء! هذا هو الفهم الجدير بالنظام ومن تبعه من البلغاء، وهم من هم!
الجاحظ: للجاحظ سطوة فى التعبير، وتدفق فى سوق الحجج والبراهين، وقد عاش فى مشتجر الجدل، وخاض عباب الحوار فلا بد أن يكون لإعجاز القرآن نصيب من حديثه الدافق، وقد ذكروا من مؤلفاته المفقودة كتابى (نظم القرآن) و (آى القرآن) وحديث النظم قد اشتهر كثيرا من بعده حتى مخض زبدته الإمام عبد القاهر الجرجانى. فلا أستبعد أن يكون هذا الكتاب المفقود نواة هذا الحديث، وقد قال الجاحظ عنه مخاطبا الفتح بن خاقان حين طلب منه أن يكتب مؤلفا عن القرآن: «فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسى، وبلغت فيه أقصى ما يمكن مثلى فى الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعّان، فلم
أدع فيه مسألة لرافضى ولا لحديثى، ولا لحشوى، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لأصحاب النظام، ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن خلق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة، فلما ظننت أنى بلغت أقصى محبتك، وأتيت على معنى صفتك، أتانى كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن، وكانت مسألتك مبهمة، ولم أك أن أحدث لك فيها تأليفا، فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما، وأغمضهما معنى وأطولهما» (3).
ويقرب من كتاب النظم ما كتبه فى مؤلفه المفقود أيضا (آى القرآن) حيث أشار إلى بعض ما جاء به فى كتاب الحيوان حين قال تحت عنوان (من إيجاز القرآن):
«ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن لتعرف بها فصل ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها فى الإيجاز، والجمع للمعانى الكثيرة بالألفاظ القليلة على الذى كتبته لك فى باب الإيجاز وترك الفضول، فمنها قوله حين وصف خمر أهل الجنة:
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ، وقوله- عز وجل حين ذكر فاكهة أهل الجنة:
لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعانى. وهذا كثير دللتك عليه، فإن أردته فموضعه مشهور (4).
وقراءة هذين النصين تدل على ما فقدناه من إفاضة الجاحظ فى هذه المسائل التى تتصل بالإعجاز بأقوى سبب، وقد بقيت لنا شذور شتى مما كتبه الجاحظ فى رسالة
(حجج النبوة)[التى نشرها الأستاذ عبد السلام هارون فى الجزء الثالث من رسائل الجاحظ]، وبها ما يمكن أن يستدل به على منحى الجاحظ فى ثبوت الإعجاز، [وسأنقل منها ما يدل على ذلك دون إطالة]؛ فمنها قوله:
«إن رجلا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له فى نظامها ومخرجها، وفى نقلها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها، وليس ذلك فى الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين! ألا ترى أن الناس قد يتهيأ لهم فى طبائعهم، ويجرى على ألسنتهم أن يقول رجل منهم «الحمد لله، وإنا لله، وربنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل» وهذا كله فى القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع، ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو
(3) رسائل الجاحظ ج (3) ص 287 تحقيق عبد السلام هارون- مكتبة الخانجى سنة 1979 م.
(4)
كتاب الحيوان ج 3 ص 86 تحقيق عبد السلام هارون ط 3 سنة 1969.
قصيرة، على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه ولو استعان بجميع قحطان معد بن عدنان» (5).
وهذا الكلام أصل لقضية النظم، وكل ما انتمى إليها ينتهى إلى هذا الأصل، ثم يقول الجاحظ:(6)
«ولا يجوز أن يكون مثل العرب فى كثرة عددهم، واختلاف عللهم، والكلام كلامهم وهو سيد عملهم فقد فاض بيانهم، وجاشت به صدورهم، وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم .. وقد هجوه من كل جانب، وهاجى أصحابه شعراءهم، ونازعوا خطباءهم، وحاجوه فى المواقف، وخاصموه فى المواسم، وبادءوه العداوة، وناصبوه الحرب، فقتل منهم وقتلوا منه، وهم أثبت الناس حقدا، وأبعدهم مطلبا، وأذكرهم لخير ولشر وأنفاهم له، وأهجاهم بالعجز وأمدحهم بالقوة، ثم لا يعارض معارض، ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر، (6) إلى أن يقول:
على أن الجاحظ هو الذى فتق أكمام الحديث عن الأسلوب القرآنى، وبيّن من سماته ما جعله الكثيرون مصدرا أولا للإعجاز القرآنى، فقد نظر الرجل إلى ألفاظ القرآن ومعانيه ليهتدى إلى فطن بارعة فى التحليل والاستنتاج كانت عون البلاغيين فى كثير مما كتبوه عن اللفظ والجملة والصورة، فما تحدث البلغاء عن فصاحة الكلمة وفصاحة الكلام، وأسرار الحذف والذكر، ومواضع الإيجاز والإطناب، وجمال التشبيه
(5) رسائل الجاحظ ج (3) ص 229.
(6)
رسائل الجاحظ ج (7) ص 273.
(7)
سورة الأنفال: 31.
(8)
رسائل الجاحظ ج (3) ص 275.
والاستعارة وغيرها من الأبواب إلا بعد أن عرض لهم الجاحظ فنونا مترفة من استشفافه الذوقى لكتاب الله، ولن نرسل القول إرسالا دون شواهد صريحة توضح ما نعنيه. (9).
أجل تحدث الجاحظ عن ألفاظ القرآن حديثا لم يسمع من أحد قبله إذ قال فى الباب الأول من البيان والتبيين: «وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر فى القرآن الجوع إلا فى موضع العقاب، أو موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع فى حال القدرة والسلامة، وكذلك المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا فى موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث، ولفظ القرآن الذى عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعا، والجارى على أفواه العامة غير ذلك. (10)
وقد جاء من بعد الجاحظ من كشف عن أسرار هذه الكلمات، وحسنها فى موضع، وعدم لياقتها فى موضع آخر اقتداء بكتاب الله ورجوعا إلى البيان والتبيين فى الإسناد.
أما حديث الجاحظ عن الصورة البيانية فى القرآن فقد كثرت أمثلته، وكتاب الحيوان بالتراث معرض رائع لهذا الحديث، واكتفى بمثل واحد من هذا المجال: قال الجاحظ تحليلا لقول الله عز وجل طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (11) «زعم أناس أن رءوس الشياطين ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن لها منظر كريه، والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير وقالوا: ما عنى إلا رءوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فسقة الجن ومردتهم، فقال أهل الطعن والخلاف: ليس يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فتتوهمه، ولا وصفت لنا صورته فى كتاب ناطق أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدل على التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها، وعلى أنه لو كان شىء أبلغ فى الزجر من ذلك لذكره، فكيف يكون الشأن كذلك والناس لا يفزعون إلا من شىء هائل قد عاينوه
…
إلى أن قال: قلنا: وإن كنا نحن لم نر شيطانا قط، ولا صوّر رءوسها لنا صادق بيده، ففي إجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان، حتى صاروا يضعون ذلك فى مكانين، أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر: أن يسمى الجميل شيطانا على جهة التطير له كما تسمى الفرس الجميلة شوهاء والمرأة الجميلة صماء
(9) خطوات التفسير البيانى للقرآن الكريم للدكتور محمد رجب البيومى ص 79 وما بعدها (سلسلة البحوث الإسلامية) ديسمبر سنة 1971، وقد استعنت به فى إيراد هذه الشواهد، وما توصلت إليه هنا من النتائج.
