الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذلك أدّى غياب هذا التمييز الواضح بين نوعى المعجزة إلى الخلط أحيانا بين الإعجاز العلمى الذى يقصد به سبق القرآن الكريم إلى الإخبار بحقيقة كونية قبل أن يكتشفها العلم التجريبى، وبين «التفسير العلمى للقرآن الكريم» الذى يراد به الكشف عن معان جديدة للآية القرآنية، أو الحديث النبوى، فى ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية، دون إسراف فى التأويل، بمعنى أن تكون هذه العلوم فى خدمة تفسير القرآن والسنة مثلما خدمته علوم اللغة والأصول والفقه وغيرها من مجالات العلوم الشرعية.
وكان طبيعيا أن يظهر فى مجال الدراسات الإسلامية مبحث خاص من مباحث علوم القرآن يعنى بدراسة الآيات الكونية فى إطار من توافق الحقائق العلمية مع ما أنبأ به القرآن أو أشار إليه، سواء كان غرض هذه الدراسة هو الكشف عن أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم فى بيان حكم التوجيهات الإلهية فيما يتعلق بالحلال من الطيبات والحرام من الخبائث والمحرمات، أو كشف وجوه الهداية القرآنية فى آفاق النفس والكون بصورة عامة.
*
الترقى فى فهم الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:
لقد شاءت حكمة الله- تعالى- أن يكون إرشاد الناس وهدايتهم بوسائل متنوعة، وهو- سبحانه وتعالى خبير بعباده، فهو تارة يخاطبهم بما يمس قلوبهم مسا رقيقا رفيقا، وهو تارة أخرى يقرع عقولهم قرعا قويا شديدا، وكان من أبرز ما جلى به أبصارهم وأنار بصائرهم حضّه إياهم على التدبر فى آيات خلقه. وهذا ما شجع العلماء الذين يرون فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم لونا من التفسير فيه فتح جديد وتجديد فى طريق الدعوة إلى الله وهداية الناس إلى دين الله.
ولما كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التى أيد الله بها رسوله محمدا- صلى الله عليه وسلم لتبقى بين أيدى الناس إلى قيام الساعة، مصداقا لقوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (8)، فقد ظهرت مباحث فى علوم القرآن تعنى بجوانب الإعجاز القرآنى البلاغية والتشريعية والتربوية والعلمية وغيرها. وفى بيان المعجزة العلمية من حيث طبيعتها الباقية بين يدى الناس، وتجددها مع كل كشف بشرى فى ميادين العلوم، وكذلك فى المعارف ذات الصلة بمعانى الوحى الإلهى، يقول الله تعالى:
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (9).
وجاء فى تفسير هذه الآية الكريمة: أنزله
(8) سورة الأنعام: 19.
(9)
سورة النساء: 166.
بعلمه: أى فيه علمه الذى أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب، من الماضى والمستقبل (10).
كذلك وعدنا الحق جل وعلا بأن يرينا آياته، فيتحقق لنا العلم الدقيق بها، وذلك فى قوله عز وجل: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها (11)، وقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (12). ومن آيات الله فى الآفاق وفى الأنفس كل مخلوقاته التى خلقها فى شتى آفاق الأرض والسماء، مصداقا لقوله تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ (13).
والقرآن الكريم حافل بذكر آيات الله فى خلقه متخذا من التفكير فيها مدخلا رحيبا إلى الإيمان الخالص بالله عن طريق الاستشعار بوحدانيته سبحانه وبقدرته وبديع صنعه. ويتخذ القرآن الكريم أساليب بلاغية متنوعة فى الدعوة إلى النظر فى آيات الله والاحتفال بذكر السموات والأرض، والشمس والقمر ومنازله، والمشارق والمغارب، والبروج والنجوم والكواكب، والليل والنهار والفجر والغسق، والظلمات والضياء والنور، والبحار والأنهار والعيون، والرياح اللواقح، والسحاب الثقال والمركوم والمنبسط، والبرق والرعد والمطر، والجبال الراسيات والجدد البيض والحمر والغرابيب السود، والأرض الهامدة والأرض المهتزة الرابية، والجنات والنخيل والأعناب والتين والزيتون، والطلح والسدر واليقطين، والنمل والنحل والبعوضة والعنكبوت، والطير الصافات، والإبل والخيل والأنعام، واللبن يخرج من بين الفرث والدم، والشراب الشافى يخرج من بطون النحل، وخلق الإنسان من تراب ومن ماء مهين، وتطوره فى ظلمات الرحم خلقا من بعد خلق، وشفتيه ولسانه وسمعه وبصره وفؤاده، وإخراج الحى من الميت والميت من الحى
…
وهذه كلها أمثله قليلة بعيدة عن تمام الحصر مما يوجهه القرآن الكريم لأولى الألباب الذين يعقلون ويتفكرون ويتدبرون.
