الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإخراج على خلاف الظّاهر
الإخراج فى اللغة هو الإظهار (1).
أما فى اصطلاح البلاغيين فهو فن قولى دقيق المسلك رفيع القدر، يدور معناه حول إفساح الطريق أمام البليغ ليورد كلامه على حسب تقديره الخاص، مخترقا به المعايير النمطية التى يتحتم إيراد الكلام على هداها ويلتزم بها المتكلمون، لأنها أشبه ما تكون باللوغارتمات الصارمة.
وهذا المصطلح «الإخراج على خلاف الظاهر» يحتاج فى فهمه إلى تمهيد، ومقدمة خلاصتها أن البلاغيين يشترطون فى بلاغة الكلام أن يكون مطابقا لمقتضى الحال، والحال عندهم هى الأمر أو المناسبة التى تدعو المتكلم إلى الكلام. وهذه المناسبات مختلفة فقد تكون تهنئة أو مواساة، أو إصلاحا بين الخصوم أو ترغيبا فى أمور، أو تحذيرا من أمور. وكل مناسبة منها لها خصوصية أو كلام مخصوص. فإذا وفّق الإنسان لإلقاء الكلام مناسبا للحال التى دعته إلى الكلام كان بليغا، وكان كلامه بلاغة.
والمناسبات التى يتحدث الناس فيها لا تكاد تحصر فى عدد محدد، لكن البلاغيين وضحوا هذه الفكرة، وهى مطابقة الكلام لمقتضى الحال من خلال ثلاث مناسبات ضبطوها ضبطا حكيما. وهى بالنسبة للأفكار التى يحملها كلام البليغ أو المعانى التى يريد إذاعتها بين الجمهور. فقد قسموا أحوال المخاطبين أمام الأفكار التى يحملها الكلام ثلاثة أقسام:
1 -
أن يكون السامع أو المخاطب خالى الذهن من تلك الأفكار وليس له موقف سابق منها بالإثبات والقبول أو النفى والرفض.
2 -
أن يكون المخاطب أو السامع، أو حتى القارئ مترددا بين قبول الفكرة أو رفضها، لعدم ترجيح طرف على آخر من طرفيها.
3 -
أن يكون المخاطب رافضا للأفكار التى يحملها الكلام.
هذه هى المستويات الثلاثة، التى استعان البلاغيون بها على تحديد الكلام الذى يعد بلاغة. وسموا هذه المستويات أحوالا للمخاطبين، ثم نصوا على ما يناسب كل حال منها من الكلام البليغ.
(1) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: خرج.
* فالمناسبة الأولى (خلو الذهن) قالوا إن الكلام المناسب لها أن يكون خاليا من أساليب التوكيد، مثل:
إن- أن- القسم- التكرار- نونا التوكيد الخفيفة والثقيلة- لام التوكيد.
ومثال مطابقة الكلام لظاهر مقتضى الحال فى هذه الحالة من القرآن الكريم قوله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) لم يأت هذا الخبر دفعا لتردد فى استحقاق الله للحمد، ولا لدفع إنكار من منكر. أما من غير القرآن فقد مثلوا لها بقولهم:«عبد الله قائم» .
* أما المناسبة الثانية (التردد) فالكلام المناسب لها هو التوكيد بمؤكد واحد.
ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى.
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (3).
حيث اشتمل الكلام على مؤكد واحد هو إِنَّ أما من غير القرآن فقد مثلوا له بقولهم: «إن عبد الله قائم» .
* أما المناسبة الثالثة (الإنكار) فالكلام المناسب لها أن يؤكد الخبر الدافع لهذا الإنكار بمؤكدين فأكثر ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (4).
أكد الخبر هنا بثلاثة مؤكدات هى: أن- لام التوكيد- اسمية الجملة لأن المخاطب؛ كافر. والكافر لا يؤمن بالآخرة. ومثاله من غير القرآن الكريم قولهم: «إن عبد الله لقائم، وفيه ثلاثة، مؤكدات، مثل ما فى الآية، وهى:
* إن.
* لام التوكيد
* اسمية الجملة.
وقال البلاغيون فى اختلاف نظم التراكيب الثلاثة، مع أن المعنى- فى الظاهر- واحد:
إن التركيب الأول إخبار بقيام عبد الله.
والتركيب الثانى إزالة للتردد فى قيامه والثالث إزالة لإنكار منكر قيامه.
والكلام فى التركيب الأول سموه الخبر الابتدائى، وفى التركيب الثانى سموه الخبر الطلبى، وفى الثالث الخبر الإنكارى وسموها جميعا- أضرب الخبر (5).
فإذا خرج المتكلم عن هذه الحدود المرسومة، كأن يؤكد الخبر لخالى الذهن، ويترك التوكيد مع المنكر- لا يسمى الكلام بليغا، ولا المتكلم؛ لأنه أخرج كلامه على خلاف ظاهر مقتضى الحال.
