الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل
الفصل فى اللغة القطع والتنحية والتفريق بين الأشياء (1) أما عند البلاغيين فهو فن من فنون علم المعانى خاص بالعلاقات بين بعض الجمل، وله نظير يقابله فى الدرس البلاغى هو «الوصل» وتعتمد فكرتا الفصل والوصل على عطف جملة، على أخرى ب «الواو» خاصة من دون حروف العطف الأخرى، كالفاء وثم وبل، أو ترك هذا العطف.
وقد عرفهما البلاغيون تعريفا واحدا جامعا بين الفصل والوصل، فقالوا.
«الوصل هو عطف جملة على أخرى بالواو، والفصل هو ترك ذلك العطف» (2).
وكان الإمام عبد القاهر الجرجانى هو أول من أفاض فى الحديث عن هذا الفن، ووضع دقائق أصوله وفروعه ولم يترك لمن جاء بعده كبير مجال فيه، إلا بعض إضافات خفيفة لا تخرج عن الأصول التى وضعها هو رحمه الله (3) ثم نهج الإمام السكاكى منهج الإمام عبد القاهر فى هذا الدرس (4) وتابعهما الخطيب القزوينى (5).
ثم شراح تلخيصه من بعده (6).
وهذا البحث (الفصل) خاص بالجمل التى ليس لها محل من الإعراب، مثل الجملة الابتدائية، وجملة صلة الموصول، والجملة الواقعة جوابا لشرط غير جازم.
ويجب فصل الجملة الثانية عن الأولى فى الحالات الآتية، التى وضع البلاغيون لها ضوابط على النحو التالى:
كمال الانقطاع: فكل جملتين بينهما كمال الانقطاع يجب فصل الثانية منهما عن الأولى، فلا تعطف عليها بالواو، لأن الواو يقتضى العطف بها أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه تناسب، ولا تناسب مع كمال الانقطاع.
ويتحقق كمال الانقطاع بين الجملتين إذا اختلفتا فى الخبرية والإنشائية لفظا ومعنى أو معنى فقط. وقد مثل البلاغيون لهذه العلاقة من غير القرآن بقول الشاعر:
وقال رائدهم ارسوا نزاولها
…
فكل حتف امرئ يجرى بمقدار (7)
والشاهد فيه فصل جملة «نزاولها» ؛ لأنها جملة خبرية لفظا ومعنى، عن جملة «ارسوا» ؛ لأنها جملة إنشائية لفظا ومعنى.
(1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: فصل.
(2)
الإيضاح (148).
(3)
دلائل الإعجاز (222 - 244).
(4)
مفتاح العلوم (120).
(5)
الإيضاح (147).
(6)
شروح التلخيص (3/ 2) المطول (247) الأطول (2/ 2).
(7)
البيت للأخطل، انظر الإيضاح (150) المصباح (31).
أما الاختلاف بين الجملتين فى الخبرية معنى فحسب، فقد مثلوا له بقولهم.
«مات فلان رحمه الله» فالجملة الأولى «مات فلان» خبرية لفظا ومعنى والجملة الثانية «رحمه الله» خبرية لفظا إنشائية معنى، لأنها فى قوة «اللهم ارحمه»
أما فى القرآن الكريم فمن أمثلته قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (8). فقد فصلت جملة إِنَّ شانِئَكَ عن جملة وَانْحَرْ لأن الأولى إنشائية لفظا ومعنى. والثانية خبرية لفظا ومعنى، فبين الجملتين كمال الانقطاع كما ترى.
ومثلهما قوله تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ (9).
فصلت جملة قُلْ بَلى وَرَبِّي عما قبلها قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لأن الأولى خبرية لفظا ومعنى، والثانية إنشائية لفظا ومعنى. فبين الجملتين كمال الانقطاع وهذا كثير جدا فى القرآن الكريم، ويأتى على صورتين.
* أن تكون الأولى إنشائية والثانية خبرية، كما تقدم فى سورة «الكوثر» .
* أن تكون الأولى خبرية، والثانية إنشائية، كما فى سورة «سبأ» .
هذا هو كمال الانقطاع الموجب لفصل الجملة الثانية عن الأولى والفصل هو ترك العطف بالواو خاصة كما تقدم.
* كمال الاتصال: ويتحقق كمال الاتصال بين الجملتين بعدة اعتبارات.
الأول: أن تنزّل الجملة الثانية منزلة البدل من الجملة الأولى، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (10)
فصلت جملة أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ عن جملة أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ لأن الجملة الثانية نزلت منزلة البدل مما قبلها. لأن معنى الجملتين واحد، غير أن معنى الأولى مجمل، ومعنى الثانية مفصل، فبين الجملتين كمال الاتصال كما ترى.