(10)
البيان والتبيين ج (1) ص 33 تحقيق السندوبى.
(11)
سورة الصافات: 65.
وخنساء وأشباه ذلك على جهة التطير له، ففي إجماع المسلمين والعرب على ضرب المثل بقبح الشيطان دليل على أنه فى ذلك أقبح من كل قبيح». (12)
والأمثلة كثيرة لما حلله الجاحظ من آيات الكتاب المبين، وفى الفصل الذى كتبته عن (وثبات الجاحظ) فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) توضيح كاف لما أعنيه، حيث
ذكرت من النماذج ما يدل على معاناة الجاحظ فى هذا المضمار؛ لأنه بهذا التحليل الرائع لآيات القرآن الكريم قد دل على أمثلة من الإعجاز القرآنى تكون تطبيقا لما قرره بشأن هذا الإعجاز [مما أشرت إليه فى صدر هذا البحث]، وآخذ على بعض المعاصرين ممن كتبوا عن الصور البيانية فى كتاب الله أنهم اقتبسوا كلام الجاحظ دون أن يشيروا إليه؛ وكأن القول من مبتكراتهم، وهذا فى العلم غير حميد.
الرمانى: دعت الحرية الفكرية فى العصر العباسى نفرا من الناس أن يقولوا فى كتاب الله ما يشاءون، ووجد الملاحدة منهم فى كتاب الله ما يشفون به صدورهم من الإرجاف الكاذب، فهب المخلصون من حماة الإسلام يدافعون عن إعجازه بما يملكون من إقناع، فكتب الجاحظ عن نظم القرآن ما جعله موضوعا لقضية الإعجاز، واقتفاه أبو بكر داود السجستانى ت 316 هـ، وأبو زيد البلخى ت 322 هـ، وأبو بكر بن الأخشيد ت 326 هـ، فتحدثوا عن الإعجاز فى كتب تحمل عنوان (نظم القرآن) ثم جاء محمد بن يزيد الواسطى فتحدث عن إعجاز القرآن فى كتاب جعله بعنوان (الإعجاز)، فكان أول من خالف عنوان النظم إلى عنوان الإعجاز، ولاقى عنوانه قبولا لدى الدارسين، فكان موضع اختيار من كتبوا فى الإعجاز من بعده وفى طليعتهم الرمانى 386 هـ والخطابى 388 هـ والباقلانى 403 هـ، وغيرهم كثير، وإذا كان ما كتبه السابقون من قبل هؤلاء الثلاثة قد فقد ولم تظهر مخطوطاتهم بعد، فإننا سنخصهم بالحديث.
كان الخطابى والرمانى متعاصرين كما يعلم من تاريخ وفاتهما، ولا نعلم أيهما سبق صاحبه فى الحديث عن إعجاز القرآن ولكن قراءة الكتابين تدل على أن أحدهما لم يحبذ الآخر، بل لم يقرأ ما كتب، فإن التأثر مفقود تماما، لاختلاف المنحى، وإذا كان الرمانى قد سبق صاحبه إلى لقاء ربه بعامين أو بأربعة على اختلاف الروايات فسأبدأ به.
لقد عمّر على بن عيسى الرمانى دهرا طويلا قطعه فى الدراسات العميقة حتى صار
(12) الحيوان ج 6 ص 213.
علما من أعلام النحو فى عصره، وقورن بأبى علىّ الفارسى، وكاد يرجحه عند قوم، وتأليفه فى النحو على وجه التفريع والتقسيم والإكثار من المصطلحات كان واضحا فى حديثه عن الإعجاز، إذ بدأ بتقسيم البلاغة إلى طبقات ثلاث، ثم ثنى بتقسيم مسائلها إلى عشرة أقسام هى الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والتواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان، وأوضح كل قسم بما توسع فيه من الاستشهاد المتعدد، ويطول بنا القول لو تتبعناه فى كل ما كتب، ولكننا نشير إلى ما ينبئ عن اتجاهه فحسب، فقد بدأ بالحديث عن الإيجاز فقسمه إلى إيجاز حذف وإيجاز قصر، فتابعه البلاغيون على اصطلاحه، واستشهد بمثل قول الله عز وجل وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها (13) فقال:
«كأنه قيل حصلوا على النعيم المقيم الذى لا يشوبه التنغيص، وإنما صار الحذف فى مثل هذا- يريد حذف جواب الشرط- لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذى تضمنه البيان فحذف الجواب فى قولك «لو رأيت عليا بين الصفين» أبلغ من الذكر لما بيناه. (14)
ثم تعرض للموازنة بين قول الله تعالى:
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (15) وقول من قال (القتل أنفى للقتل) فأفاض على غير عادته ليردّ على من لغا لغوا سفيها فى هذا المجال. فكان أول من كتب فى هذه الموازنة، وقد تبعه من جاء بعده وهم كثيرون، حتى جاء الأستاذ مصطفى صادق الرافعى فى هذا العصر فلم يدع مجالا لقائل، أما ما كتبه فى الاستعارة فقد كان أوضح نسبيا مما كتبه عن الإيجاز إذ تخلى عن الكزازة الضيقة فى التعبير هناك. وتمثل لذلك بما ذكره عن قول الله عز وجل: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ (16) حيث قال: شهيقا، حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكى، والاستعارة أبلغ وأوجز، والمعنى الجامع بينهما قبح الصوت، «تميز من الغيظ» حقيقته من شدة الغليان بالاتقاد، والاستعارة أبلغ منه وأوجز؛ لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس مدرك بما يدعو إليه من شدة الانتقام فى الفعل، وفى ذلك أعظم الزجر وأبلغ الوعظ، وأول دليل على سعة القدرة وموقع الحكمة، ومنه: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (17) أى تستقبلهم للإيقاع بهم استقبال مغتاظ يزفر غيظا عليهم، وكذلك قال الرمانى عن قوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى
(13) سورة الزمر: 73.
(14)
ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ص 70 ط 1 دار المعارف بتحقيق الأستاذين محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام.
(15)
سورة البقرة: 179.
(16)
سورة الملك 7، 8.
(17)
سورة الفرقان: 12.
آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (18) حقيقته منعناهم الإحساس بآذانهم، والاستعارة أبلغ لأنه كالضرب على الكتاب فلا يقرأ، كذلك المنع من الإحساس فلا يحس. وإنما دل على عدم الإحساس بالضرب على الآذان دون الضرب على الأبصار لأنه أدل على المراد من حيث كان يضرب على الأبصار من غير عمى فلا يبطل الإدراك أصلا وذلك بتغميض الأجفان، وليس كذلك منع الأسماع من غير صمم فى الآذان، لأنه إذا ضرب عليهما من غير صمم دلّ على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك، ولأن الأذن لما كانت طريقا إلى الانتباه ثم ضربوا عليها، لم يكن سبيل إليه». (19)
وكذلك ما أتبع به قول الله عز وجل: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ (20) حيث قال: القذف والدمغ هنا مستعار، وهو أبلغ، وحقيقته، بل نورد الحق على الباطل فيذهبه، وإنما كانت الاستعارة أبلغ لأن فى القذف دليلا على القهر. لأنك إذا قلت: قذف به إليه، فإنما معناه، ألقاه إليه على جهة الإكراه والقهر، فالحق يلقى على الباطل فيزيله على جهة القهر والاضطرار، لا على جهة الشك والارتياب، ويدمغه أبلغ من «يذهبه» لما فى يدمغه من التأثير فهو أظهر فى الكناية، وأعلى فى تأثير القوة» (21).
كم يحتاج مثل هذا البيان الدقيق إلى تحليل ساطع كتحليل الإمام عبد القاهر ليفيض من ضيائه ما قبضه التركيز المكتنز، ولئن فات الرمانى أن يفيض بما يشرق من النور
فقد أتاح لخلفائه أن يستريحوا لقوله فى مكان مطمئن لا يرهقه عسر، إذ اعتمد أبو هلال وابن سنان وعبد القاهر وابن الأثير وابن رشيق على الكثير من خطراته الدقيقة، وأوسعوها تحليلا وتفصيلا، كلّ حسب منحاه وبذلك صار الرمانى علما من أعلام البيان، وإن لم يؤلف فى هذا العلم رأسا بل جاء حديثه فيه خاصا بكتاب الله.
وقد طبع كتاب الرمانى فى النحو وفيه إشارات مقتضبة عن الإعجاز حين يستشهد بآية كريمة، فإذا أضيفت هذه الإشارات إلى ما كتبه فى رسالته الخاصة بالإعجاز فإنها تفصح عن نظر دقيق.
الخطابى: أبو سليمان الخطابى من أعلام المحدثين فى عصره، وهو إمام سنى نافح عن مذهبه فيما ترك من آثار، وقد كتب رسالة (إعجاز القرآن) ليرد على الطاعنين من وجهة نظره، فجاء رده سلسا فصيحا لا يحوج القارئ إلى بعض العناء كما أحوجته رسالة الرمانى، وقد هدف إلى تحديد عناصر الإعجاز فى كتاب
(18) سورة الكهف: 11.
(19)
ثلاث رسائل فى الإعجاز ص 80.
(20)
سورة الأنبياء 18.
(21)
ثلاث رسائل فى الإعجاز ص 82.
الله مقدما ذلك بتمهيد يتحدث عن قضية الذوق الأدبى، ومدى الاستناد إلى ارتياح الناس له دون تحديد، فقال: «وزعم آخرون أن إعجازه من جهة البلاغة، ووجدت عامة أهل هذه المقالة، قد جروا فى تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له، وإحاطة العلم به، ولذلك صاروا إذا ما سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التى اختص بها القرآن، الفائقة فى وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذى يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا إننا لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون عن سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده
…
وقد توجد لبعض الكلام عذوبة فى السمع وهشاشة فى النفس، لا توجد مثلها لغيره، والكلامان معا فصيحان ثم لا يوقف لشىء من ذلك على علة. قلت: وهذا لا يقنع فى مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على اتهام». (22)
فأنت تراه لا يجعل الارتياح النفسى بعض أسباب الاستحسان الأدبى إلا إذا قرن بتعليل ودليل، وهذا ما نهض للإجابة عنه حين تحدث عن أسلوب القرآن، فذكر «أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها فى نسب البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز المطلق المرسل، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم، الذى لا يوجد فى القرآن شىء منه البتة، فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثانى أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حفنة، وأخذت من كل نوع من أنواعها بشعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتى الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد فى نعوتهما كالمتضادين، لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة فى الكلام تعالجان نوعا من الوعورة. فكان اجتماع الأمرين فى نفسه، مع نبو كل منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره، لتكون آية بينة لنبيه، ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر ربه. (23)
وهذا كلام جيد. والذين تعرضوا له بالتحليل فهموا منه أن الجزالة والعذوبة يجتمعان فى القرآن معا: كلّ فى موضعه على انفراد، بحيث تكون آية عذبة، وآية جزلة، وفق ما تقتضى المعانى: ولكنى أفهم منه ما يدل على امتزاج الرقة بالجزالة فى تعبير واحد. وهو ما فصّلت الحديث عنه فى
(22) ثلاث رسائل ص 21.
(23)
ثلاث رسائل ص 23.
موضع آخر (24) هذه ناحية، أما الأخرى، فقد قال الخطابى: إن الأسلوب الأدبى يعتمد على ثلاثة أشياء: لفظ حامل، ومعنى قائم به، ورباط له، فإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فى غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا، وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه، أما المعانى فلا خفاء على ذى عقل، أنها هى التى تشهد لها العقول بالتقدم فى أبوابها، والترقى إلى أعلى درجات الفضل نحو نعوتها وصفاتها، وقد توجد هذه الصفات على التفرق فى أنواع الكلام، أما أن تكون مجموعة فى نوع واحد منه فلم توجد إلا فى كلام العليم القدير، فتفهّم الآن واعلم أن القرآن صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن مضمون التأليف مضمنا أصح المعانى. وهذا ما بسطه الخطابى إلى أن قال:(25)
وذلك قول يحدد نظرية النظم، كما أتى بها عبد القاهر فى (دلائل الإعجاز) تحديدا تتضح به المعالم المتفرقة فى أشتات من قول الجاحظ ومن تلاه، ولئن أعوزنا أن نثبت اطلاع عبد القاهر على ما كتب الخطابى، فذلك لا يمنع القول باهتداء الخطابى إلى أصل قوى من أصول الإعجاز، نهضت عليه صروح أقامها المخالفون، بعد أن وضع ثابت الأساس، وقد وجّهت بعض الاعتراضات المغرضة إلى النصوص التعبيرية فى القرآن فنهض الخطابى للرد عليها، وأفرد لها جزءا من رسالته، شأنه فى ذلك شأن ابن قتيبة فى (تأويل مشكل القرآن)، ولكنه توسع عنه فى التعبير لأن تأخره الزمنى أتاح له ما لم يتح لسابقه.