ومن يتأمل الخطاب القرآنى فى الدعوة إلى النظر فى آيات الله؛ يجد أنه ينزل فى نفوس المؤمنين منزلة الأمر، فالمسألة عندهم إذن مسألة فريضة وتكليف (14)، لكن من البديهى أن يتفاوت هذا التكليف بالنظر فى آيات الله من مؤمن إلى مؤمن، ومن قارئ إلى قارئ، إذ أن نظرهم هذا يتفاوت بتفاوت استعدادهم ومقدرة إدراكهم وحصيلة معارفهم، فالسماوات مثلا آيات رائعة معجزة عند الأمىّ وعند عالم الفلك المتخصص على
(10) مختصر تفسير ابن كثير، المجلد الأول ص 466.
(11)
سورة النمل: 93.
(12)
سورة فصلت: 53.
(13)
سورة الشورى: 29.
(14)
عبد الحافظ حلمى محمد، العلوم البيولوجية فى خدمة تفسير القرآن الكريم، مجلة عالم الفكر المجلد الثانى عشر، العدد الرابع، الكويت 1982 م.
السواء، وإن كان العالم أقدر على الإحاطة بجلال الإعجاز فى خلقها، ومن ثمّ كانت خشيته العميقة لخالقها مصداقا لقوله تعالى:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (15).
فمن هنا كان النظر الفطرى البسيط والنظر العلمى المتأمل العميق، وكلاهما مطلوب ومشروع ومفيد.
وهذا سر من أسرار بلاغة القرآن، بيد أن التعمق بالبحث العلمى السليم لا يتوافر إلا للقادرين عليه والمؤهلين له، فهو إذن فرض كفاية عليهم، كما أنهم مكلفون أيضا بتبصرة غيرهم بما انتهى إليه نظرهم، فقد أمرنا أن نتعلم ونعلم، ونهينا عن كتمان العلم.
والناس يتفاوتون فى فهمهم للقرآن بحسب درجاتهم وأحوالهم واستطاعتهم، وهم فى عصرنا أحوج من أى عصر مضى إلى أن يتعلموا من مأدبته ما استطاعوا، وأن يفيدوا من كنوزه وأسراره فى إصلاح دنياهم والفوز بنعيم أخراهم. يقول الراغب الأصفهانى فى كتابه «مقدمة التفسير»: ثم إن القرآن- وإن كان فى الحقيقة هداية للبرية- فإنهم لن يتساووا فى معرفته، وإنما يحظون به بحسب درجاتهم واختلاف أحوالهم، فالبلغاء تعرف من فصاحته، والفقهاء من أحكامه، والمتكلمون من براهينه
العقلية، وأهل الآثار من قصصه ما يجهله غير المتخصص بفنه. وقد علم أن الإنسان بقدر ما يكتسب من قوته فى العلم تتزايد معرفته بغوامض معانيه .. (16). وأهل الاختصاص فى فروع العلوم- بطبيعة الحال- ليسوا بدعا بين هؤلاء الذين ذكرهم الأصفهانى، فكل ما يساعد من حقائق العلم على تعميق فهمنا لمعانى القرآن الكريم وتعاليمه وأحكامه، هو ما يجب الأخذ به. وكم فى القرآن الكريم من آية إذا مستها يد العلم أبانت أسرارها وأظهرت إعجازها. ذلك أن القرآن الكريم له أسلوبه الحكيم فى الدلالة على آيات الله فى الكون، والهداية التى جاء أصلا من أجلها تقتضى ألا يخاطب الناس عن الكون بما ينكرون، أو بما يستعصى على أفهامهم، فيقوم ذلك حجابا بينهم وبين قبول دعوته، وحاملا على التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.
