الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معجزة كما قال الرافعى ولكنّها إرهاص بالمعجزة التى تجلّت فى القرآن الكريم، كما عدّ الرافعى نهضة الأمة العربية بعد ضياعها فى العصر الجاهلى وامتداد دولها شرقا وغربا مظهرا من مظاهر الإعجاز القرآنى فى تربية النفوس، وحفز السلوك إلى المثل الأعلى، والإعجاز بهذه الفتوح لا يقف عند الجاهلين من أهل مكة لأنّهم لم يروا ما جدّ من الفتوح فيما بعد، ولكنه شهادة لدوام الإعجاز لدى الخلف بعد انقضاء عهد السلف.
وقد جاء من المؤلفين فى البيان القرآنى وإعجازه بعد وفاة الرافعى من ظهر فى نتاجهم العلمى أثر الإعجاز كما قرر الرافعى من قبل، فكان الرجل بذلك قائد كتيبة علمية وجهت نشاطها إلى حقل القرآن، وأحرزت فخار النصر ورجعت بالأسلاب، (وبعضهم- ولا أدرى لماذا- لم يشيروا إلى كتاب الرافعى الذى استقوا من نبعه وارتووا من مائه، ولو أشاروا إليه لكان ذلك أدلّ على منزعهم الخلقى قبل أن يدل على فهمهم لأصول البحث العلمى، إذ يتسمون بالأمانة العلمية، ولا أنتقل إلى محاولة من رأى أن يعارض الرافعى بعد أن استقى من نبعه، ليقول إنه غير متأثر به، وللقراء عقول تعرف انحرافات الأهواء، وتستّر الميول).
عبد الله عفيفى
كان الأستاذ عبد الله عفيفى من كبار أدباء عصره، وقد ألقى محاضرات على طلبة كلية الشريعة فى الأدب العربى، جمعها تحت عنوان (زهرات منثورة) وفيه خص القرآن الكريم والحديث النبوى بتحليل دقيق، وتعرّض لحديث الإعجاز القرآنى فبسطه بسطا شافيا، ننقل هنا خلاصته.
ذكر الأستاذ أوجها كثيرة للإعجاز فى مقدمتها هذه القوّة الروحية التى تسيطر على المشاعر، وتأخذ بالألباب، وهو مسبوق فى هذا الوجه بالأستاذ محمد فريد وجدى، وقد بسطنا القول فيه من قبل.
أما الوجه الثانى من الإعجاز فقد قال فيه: إنّ العرب لم يكونوا يحسنون من فنون النثر إلا الأسلوب الخطابى الذى يعتمد على التأثير فى النفس باللّفظ الفخم والقول المردد، ولكنهم لم يكونوا من كثير من الأسلوب المنطقى الذى ينتقل من المقدمات إلى النتائج، وينفذ من المعلوم إلى المجهول، أمّا الأسلوب العلمى الذى تساق فيه الحقائق العلمية من
أيسر السبل، وأقرب الموارد، فذلك لم يكونوا منه فى شىء، فجاء القرآن ليواجههم بالأسلوب المنطقى والأسلوب العلمى معا فى سلاسل مفرغة الحلقات، محكمة الصوغ، لا وهى بها، ولا انقطاع لها، فوقفهم بذلك بين شعاب متشابكة لا يستطيعون النفاذ إلى مكنونها (5).