فمما توجهت الشبهة به إلى اللفظ، وقوف المعترضين عند قوله تعالى: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ. (26) زاعما أن كلمة افترس أصح من كلمة «أكل» إذ أن الافتراس خاص بالسباع، أما الأكل فيعم كل آكل من الحيوان والإنسان، وهو اعتراض تردد أيام الجاحظ، وأجاب عنه بألمعيته المشهورة، وجاء الخطابى فأدلى بدلوه فى الدلاء حين قال:
«إن الافتراس معناه فى فعل السبع، القتل فحسب، وأصل الفرس دق العنق، والقوم إنما ادعوا على الذئب أكله أكلا، إذ أتى على
(24) البيان القرآنى ص 30 وما بعدها.
(25)
ثلاث رسائل ص 33.
(26)
سورة يوسف آية: 17.
جميع أعضائه، فلم يترك مفصلا ولا عظما، وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إياهم بأثر باق يشهد بصحة ما ذكروه، فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس
لا يعطى تمام المعنى، فلم يصلح على هذا أن يعبر عنه إلا بالأكل» (27). وأخذ الخطابى يؤيد قوله بشعر العرب وحديث الرسول مما تكفى الإشارة إليه، وأمثلة كثيرة دفع الاعتراض عنها الخطابى دفعا قويا، وبخاصة ما ذكره فى باب التشبيه عن اعتراض المعترض لموضع التشبيه فى قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (28) فقد ذكر ثلاثة ردود قالها المفسرون من قبل. ولكنه جلاها أحسن تجلية، فنكتفى بالإشارة بها، منتقلين إلى رده على اعتراض من قال فى قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ (29) أن دخول الباء على كلمة إلحاد لا يفيد جديدا، فرد الخطابى قائلا: إن الباء زائدة- يعنى زيادة إعراب فقط لا زيادة معنى كما هو معروف.
والباء قد تزاد فى مواضع من الكلام، واستشهد بأبيات تدل على الزيادة، وكان عليه أن يذكر المراد من هذه الزيادة فى تقوية المعنى، ولا يكتفى بالمنحى الإعرابى، فالباء هنا تدل على القصد والتعمد وسبق التصميم مما يجعل صاحب الإلحاد مندفعا بجرأة وسطوة، وكأن الأمر قد شغل عليه نفسه، وجعله كل مراده ومبتغاه، هذا ما كان على الخطابى أن يشير إليه، ولعله تركه لفطنة القارئ، ولكن كيف؟ وهو فى مجال الدحض والتفنيد؟
الباقلانى: أول كتاب مستقل بالإعجاز وصل إلينا هو كتاب (إعجاز القرآن) للباقلانى المتوفى سنة 403 هـ وهو عالم متكلم نظار، له مجالس مناظرة وجدل تدل على موهبة قوية فى الحوار، وكتابه عن الإعجاز يقدم صورا من جدله العلمى، بدأه بذكر الملاحدة وما خاضوا فيه من جدل حول كتاب الله اضطره للرد عليهم، ونقد الجاحظ بأنه لم يأت بشيء جديد فى كتابه (نظم القرآن) حيث ردد أقوال المتكلمين من قبله، ثم أنحى باللوم على من قالوا: إن الإعجاز بالصّرفة. فاهما من الصّرفة ما فهمه الكثرة من العلماء دون ما أشرنا إليه من قبل، ويرجع بالإعجاز إلى أشياء منها إخباره بالغيب، وما وقع من قصص الأنبياء السابقين مما روته الكتب السابقة، مع أن رسول الله كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، وقد فاته أن بعض القصص النبوية لم تأت بها الكتب السابقة مثل قصص صالح وهود ومائدة عيسى فمن أين جاء بها الرسول إن لم تكن من عند الله؟! ثم ركز على الركن
(27) ثلاث رسائل ص 37.
(28)
سورة الأنفال آية: 5.
(29)
سورة الحج: 25.
الأكبر من الإعجاز وهو بلاغته الساطعة، إذ جاء القرآن ببديع النظم متناهيا فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عن الإتيان بمثله، وقد ذكر الدكتور شوقى ضيف «أن الباقلانى متأثر بالجاحظ فيما ذهب إليه من أن مرجع الإعجاز إلى نظم القرآن المخالف لأساليب العرب نثرا وشعرا، كما أنه متأثر بالرمانى فيما ذهب إليه من أن القرآن يرتفع إلى أعلى طبقات البلاغة» (30) - وقد أشرنا لذلك من قبل، كما أن المؤلف تحدث عن اطّراد البلاغة فى القرآن دون تفاوت ولا تباين بخلاف كلام الفصحاء الذى يوجد فيه التفاوت والاختلاف، وقد فرق بين الفاصلة والسجع بما كان موضع نقاش للدارسين من بعده، وألمّ بفنون البديع من المطابقة والتكافؤ والجناس والاعتراض والتذييل، وانتهى إلى أن الوقوف على الإعجاز لا يتأتى إلا لمن عرف وجوه البلاغة العربية وتكونت لديه ملكة يقيس بها الجودة والرداءة فى الكلام فيستطيع أن يفرق بين الشعراء والأدباء فرقا دقيقا بما وهبه الله من هذه الملكة، وفى حديثه عن التفاوت يعرض قصائد لامرئ القيس والبحترى عرضا مسهبا ليظهر تفوق القرآن عليها. ويخيل إلىّ أنه لم ينته إلى الصواب فى ذلك. لأن المقارنة لا تقوم على وجهها الأصيل إلا إذا اتحد الموضوع فى غرضه، ولا يوجد اتحاد بين الكتاب المبين وما تعرض له الشعراء من الأغراض، ولست أنكر تفوق الأسلوب القرآنى على هذه القصائد وغيرها، وإنما أنكر أن تكون هذه الموازنة دقيقة فى اتجاهها النقدى.
وأكبر ما اهتدى إليه الباقلانى هو نقده لمن قال إن فنون البديع تدل على وجوه الإعجاز، إذ لا قيمة لهذه الفنون وحدها دون ملكة قوية تكون هى الحكم فى الترجيح، وللباقلانى فى كتابه الكبير مواقف ممتازة فى التحليل الأدبى، ومواقف أخرى تعجله السرعة عن الإتمام بما يشفى حاجة القارئ وسنمثل لكل من الاتجاهين، فهو قد وفّق حين مثل بقول الله عز وجل: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (31) حيث قال: «وجه الوقوف على شرف هذا الكلام أن تتأمل موقع قوله: «همت كل أمة برسولهم ليأخذوه» فهل تقع فى الحسن موقع قوله ليأخذوه كلمة، وهل تقوم مقامه فى الجزالة لفظة، لو وضع موضع ذلك «ليقتلوه أو ليرجموه أو لينفوه أو ليطردوه أو ليهلكوه أو ليذلوه ونحو هذا ما كان ذلك بعيدا ولا بارعا
…
فإن كنت
(30) البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف ص 109 - دار المعارف طبعة سنة 1965 م.
(31)
سورة غافر: 5، 6.
تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التى عددناها عليك أو غيرها لا تقف بك على عرضنا من هذا الكتاب، فلا سبيل إلى الوقوف على تصاريف الخطاب، فافزع إلى التقليد، وإن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (غافر: 5) ثم ذكر عقبها العذاب فى الآخرة، وأتلاها تلو العذاب فى الدنيا على الإحكام الذى رأيت» (32).
