الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقولهم، فلا غنى لك إذا أردت أن تعطى كلتا الطائفتين حظها من كمال بيانك أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى، فأما أنّ جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على قياس عقله، وعلى وفق حاجته، فذلك ما لا تجده إلا فى كتاب الله.
أما الخاصية الرابعة، فهى (القصد فى اللفظ والوفاء بحق المعنى) فقد جلاها الدكتور أحسن تجلية واستشهد لها بآيات كريمة أحسن تحليلها وإيضاح مراميها، ولا يحسن تلخيص ما جاء به هنا، لأنّه يطفئ من نور الكتاب إذا أوجز واختصر، فليرجع القارئ إليه.
ولا بدّ من كلمة أقولها هى أن الدكتور رحمه الله مبتكر مبدع فى أكثر ما انتحاه من التحليل، وبذلك أضاف كتابه ثروة طريفة للدراسات القرآنية الجادة، ثم هو بذلك يعطى المثل لمن يريد أن يبحث وجوها من الإعجاز القرآنى، إذ لا يقتصر على الترديد، بل يحاول أن يأتى بالجديد.
سيد قطب:
احتفل الشهيد سيد قطب بكتاب الله احتفالا تجلّى فى موسوعة (فى ظلال القرآن) وقد تواضع فذكر أنه يعيش فى الظلال فحسب، أى أنه لم يقدم تفسيرا يتجاوز الظلال إلى الأعماق، وهذا غير ما يحسّه قارئ الظلال، فقد كتبه الأستاذ بفكره وشعوره معا، شعوره المتقد بما نزل بالمسلمين من محن فى عهودهم الأخيرة، وفكره الوثّاب المشرئب لآفاق فسيحة يحلق فيها بقوته الخارقة.
وسأتجاوز كتاب الظلال فى حديث الإعجاز إلى كتاب (التصوير الفنى فى القرآن) لأنه ذو تنظير قاعدىّ يلتفت إلى جهات الإعجاز كما تصوّره، وهو يشترك مع الدكتور محمد عبد الله دراز فى شىء ملحوظ: هو أنّ كليهما يعتمد على ذهنه وروحه وإحساسه قبل أن يعتمد على مقررات الإعجاز فى الكتب السابقة، فالجديد الطريف لديهما
كثير.
تحدّث الأستاذ الشهيد عن تأثير القرآن فى نفسه وهو طفل صغير إذ أخذ فى مكتب القرية يحسّ بروعة تملك عليه أقطار نفسه
دون أن يدرك سرها، ونما هذا الإحساس فى نفسه كما تنمو البذرة الجيدة فى الأرض الطيبة، حتى إذا درس فنون النقد الأدبى فيما بعد، راجع كتاب الله فرأى من فنون الإعجاز ما لم يحم حوله أحد من السابقين، وهو التصوير الفنى للقرآن، وقد شرح وجهة نظره فى ذلك فقال:
وقد وفّى الشهيد- رحمه الله بما وعد، والاستشهاد الكامل متعذر هنا، ولكنّنا ننقل مثلا تطبيقيا لسورة من قصار السور، التى ربما حسبها البعض سجعا مرصوفا، وهى سورة الفلق، إذ قال عنها المؤلف:
ما الجو المراد إطلاقه هنا؟ إنه جو التعويذة بما فيه من خفاء وهيمنة، وغموض وإبهام، فاسمع: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)(20) فما الفلق الذى يستعيذ بربه؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر لأنه أنسب فى الاستعاذة من ظلام ما سيأتى، ممّا خلق، ومن الغاسق، ومن النفاثات فى العقد، ومن شر حاسد إذا
(19) التصوير الفنى فى القرآن، الطبعة الأولى، دار المعارف سنة 1944 م.
(20)
سورة الفلق بأكملها من 1 - 5.
حسد، ولأن فيه إبهاما خاصا ستعلم حكمته بعد قليل، يعوذ برب الفلق من شر ما خلق، هكذا بالتنكير وبما الموصولة الشاملة، وفى هذا التنكير والشمول، يتحقق الغموض، والظلام المعنوى فى العموم، «ومن شر غاسق إذا وقب» ، الليل حين يدخل إلى كلّ شىء وحين يمسى مخوفا مرهوبا، «ومن شر النفاثات فى العقد» ، وجوّ النفث فى العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام، بل هنّ لا ينفثن غالبا إلا فى الظلام، «ومن شر حاسد إذا حسد» ، والحسد انفعال باطنى مغمور فى ظلام النفس، غامض مرهوب كذلك، فالجوّ كله رهبة وغموض، وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله، والله رب كل شىء، فلماذا خصصه بالفلق، لينسجم مع جو الصورة كلها، ويشترك فيه، وكان المتبادر للذهن أن يعوذ من الظلام برب النور، ولكنّ الذهن ليس هنا المحكّم- إنما المحكم هنا آلة التصوير الدقيقة فالنور يكشف الغموض المرهوب، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث فى العقد، ولا مع جو الحسد، والفلق يؤدى معنى النور من الوجهة الذهنية، ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية، التى تجمع بين النور والظلمة، ولها جوّها الغامض المسحور.