كذلك تقتضى الهداية القرآنية ألا يوافق القرآن الناس على باطل معتقداتهم الكونية فى عصر نزول الوحى به، فيقوم ذلك حائلا دون قبول دعوته فى عصور التقدم العلمى والتقنى التى علم منزّل القرآن أنها ستكون.
وتجنب هذين العائقين عن قبول هداية القرآن هو من بدائع إعجاز أسلوبه ومن أكبر الدلائل على أنه حقا من عند الله فاطر الناس وفاطر الكون.
(15) سورة فاطر: 28.
(16)
عن: د. أحمد الشرباصى، قصة التفسير، دار القلم، القاهرة، 1962 م. راجع: د. عبد الحافظ حلمى محمد، مرجع سابق.
وينبغى الترقى فى فهم آيات القرآن والكون إلى درجة الفقه حتى ندرك الحكمة وراء إعجازها، ونبلغ نهاية درجة الإحسان فى قراءة الكتابين: المسطور والمنظور. أما نهاية الإحسان فى قراءة آيات القرآن فتعنى تجاوز حدود الأصوات والألفاظ، واختراق حاجز الزمان والمكان، وصولا إلى الاستمتاع من المتكلم الأزلى جل جلاله. فالنفس الشفافة، والإحساس المرهف، لهما أثر جلىّ فى قراءة القرآن، أو الاستماع إليه، وبذلك تتجلى أنوار القرآن على قلب القارئ أو السامع. ولهذا كانت نصيحة العارفين:«اقرأ القرآن كأنه يتنزل عليك» .
وأما نهاية الإحسان فى قراءة آيات الكون- كتاب الله المنظور- فتعنى تجاوز حدود البحث العلمى الآلى، بعناصره ووسائله وأدواته. واختراقه عالم النظريات والقوانين العلمية بصياغاتها اللفظية، وصولا إلى إدراك أنه كل علم من العلوم الباحثة فى ظواهر الكون والحياة، هو فى حقيقته علم يبحث بلغته الخاصة عن الله خالق الكون والحياة، ويستند فى غاية منتهاه إلى اسم من أسماء الله الحسنى .. فعلوم الطب والصيدلة تصل إلى كمالها بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم «الشافى» فى كل حبة دواء. وعلوم الفيزياء والفلك والكيمياء والنبات والحيوان تبحث فى حقيقة الموجودات باستنادها إلى ما يناسبها من أسماء العليم الحكيم القادر المقدر الذى أوجد هذا العالم على أعلى درجة من الترتيب والنظام والكمال والجمال. وبهذا تكون العلوم فى حقيقتها غير مقصودة لذاتها، وإنما هى ضرورات حيوية وحاجات معرفية وعقلية تحيط الهداية الإيمانية بأبعاد جديدة، وترى فى كل مشهد كونى آية ناطقة بقدرة الخالق ووحدانيته، ومظهرا معبرا من مظاهر تجليات أفعال الله تعالى وأسمائه الحسنى.
ولا شك أن البحث فى الإعجاز العلمى لآيات القرآن الكريم على هدى وبصيرة يؤتى ثماره الحقيقية ببلوغ نهاية الإحسان على سلم الترقى فى فهم آيات الله المنبثة فى القرآن الكريم، وفى جنبات الكون الفسيح، وفى أسرار النفس البشرية وباقى الموجودات.
كما أن ارتقاء العلوم الحديثة ونجاحاتها فى استكشاف حقائق جديدة عن الكون من العوامل التى ساعدت على الاجتهاد فى تسخير العلم الكونى لتجلية معان جديدة لآيات القرآن الكريم، شريطة أن يكون الاجتهاد فى ذلك المجال وفق منهاج رصين محدد ينبغى الالتزام به فى ضوء ما هو معروف عن معنى الحقيقة العلمية وحدودها.