فالباقلانى هنا يعلل ويحلل ويسلك سلك أهل مذهبه الكلامى فى الأخذ والرد، وكنا نود أن يسلك هذا المسلك فى كل ما يمثل به من الآيات، ولكن نشاطه يفتر حين يمتد به القول دون راحة ذهنية- كما أعلّل ذلك- فلا تكاد تخرج منه بطائل، وأمثل لذلك بما استشهد به من قول الله: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (33) حيث قال:
انظر إلى هذه الكلمات الأربع التى ألف بينها واحتج بها على ظهور قدرته، ونفاذ أمره، أليست كل كلمة منها فى نفسها غرة، وبمفردها درة، وهو مع ذلك يبين أنه يصدر عن علو الأمر، ونفاذ القهر، ويتجلى فى بهجة القدرة، ويتحلى بخالصة العزة، ويجمع السلامة إلى الرصانة، والسلاقة إلى المتانة، والرونق الصافى، والبهاء الضافى» (34) فهذا القول وشبيهه مما تركته للاختصار يمكن أن يقال تعليقا لآيات كثيرة تماثلها دون فارق، والمفسر المحلل لا يلجأ للعبارات العامة فى نص يحلله، لقد كان عليه أن
يبين موقع الحسن فى كل كلمة تنفرد بنفسها بدل أن يطلق القول إطلاقا، وإذا اتسع له الأمد لتفضيل كلمة (ليأخذوه) فى النص السابق، فلماذا لم يقف وقفاته البارعة عند كلمات «فالق» أو «سكنا» أو «حسبانا» ، وإنصافا للرجل أذكر إصابته الدقيقة فى تحليل بعض السور القرآنية نسبيا تحليلا متكاملا كما صنع بسورتى غافر والنمل، وأجزاء طويلة من سورة فصلت، إذ أخذ يعرض آيات السورة الواحدة متنقلا بين معانيها، ومحاولا الربط بين أجزائها وهو اتجاه شامل يتعدى الكلمة فى الآية والآية فى الآيات إلى بناء السورة جميعها، حيث تنهض عملا أدبيا مستقلا فى ذاته.
وقد كان الباقلانى موفقا حين ذكر طائفة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبه ورسائله، ليثبت الفارق الواضح بين قوله عليه السلام، وما جاء فى كتاب الله من الإعجاز، وهو اتجاه سديد، لأنه يدحض حجة من نسبوا القرآن إلى رسول الله من الملاحدة مرددين قول المشركين من قبل: إنه افتراه، ولو نشاء لقلنا مثل هذا. فلو كان القرآن مفترى من الرسول لتشابه الحديث مع الكتاب فى
(32) إعجاز القرآن للباقلانى ص 224 تحقيق الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجى ط (1) صبيح.
(33)
سورة الأنعام: 96.
(34)
إعجاز القرآن ص 214.
بيانهما الأدبى، كما أنهم حين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا لم يكونوا صادقين إذ لو استطاعوا القول المماثل لقالوه، وقد جاء الباقلانى فى ذلك بما يصلح أن يكون توجيها سديدا لتأليف كتاب يبين خصائص الإعجاز القرآنى والإبداع المحمدى.
وقد تحدث بعض الدارسين عن موقف الباقلانى من السجع القرآنى، إذ نفاه نفيا تاما لأنه فى رأيه قد يكون زيادة اللفظ دون حاجة إليه، وهذا ما يتنزه عنه القرآن، مع أن القائلين بالسجع فى القرآن، يذهبون إلى أنه السجع المحكم الذى لا يكون به زيادة ما، فالجهة منفكة كما يقول المناطقة.
الشريفان: وأقصد بهما الشريفين الرضى والمرتضى، وهما أخوان بارعان تحدثا عن الإعجاز القرآنى كثيرا، فأفاضا فى ذكر أسبابه، وتعدد فنونه، ولكنهما يختلفان منهجا، فالرضى شاعر أديب يعتمد على الذوق الحساس، والبيان الطلق، والمرتضى يشاركه الشعر والأدب، ولكنه نظار متكلم يعتمد على دفع الحجة، ومعارضة الخصم، وترتيب الأدلة، فهما يمثلان فى تفسير الإعجاز مذهبين مختلفين، ويتركان للدارس مجالا فسيحا للموازنة والتحليل، ولا أدرى كيف سكت كثير من الدارسين عن إيضاح مقامهما فى دنيا الإعجاز البيانى، وكتبهما ذائعة مشتهرة، ولعلى بذلك أدعو إلى دراستهما من يريد أن يضيف الجديد.
وفى مجال التمثيل لوجهة الشريف المرتضى فى التفسير العلمى لبعض الآيات الكريمة، أنقل عن (أماليه) ما ذكره فى تأويل قوله تعالى فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (35) مقابلا ذلك بقول الله عز وجل فى موضع آخر وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ (36) مشيرا إلى أن الثعبان فى الآية الأولى هو الحية العظيمة الخلقة، والجان فى الآية الثانية هو الصغير من الحيات، فكيف يجتمع الصغر والكبر فى شىء واحد؟ وللإجابة عن ذلك قال المرتضى (37) عدة ردود نذكر منها: أن الآيتين ليستا حديثا عن قصة واحدة بل هناك حالتان مختلفتان، إذ أن الحال التى جعلت العصا فيها بصفة الجان، كانت فى ابتداء النبوة قبل أن يذهب موسى إلى فرعون، والحالة الثانية التى صارت فيها العصا ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة، فلا اعتراض. ثم يرى المرتضى أن الظن يذهب إلى أن الموقف واحد، وليس بموقفين، مع أن الله قد حسم الأمر حين قال: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ (38) فدلّ على
(35) سورة الأعراف: 107.
(36)
سورة القصص: 31.
(37)
أمالي المرتضى- طبعة أولى- ج (1) ص 18.
(38)
سورة القصص: 32.
اختلاف الموقف، ولكنه من باب إرخاء العنان للمجادلة، على طريقة المتكلمين. تابع النظر فقال: وعلى افتراض اتحاد الموقف، فإن الله تعالى شبه العصا بالثعبان فى الآية الأولى لعظم الخلقة، وكبر الجسم، وهول المنظر، وشبهها فى الآية الثانية بالجان لسرعة الحركة والنشاط والخفة، فاجتمع لها نشاط الصغير وسرعة حركته مع هول الكبير وروعة منظره، وهذا أبهر فى باب الإعجاز، وأبلغ فى خرق العادة ولا تناقض معه لأن وجه الشبه مختلف فى الآيتين، ولا يجب أن يكون المشبه مماثلا للمشبه به فى كل الوجوه بل يحوز من الصفات ما يدل على شىء جامع لا على كل متفق. وكأن المرتضى فى نقاشه الجدلى لم يكتف بالرأيين السابقين بل عمد إلى رأى ثالث خلاصته أن المراد فى الآية بالجان هو أحد الجن لا الحية الصغيرة، فكأنه تعالى أخبر بأن العصا صارت ثعبانا فى الخلقة، وعظم الجسم، وكانت مع ذلك كأحد الجن فى هول المنظر والإفزاع، فكأن وجه الشبه المختلف قد كان سبب ما يظهر من الاختلاف، وقد يجوز أن تكون العصا قد ظهرت أولا بصفة الجان ثم انقلبت إلى صفة الثعبان وهو رأى رابع ساقه المرتضى، وأعقبه بأن هذا التأويل يجعل الحكم متفقا فى الاثنين، وهو ما يبطل اعتراض المعترض. على هذا النحو من التفريع والتشقيق وتوهم الاعتراض ثم الإجابة عليه بعدة وجوه، سار الشريف المرتضى فيما تعرض له من تخريج الآيات الموهمة للاعتراض.