ثم ما أجزاء الصورة هنا؟ أو محتويات المشهد، هى من ناحية الفلق والغسق مشهدان من مشاهد الطبيعة، ومن ناحية النفاثات فى العقد والحاسد إذا حسد مخلوقان آدميّان
…
فالجو قائم على أساس من هذه الوحدة فى الأجزاء والألوان، وليس فى هذا البيان شىء من التمحل، وليست هذه الدقة بلا هدف، وليس الهدف حلية عابرة، فالمسألة ليست مسألة ألفاظ، أو تقابلات ذهنية، وإنما هى مسألة لوحة وجو وتنسيق، وتعاملات تصويرية تعدّ فنا رفيعا من التصوير يلفت النظر إذا أداه مجرد التعبير (21).
هذا النص يدل على كثير غيره، بل هناك ما هو أجود منه فى التحليل الأدبى وبخاصة فيما كتبه الأستاذ عن القصة القرآنية فقد جاء كلامه رائعا فائقا غير مسبوق.
ومما أخذ على الأستاذ أنه اعتبر الأداء الوجدانى هو سرّ الإبداع فى الإعجاز، وقد عارضه الأستاذ عبد المنعم خلاف فوضّح أن المنطق العقلى جناح آخر للإعجاز، وهذا ما وافق عليه الأستاذ قطب مؤكدا أنه لم يغفل جانب المنطق، ولكن هذا الجانب لا يأتى جافا كما فى كتب العلوم بل يضيء بشعاع التصوير الأدبى فلا خلاف (22) وقد ظهر هذا الاتجاه
(21) التصوير الفنى: 44.
(22)
مجلة الرسالة العددان 617، 620.
فيما كتبه الأستاذ قطب فى «ظلال القرآن» حيث فسح المجال للمنطق العقلى والمنطق الوجدانى معا فكانا أداتى الإقناع والإمتاع فى كتاب الله العزيز.
(وبعد) فهذه صور من الإعجاز القرآنى فى الفكر العربى الحديث تضاف إلى ما سبقت الإشارة إليه من صور الإعجاز فى الفكر العربى القديم (وفى حدود هذه الصفحات لم ألم بكل ما قيل، ولكنّى اكتفيت بما كانت له جدواه الحقيقية عند الدارسين مقدرا ما كتبه غير هؤلاء من أفاضل الباحثين فهو قوى رائع فى بابه، وقد يأتى من يتناول كل ما قيل فى مجلد مستقل، فالحقل العلمى حافل بكرام الباحثين).
أ. د. محمد رجب البيومى
مراجع البحث، وفق ورودها:(1) البيان القرآنى للدكتور محمد رجب البيومى- الدار المصرية اللبنانية للنشر 2000 م.
(2)
إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعى- الطبعة السادسة- سنة 1956 - مطبعة الاستقلال.
(3)
رسائل الجاحظ بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون- مكتبة الخانجى سنة 1979.
(4)
البيان والتبيين بتحقيق الأستاذ حسن السندوبى- مطبعة مصطفى محمد التجارية.
(5)
كتاب الحيوان بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون- ط 3 سنة 1969 طبعة بيروت.
(6)
خطوات التفسير البيانى للدكتور محمد رجب البيومى (سلسلة مجمع البحوث الإسلامية) سنة 1971 م.
(7)
ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن- تحقيق محمد خلف الله أحمد، ومحمد زغلول سلام- ط دار المعارف 1962 م.
(8)
البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف- ط دار المعارف سنة 1965.
(9)
إعجاز القرآن للباقلانى- تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى الطبعة الأولى مطبعة صبيح.
(10)
أمالي المرتضى- الطبعة الأولى- دون تاريخ طبعة هندية.
(11)
تلخيص البيان فى مجاز القرآن- للشريف الرضى- تحقيق محمد عبد الغنى حسن- مطبعة عيسى الحلبى سنة 1955 م.
(12)
دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجانى- تحقيق السيد محمد رشيد رضا مطبعة المنار سنة 1967 م- ط رابعة.
(13)
تفسير الكشاف- الطبعة الأولى- سنة 1354 هـ- طبعة مصطفى محمد.
(14)
بديع القرآن لابن أبى الإصبع- الطبعة الأولى تحقيق الدكتور حفنى شرف.
(15)
دائرة معارف القرن العشرين- الطبعة الأولى جزء (7) للعلامة محمد فريد وجدى- مطبعة دار المعارف.
(16)
زهرات منثورة فى الأدب العربى للأستاذ عبد الله عفيفى مطبعة مصطفى الحلبى سنة 1932 م.
(17)
الأدب العربى وتاريخه ج (1) للأستاذ محمود مصطفى- مطبعة عيسى البابى الحلبى سنة 1944.
(18)
النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز الطبعة الأولى سنة 1957 م.
(19)
التصوير الفنى للقرآن للأستاذ سيد قطب- ط دار المعارف سنة 1944 م.