ويلاحظ أن جملة أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وما عطف عليها منزّلة منزلة بدل البعض من الكل، لأن إمداد الله للعباد أعم من الأنعام والبنين، والجنات والعيون.
والداعى البلاغى لهذا الإبدال هو إظهار الامتنان على المخاطبين، بذكر النعم مجملة فى الآية الأولى، ومفصلة بعض التفصيل فى الآية الثانية والثالثة.
وقد تكون الثانية منزلة من الأولى منزلة بدل الاشتمال ومثاله قوله تعالى:
(8) الكوثر (2 - 3).
(9)
سبأ (3).
(10)
الشعراء (132 - 134).
قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (11).
فصلت جملة اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً عن جملة قالَ يا قَوْمِ لأن بين الجملتين كمال الاتصال، لأن الأولى مشتملة على معنى الثانية، لأن المرسلين لا يسألون الناس أجرا على تبليغ الرسالة.
أو تكون الجملة الثانية بدل كل من كل، ويمكن التمثيل له من القرآن الكريم بقوله تعالى:
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (12).
لأن ما فى الجملتين الثانية والثالثة، هو الذى قاله الأولون ففصلت جملة قالُوا أَإِذا مِتْنا عن جملة بَلْ قالُوا لما بين الجملتين من كمال الاتصال؛ لتنزيل الثانية من الأولى منزلة بدل الكل من الكل.
ويلاحظ أن الجملة الثانية المفصولة فى كل ما تقدم أكثر وضوحا من الجملة الأولى.
هذا فى جمل كمال الاتصال دون كمال الانقطاع.
وقد يكون كمال الاتصال بين الجملتين بتنزيل الثانية منزلة، التوكيد مما قبلها، معنويا ولفظيا. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى:
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً (13).
فقوله تعالى وَلَّى مُسْتَكْبِراً توكيد لجملة كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها لأنها تؤكد نفى التأثير فى من تليت عليه آيات الله. فبين الجملتين كمال الاتصال؛ لأن الثانية نزّلت منزلة التوكيد المعنوى مما قبلها، لذلك فصلت عنها ولم تعطف عليها.
كما فصلت جملة كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً عن جملة كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها لأن بينهما كمال الاتصال، لأن الثانية نزّلت منزلة التوكيد مما قبلها.
* وقد يكون كمال الاتصال بين الجملتين بتنزيل الجملة الثانية منزلة عطف البيان مما قبلها (مفسرة) ومثاله فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (14).
فصلت جملة أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ عن جملة وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ لأن الجملة، الثانية نزّلت منزلة عطف البيان عما قبلها، (جملة تفسيرية) فبين الجملتين كمال الاتصال كما ترى.
ومثلها قوله تعالى:
(11) يس (20 - 21).
(12)
المؤمنون (80، 81، 82).
(13)
لقمان (7).
(14)
الحجر (66).
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (15).
فجملة قالَ يا آدَمُ بيان وتفسير لجملة فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ لذلك فصلت الثانية عن الأولى لأن بينهما كمال الاتصال، حيث كانت الثانية بيانا وتفسيرا للأولى.
وغير ذلك كثير فى كتاب الله العزيز.
* شبه كمال الاتصال: ويسمى:
الاستئناف البيانى وضابطه أن تنزّل الجملة الثانية منزلة جواب عن سؤال تضمنته الجملة الأولى. ومن أمثلته المستفيضة فى القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام.
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ .. (16).
فالجملة الأولى تضمنت سؤالا حاصله:
ولماذا لا تبرئ نفسك؟ فكان الجواب:
إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ففصلت هذه الجملة عن الجملة الأولى؛ لأن الثانية نزّلت منزلة جواب عن سؤال تضمنته الجملة الأولى، فبين الجملتين شبه كمال الاتصال، أو الاستئناف البيانى كما عرفت.
ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى:
قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ يحكى الله فى هذه الآية ما دار بين إبراهيم عليه السلام والملائكة حين دخلوا عليه.
وجملة قالَ سَلامٌ فصلت عما قبلها لأنها بمثابة جواب عن سؤال تضمنته الجملة الأولى:
ماذا قال إبراهيم فى رده على الملائكة؟
فكان الجواب: قالَ سَلامٌ فبين الجملتين شبه كمال الاتصال أو الاستئناف البيانى- لذلك فصلت الثانية عن الأولى. ويرى الإمام عبد القاهر الجرجانى أن كل جملة مفصولة بعد جملة «قال» فى القرآن هى جواب عن سؤال مقدر تضمنته الأولى (17)، وإذا صح هذا فإن الاستئناف البيانى فى القرآن أكثر صور الفصل فى القرآن الكريم.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(15) طه (120).
(16)
يوسف (23).
(17)
دلائل الإعجاز (238).