أما الشريف الرضى فى كتبه البيانية فقد خالف هذا المنحى فلا تهمه أن يتتبع الردود لينقضها، بل يهمه الشرح البيانى المشرق لآيات الإعجاز القرآنى، وقد يرد على قول سابق دون أن يشير إلى اسم صاحبه. ولكنه يقول فى اقتضاب:«فبطل قول من قال» ، وقد تعقب الرمانى فى آيات كثيرة، وأبدى ما يخالف وجهة نظره، وهذا فى أدب النقد الملتزم دون تجريح نعهده لدى بعض الدارسين.
كما أن الشريف الرضى قد تتبع فى كتابه (تلخيص البيان فى مجاز القرآن) سور الكتاب العزيز، سورة سورة، إلا بعض القصار التى خلت من صور البيان واعتمدت على الحجة المقنعة، والإلزام المفحم، وأضرب المثل لما عقب به على قول الله عز وجل: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (39).
قال: (40) هذه استعارة، والمراد بها أنهم تفرقوا فى الأهواء، واختلفوا فى الآراء، وتقسمتهم المذاهب، وتشعبت بهم الولائج، ومع ذلك فجميعهم راجع إلى الله سبحانه وتعالى على أحد وجهين: إما أن يكون ذلك
(39) سورة الأنبياء: 93.
(40)
تلخيص البيان: تحقيق الأستاذ محمد عبد الغنى حسن ص 232 ط أولى.
رجوعا فى الدنيا فيكون المعنى أنهم وإن اختلفوا فى الاعتقادات صائرون إلى الإقرار بأن الله- سبحانه وتعالى خالقهم ورازقهم ومصرفهم ومدبرهم، أو يكون ذلك رجوعا فى الآخرة فيكون المعنى أنهم راجعون إلى الدار التى جعلها الله- تعالى- مجال الجزاء على الأعمال، وموفى الثواب والعقاب، وإلى حيث لا يحكم فيهم ولا يملك
أمرهم إلا الله- سبحانه وتعالى، وشبّه تخالفهم فى المذاهب، وتفرقهم فى الطرائق- مع أن أصلهم واحد، وخالقهم واحد- بقوم كانت بينهم وسائل متناسجة، وعلائق متشابكة، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق وشذب تلك الوصائل، فصاروا أصنافا مختلفين.
فهذا تحليل أدبى يبعد بالكتاب عن جفاف المنطق الصارم، وله أمثاله، بل ما يزيد عنه كثيرا، لأنى لو نقلت النصوص التامة لتعليقاته الأدبية البارعة لضاق نطاق القول، وحسبى أن ألفت إلى ما تعرض له فى مثل قول الله:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (41) وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وقوله: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (43) فقد سبق إلى تحليل كان ابن بجدته، ودل على صدق استشفاف، ولطافة اتجاه، وأذكر أنى وضحت ذلك تماما فيما كتبته عنه تحت عنوان (منحى الشريف الرضى) فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) ومنه اقتبست ما جاء عن الشريفين- رحمهما الله.
عبد القاهر ودلائل الإعجاز: نشأ عبد القاهر نحويا إذ تعمق فى مسائل النحو تعمقا لم يصل إليه من سبقه، وقد رأى أن النحو قد حيد به عن الطريق الأمثل حين قصره بعض دارسيه على ضبط أواخر الكلمات، وما يخصها من إعراب وبناء، مع أنه فى رسالته الحقيقية علم يؤدى إلى المعرفة الصحيحة لتركيب الجمل وبناء الأساليب، وبالوقوف على ذلك يتسنى للدارس أن يعرف بلاغة الأسلوب، ومن هنا كان الأسلوب القرآنى وهو أرفع نماذج الأدب العربى موضع التحليل البيانى المفضى إلى تأكيد الإعجاز، وقد اطلع على ما قاله سابقوه، وأفاد منه ليقيم على أساسه ما عرف بقضية النظم، وجعل فى خطواته الأولى يتساءل عن الكلمات المفردة هل هى سر الإعجاز؟ ونفى ذلك لأن الكلمات المفردة شائعة لجميع الكتّاب،
(41) سورة البقرة: (257).
(42)
سورة البقرة: 174.
(43)
سورة الصافات: 48.
ومعانيها لا تزيد ولا تنقص، فلا بد أن يكون هناك سرّ آخر، وتساءل عن تركيب الحركات والسكنات فى الجملة القرآنية، فنفى أن يكون ذلك هو السر المنشود، فإذا لم تكن المقاطع والفواصل سر الإعجاز فإن ما تضمنه كثيرا من الاستعارات وأوجه البيان لا يقدم هذا السر أيضا، ووالى البحث نافيا كل احتمال لا يثبت للنقاش حتى اهتدى إلى أن السر فى نظم القرآن، وليس النظم شيئا عن غير توخى معانى النحو وأحكامه، وذلك ما قام عليه كتابه (دلائل الإعجاز)، وقد قال فى تقرير ذلك:
«اعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم فى الكلمة ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك، وهذا ما لا يجهله عاقل، ولا يخفى على أحد من الناس. وإذا كان كذلك، فبنا إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها؛ ما معناه وما محصوله؟
وإذا نظرنا فى ذلك علمنا ألا محصول لها غير أن تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا أو مفعولا، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثانى صفة للأول أو تأكيدا له أو بدلا منه أو تجىء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثانى صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخى فى كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك
…
وعلى هذا يكون القياس» (44) وإذن فنظم الكلام وفق قواعد النحو هو مدار الإبداع فى التركيب، والألفاظ لا تتفاضل باعتبارها ألفاظا مجردة إنما تثبت لها الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لجاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها، وهل قالوا لفظة متمكنة، وفى غيرها قلقة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكين عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم.
ويزداد هذا المعنى وضوحا بالتمثيل فقد عمد الجرجانى إلى قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (45) فشرح الآية الكريمة وجلاها تجلية زاهية حين قال:
«إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها، وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهى فى مكانها من الآية قل (ابلعى) واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها، وكيف بالشك فى ذلك؟ ومعلوم أن مبدأ العظمة أن نوديت
(44) دلائل الإعجاز ص 44 - الطبعة الرابعة من دار المنار سنة 1367 بتحقيق السيد محمد رشيد رضا.