وقد استشهد الأستاذ لذلك بالآيات الست الأولى من سورة الحج، وبيّن ما بها من أدلة عقلية، وأفكار علمية بيانا شافيا ثم قرنها بأفصح خطبة قيلت فى العصر الجاهلى
وهى خطبة قس بن ساعدة الأيادى التى يقول فيها: «ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا» ؛ ليؤكد أن الخطيب الجاهلى قد اعتمد على التأثير العاطفى وحده، أما آيات القرآن فقد جمعت العاطفة والعقل والعلم فى أسلوب سهل ميسور، وأزيد على ذلك بأنها جمعت من التصوير البيانى ما لم يعهد من قبل، ويتجلّى ذلك فى قوله عز وجل يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (6)
وبعد أن شرح الأستاذ الآيات شرحا أدبيا مصوّرا ما تتضمنه من تفوق البلاغة الرفيعة قال:
«هذا هو الأسلوب الخطابى الذى بلغ الغاية العليا بكل ما فى الخطابة من تأثير، فإذا ملأت منه يدك، وروّيت نفسك فاستمع حديث المنطق والعلم فى قوله جلّ شأنه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ (7) إلى آخر الآية، فقد ساق الله دليلين لا يقبلان الشك، فى الوجود بعد الهمود، والحياة بعد الممات، وفى الحالتين استحال التراب بما فيه من الحياة الكامنة، إلى خلق حى يزداد على الأيام نموا وسموا، فتأمل كيف كشف الله حجاب العلم فى قوله تعالى: مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ (8) فهو سبحانه وتعالى يسقط هذه المضغ من الأرحام، ليشرح للإنسان كيف كانت أوّليته، ففي هذه الآيات بسط لأدوار التكوين الإنسانى بما لا يمكن للعرب أن يأتوا بمثله، لأنّه أتاهم بعلم ما لا يعلمون، ومن الدقة البديعة فى الأسلوب
(5) زهرات منثورة فى الأدب العربى ص 52 للأستاذ عبد الله عفيفى- ط مصطفى الحلبى 1932.
(6)
الحج: 1، 2.
(7)
الحج: 5.
(8)
الحج: 5.
العلمى تعبيره عز وجل عن تضام ذرات الأرض المتشابهة، واختمارها بعد الحرث والبذر والرى، بقوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ (9) ثم انظر إلى ما وصل إليه المنطق من جمع الأدلة وسياق المدلول، أو تقديم الأمثلة وتأخير الدعوى فى قوله تعالى بعد أن ساق الدليلين المنطقيّين ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (10) وهذا كلّه وأشباهه ممّا لا قبل للعرب به، ولا طوق لهم بتحديه.
هذا لباب ما قاله الأستاذ عبد الله عفيفى، وكان له صدى بعيد بين الدارسين، وطبيعى أن يلقى معارضة من ذوى النقد فالآراء لا تستقرّ دون معارضة يتبعها التمحيص، وقد عارضه الأستاذ الكبير محمود مصطفى أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية فذكر أن العرب كانت تعرف هذين اللونين من الأسلوب المنطقى والأسلوب العلمى، والدليل على ذلك أنّهم لو كانوا يجهلونهما ما كان لهما وقع فى نفوسهم، لأن الناس أعداء ما جهلوا (11)، وقد ساق خطبة منحولة قيلت على لسان قبيصة بن نعيم حين وفد على كسرى، وألفاظ الخطبة وترتيبها يدلّ على إسلاميتها، وأنّ المعانى مما جاء به القرآن الكريم، هذا من ناحية، أما الناحية الأخرى فإنّ خطبة قبيصة المنحولة تخلو من الأسلوب العلمى الذى أشار إليه الأستاذ عبد الله عفيفى، فكيف يقال: إنّ العرب كانت تعرف هذين الأسلوبين، أما القول بأن العرب لو كانوا يجهلون هذا الأسلوب ما قبلوه فممّا لا يستقيم مع النظر الصحيح؛ لأنّ الجديد الطريف لا يرفض بداهة عند ذوى العقول.
وقد جاء عصرنا الحاضر بفنون من القول لم تكن معروفة فى الأدب العربى مثل الشعر التمثيلى، فلاقت الترحيب المشجّع، وما زال الجديد يفد كلّ يوم بثماره المشتهاة.
أما الوجه الثالث من وجوه الإعجاز عند الأستاذ عبد الله عفيفى فهو الإفاضة فيما كان يجهله العرب من أحداث التاريخ من قبل ومن بعد، فأخبار الأمم السابقة لم تكن معروفة لدى العرب، وقد قال الله عز وجل تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا (12) ولو
(9) الحج: 5.
(10)
الحج: 6، 7.
(11)
الأدب العرب وتاريخه ج (1) ص 42 للأستاذ محمود مصطفى- طبعة عيسى الحلبى.
(12)
هود: 49.