(45)
سورة هود: 44.
الأرض ثم أمرت، ثم أن كان النداء بيا دون أى نحو يا أيتها الأرض، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعى الماء، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل «وغيض الماء» فجاء الفعل على صيغة فعل، الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقول الله:
وَقُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة، والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة «قيل» بقيل فى الفاتحة، أفترى لشىء من هذه الخصائص، التى تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من كل أقطارها، تعلقا باللفظ من حيث هو صوت «مسموع، وحروف تتوالى فى المنطق، أم كل ذلك لما بين معانى الألفاظ من الاتساق العجيب» . (46)
والكتاب ملىء بالشواهد الباهرة فى قضايا الأسلوب القرآنى من ذكر وحذف، وتقديم وتأخير، ووصل وفصل، مما كان بذرة قوية لعلم المعانى، ولو سلك المتأخرون سبيل عبد القاهر فى هذا الاستشفاف الباهر لأراحوا من عناء كثير، ونتبع المثال السابق بمثال آخر ساقه الجرجانى فى تحليل قوله تعالى عن موسى عليه السلام مع إيضاح ما فى النص الكريم من حذف للمفعول به أيضا مما يدل على نباهة فكر، ودقة ذوق:
قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ. (47)
قال عبد القاهر: «إن أردت أن تزداد تبينا لهذا الأصل أعنى وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله، ولا يدخلها شوب، فانظر إلى الآية ففيها حذف مفعول فى أربعة مواضع، إذ المعنى وجد عليه أمة من الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، وقالتا لا نسقى غنمنا، فسقى لهما غنمهما، ثم إنه لا يخفى على ذى بصر أنه ليس فى ذلك كله إلا أن يترك ذكره، ويؤتى بالفعل مطلقا، وما ذاك إلا أن الغرض فى أن يعلم أنه كان من الناس فى تلك الحال سقى، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقى، فأما ما كان من المسقى أغنما أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض وموهم لخلافه، وذلك إنه لو قيل: وجد من دونهما امرأتين تذودان غنمهما جاز أنه لم ينكر الذود من
(46) دلائل الإعجاز ص 37.
(47)
سورة القصص: 23، 24.
غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود، كما أنك إذا قلت: مالك تمنع أخاك؟
كنت منكرا المنع لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول فى هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت، إلا لأن فى حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصح إلا على تركه». (48)
هذا التحليل لا يملكه إلا باحث ذوّاق مثل عبد القاهر، وقد جاء بعده من حاولوا أن ينهجوا فى الحديث عن أبواب المعانى من حذف وذكر وتقديم وتأخير وغيرها، لكنهم لم يرزقوا موهبته، فكتبوا كثيرا مما اعترض عليه، هذه ناحية.
- أما الناحية الثانية فإن الاهتمام بالآية والآيتين كلمات وحروفا؛ دون نظر إلى الموضوع جميعه، والارتباط الوثيق بين الآيات المتصلة؛ جعل النظر جزئيا لا كليّا، وقد آن لنا أن ننظر إلى النص باعتباره وحدة متماسكة دون أن نقتصر على الجملة والجملتين، والآية والآيتين.
- وأبرز من اهتدى إلى طريقة الجرجانى هو: الزمخشرى فى (كشافه) مع الفرق بين أسلوب الأديب وترسّله عند عبد القاهر، وأسلوب العالم ودقّته- ولا أقول كزازته- عند الزمخشرى، على نحو ما سأشير إليه الآن.
الزمخشرى: إذا كان عبد القاهر قد اختار من آيات الكتاب المبين ما يكشف عن منحاه البيانى، ويخدم قضية الإعجاز التى سمّى كتابه بها، فإن الزمخشرى قد فسّر القرآن كله آية آية ليسير فى ضوء عبد القاهر وإن لم يعترف بذلك فلم يذكر اسمه صريحا بين أسماء من حشرهم فى مقدمة الكتاب، وقد اكتفى بإشارة بعيدة إلى بيت شعر قاله، والعجب أن يشير إليه شاعرا دون أن يشير إليه فاتحا أهم ميادين البيان! وهذا يتطلب التعليل ..
نعرف أن الزمخشرى كان معتزليّا، وقد بذل جهده فى تعضيد مذهبه، حين تعرض لتفسير الآيات المتصلة بعلم الكلام وقد مثّلت لذلك فيما كتبته عنه فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) وأرى من ضيق المقام أن أتجاوز ذلك إلى نقول تدلّ على حسن ذوقه، وقوة استشفافه البيانى مع ما تدل عليه من منهجه الأسلوبى إذ جعل التقرير البيانى فى هيئة سؤال وجواب كأن يقول فإن قلت
…
،
قلت. وهى طريقة لا ينفسح معها مجال الإشباع الأدبى، كما اتسع أمام عبد القاهر.
ومما نختاره من دلائل نفاذه فى التفسير البيانى، ما ذكره فى تأويل قول الله عز وجل:
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
(48) دلائل الإعجاز ص 125.
فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (49) حيث قال:
ثم يكر الزمخشرى على رأى ذائع فينقضه بقوله: «هلّا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا» قلت: إن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف بحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن الأمر به حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض، يقال: أمرته فقام وأمرته فقرأ، فلا يفهم منه إلا أن المراد به قيام وقراءة، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب» (51)، ثم يفيض المفسر الكبير فيما يؤيد رأيه؛ ذاكرا من الأمثلة ما يدل على مهارة واقتدار، فإن كان طابع المنطق يطغى على عبارته، ولو تجاوز هذا الطابع الجدلى الصارم لكان كلامه نمطا من التفسير البيانى يقارب نمط الشريف وعبد القاهر، فيخرج من هذه الحدود إلى فضاء فسيح، وإذا كان الزمخشرى لم ينس نصيب النحو فيما تصدّى له من تفسير آيات الكتاب المبين فإن نصيب البيان قد تجلى بوضوح سافر فى أكثر ما كتب؛ مما يكشف لبعض الدقائق الخافية فى أسرار التأويل، وأمثّل لذلك بما ذكره فى تفسير قول الله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (52).
قال: اقشعرّ الجلد إذا تقبّض تقبّضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع، وهو الأديم اليابس مضموما إليه حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيّا ودالا على معنى زائد يقال:
اقشعر جلده من الخوف، وقفّ شعره وهو مثل فى شدة التخويف، فيجوز أن يريد به الله تعالى التمثيل تصويرا لإفراط خشيتهم.
وأن يريد به التحقيق» (53)، ولم أجد من خص كلمة قشع بهذا التحليل قبل الزمخشرى، وهو مما يدل على شدة إحساسه بمعانى الحروف قبل إحساسه بمعانى الكلمات.
ونظير ذلك ما ذكره من الفرق بين مرضع ومرضعة عند تفسيره لقول الله عز وجل:
(49) سورة الإسراء: 16.
(50)
تفسير الكشاف- الطبعة الأولى، طبعة مصطفى محمد سنة 1354 هـ، فى سورة الإسراء.
(51)
الكشاف الموضع السابق رقما وسورة.
(52)
سورة الزمر: 23.
(53)
تفسير الكشاف، الزمر.
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها (54) حيث قال:
ومن دقائق ما التفت إليه الزمخشرى ما ذكره عن تفسير قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا (56). حيث قال:
«فإن قلت: أى فرق بين (وظنوا أن حصونهم تمنعهم) وبين النظم الذى جاء عليه؟ قلت:
فى تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها، ومنعها إياهم، وفى تصيير ضميرهم اسما وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم، أو يطمع فى منازلتهم، وليس ذلك فى قوله:«وظنوا أن حصونهم تمنعهم» . (57)
هذه لفتات أدبية رائعة تصور إحساس الزمخشرى بالإعجاز القرآنى فى كل منحى من مناحيه، كلمة أو جملة أو تقديما أو تأخيرا، وقد ظهرت مؤلفات خاصة بتفسير الكشاف وضحت هذه المعانى بما لا مزيد عنه، ولو امتد هذا الإحساس الأدبى لدى الذين نقلوا عنه من المفسرين، لواصلوا السير على نمطه، ولكن كلّ ميسر لما خلق له.
وحسبه أنه أعطى فأجزل العطاء.
تراجع: كان انتهاء القرن الخامس الهجرى مؤذنا بتراجع ملموس فى النشاط الابتكارى بالدراسات العلمية والإبداع الأدبى معا، وقد شمل ذلك دراسات الإعجاز القرآنى حيث لم تعد مدّا متواصلا يحفل بالجديد، بل وقفت إلى ما انتهى إليه السابقون، وزادت عليه أن غمرتها الخصائص المنطقية، وكان الفخر الرازى أول من انتقل بها من مجالها البيانى إلى تقسيمات المناطقة، حين ألف كتابه (نهاية الإعجاز فى دراية الإيجاز)، فاستعان بالمنطق فى تشعيب المسائل وتفريعها، والإحاطة بالأصول والفروع غير ملتفت إلى جمال النص وروعة الأسلوب، بل أصبحت القواعد الجافة، مجال تأملاته وموضع اهتمامه، وكأنه يكتب عن فلسفة ومنطق ونحو وصرف لا عن بيان
(54) سورة الحج: 2.
(55)
تفسير الكشاف، سورة الحج.
(56)
سورة الحشر: 2.
(57)
تفسير الكشاف، الحشر.
وذوق وفن، وهذا أيضا نهجه فى التفسير الشهير الذى حاز الصيت البعيد، إذ حفل بثمار الثقافة الإسلامية فى عصره منطقا وأصولا وفلسفة وتوحيدا وجدلا لتكون هذه الثمار أدوات لتوجيه الاعتراض ودفعه، فتحول التفسير إلى دائرة معارف علمية. ثم جاء البيضاوى فاقتبس منه طريقته مع إيجاز بالغ دعا كثيرا من المؤلفين إلى كتابة الحواشى على تفسيره ليذكروا أكثر ما قرره الرازى! وهكذا لم يجد الإعجاز من أصحاب الذوق البيانى فى هذا الخضم المتسع من يأخذ بناصره؛ لأن السكاكى قد تصدر للتأليف فى علوم اللسان ومنها علم البلاغة فقعّد القواعد، واهتم بالفروع، وقد قرأ كتاب عبد القاهر وانتفع به، ولكنه لم يمض فى منحاه الأسلوبى، بل جعل ما بسطه الجرجانى مقننا فى تعريفات وأقسام جنت على النص الأدبى، وقد ظهر فى هذا العصر من استطاع أن يتجافى طريقة الرازى فى الشرح البيانى وهو ابن أبى الأصبع ت 654 هـ حيث قصر كتابه الكبير «بديع القرآن» على ما استحسنه من مظاهر الألوان البلاغية من استعارة وتشبيه ومجاز وطباق وتجنيس وتورية وكناية وتعريض واختراع أسماء أخرى لم تكن من قبل حتى عدّ من ألوان البديع مائة وتسعة كان من الممكن أن تتداخل فلا تتسع إلى هذا الأمد، وقد كان ابن أبى الأصبع أديبا شاعرا ولكنه نشأ فى عصر التقليد فلم ينج من أوهاقه، وكانت ضروب البديع مهوى الشعراء والباحثين فى النقد الأدبى فاختصها باحتفاله وجعل من آيات الذكر الحكيم مجالا لتطبيقها على هذا النحو الفسيح حتى عد هذه المحسنات مع ما يتصل بها من فنون المجاز والكناية والتشبيه والاستعارة من دلائل الإعجاز القرآنى، ومن أبرز سماته.
ومن المدهش أنه ذكر فى مقدمة كتابه:
إعجاز القرآن للباقلانى ودلائل الإعجاز لعبد القاهر وتفسير الكشاف وغيرها من الكتب التى خالفت نهجه فى التأليف، ونقل منها فى أكثر من موضع، واستراح إلى مضمونها ولم يمنعه ذلك من الإغراق فى التماس البديعيات والمحسنات التماسا مفرطا قد يدعو إلى الملال، وكان الأحرى به وقد درس كتب السابقين من هؤلاء الأفذاذ ألا يتنكب طريقهم المتزن؟ فى تناول ألوان البيان.
على أنه قليلا ما كان يسمح لخاطره بالتعبير المتسع فى تحليل بعض الآيات فيأتى بما كنا نود أن يستمر عليه فى التأليف، ومن ذلك ما كتبه عن قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (58) حيث قال- بتصرف قليل:
(58) سورة الحج: 73.
فهذا التحليل رصين فى موضوعه، قلق فى صياغته إذا قورنت بصياغة الشريف الرضى وعبد القاهر، ولكنه يسير فى طريقهما فحسب وليته واصل المسير.
ولا ننكر ما امتلأت به كتب المتأخرين مثل الزركشى والسيوطى والبقاعى من أحاديث متناثرة عن الإعجاز القرآنى؛ بل إن السيوطى ألف كتابا مستقلا عن الإعجاز ولكنه ترديد لما يقال ونسج على منوال مشتهر لم يضف جديدا. حتى ليجوز لنا أن نقول: إن العصر المملوكى والعصر العثمانى لم يأت من علمائهما من حاول اللحاق
بالسابقين طرافة ومنهجا واستشفافا حتى جاء العصر الحديث، فنفح القراء بما يروق ويفيد، وما كتبه الأندلسيون فى تفسير الكتاب، مثل ابن عطية وابن العربى، جيد فى بابه، ولكنه لا يضيف الجديد.
أ. د/ محمد رجب البيومى
(59) بديع القرآن. لابن أبى الأصبع، ص 340 - الطبعة الأولى- بتحقيق الدكتور حفنى شرف.