أما فى القرآن الكريم فنرى فى مواطن كثيرة إخراج الكلام على مقتضى الحال، وفى مواطن أخرى يأتى الكلام مخرجا على خلاف
(2) فاتحة الكتاب (1).
(3)
الإسراء (81).
(4)
الصافات (38).
(5)
بغية الإيضاح (29).
ما يقتضيه ظاهر الحال. ويكون الكلام فى ذروة البلاغة والبيان الرفيع، لأن ذلك الإخراج يجيء فى القرآن لاعتبارات بلاغية خفية تراعى فى البيان القرآنى المعجز (6).
ومن أمثلة الإخراج على خلاف ظاهر مقتضى الحال فى القرآن الكريم قوله تعالى:
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (7) فى الآية الكريمة الأولى أكد «الموت» بثلاثة مؤكدات هى:
اسمية الجملة. إن، لام التوكيد. مع أن الموت لا ينكره أحد قط؛ لأنه حقيقة يؤمن بها كل الناس. فمقتضى ظاهر الحال هنا أن لا يكون فى الكلام توكيد، لكن هذا الظاهر خولف لاعتبار بلاغى عظيم.
ذلك أن المخاطبين لما كانوا مفتونين بالدنيا، شديدى الحرص على السعى من أجل الحصول عليها، والتمتع بها وإهمالهم العمل للآخرة، شبّهوا بمن لا يؤمن بالموت فخوطبوا خطاب المنكر الشديد الإنكار لنزول الموت به.
وهذا اعتبار بلاغى تربوى كما ترى وكذلك قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ فيه إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فالبعث أنكره كثير من الناس فى حياة
كل الرسل، وحكى القرآن الكريم نفسه ما قاله منكرو البعث من مشركى العرب. ومع ذلك ترى القرآن- هنا- لا يؤكد مجىء البعث إلا بمؤكد واحد، وكان الظاهر يقتضى أن يؤكد بثلاثة مؤكدات أو أكثر. فلماذا خولف الظاهر هنا يا ترى؟
الداعى البلاغى لهذه المخالفة، هو إظهار التعريض بغفلة المخاطبين المنكرين للبعث.
والإيحاء بأن البعث جدير به أن لا ينكره منكر، لقوة الأدلة عليه، لأن منكرى البعث بنوا إنكارهم على أساس استحالة إحياء الأنفس بعد موتها وصيرورة الأجساد ترابا، وهذه شبهة واهية لأن الله خلق الناس من العدم، فكيف يستحيل عليه أن يعيد حياتهم، وقد خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا.
هذا هو الاعتبار أو الداعى البلاغى فى مخالفة الظاهر فى الآيتين معا، وهى اعتبارات بليغة أسمى ما تكون البلاغة. وهذا هو الشأن فى كل صور الإخراج على خلاف ظاهر الحال فى القرآن الكريم.
على أننا نجد دواعى أخرى فى القرآن الكريم للإخراج على خلاف الظاهر، نكتفى بمثال واحد منه توخيا للإيجاز. المثال هو قوله تعالى:
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (8)
هذا كلام الملائكة لله عز وجل، حين طلب
(6) وفى كلام البلغاء شعرا ونثرا أمثلة على هذا الإخراج المخالف للظاهر انظر شروح التلخيص (مبحث الخبر).
(7)
المؤمنون (14 - 15).
(8)
البقرة (32).
للاستزادة ينظر مبحث الخبر فى:
- الإيضاح للخطيب القزوينى.
- المطول لسعد الدين التفتازانى.
- الأطول لعصام الدين.
منهم أن ينبؤا الله- وهو أعلم- بأسماء الأشياء التى علم الله أسماءهم لآدم.
المتكلم فى هذه الآية هم الملائكة.
والمخاطب هو الله عز وجل.
والملائكة، لا ينكرون أن الله هو العليم الحكيم. والله- وهو المخاطب- لا ينكر أنه هو العليم الحكيم. فكان مقتضى ظاهر الحال أن يقولوا: أنت العليم الحكيم بدون أية مؤكدات. لأن التوكيدات لا تكون إلا مع المنكر. ومع هذا نرى خطاب الملائكة، لله جاءت فيه أربع مؤكدات، هى:
إنّ- أنت- اسمية الجملة- تعريف المسند إليه والمسند (المبتدأ والخبر).
فالمسند إليه هو «الكاف» فى إِنَّكَ والمسند هو الْعَلِيمُ.
فلماذا- إذا- خولف مقتضى ظاهر الحال- هنا- هذه المخالفة القوية الظاهرة؟.
إن الداعى والسر البلاغى فى هذه المخالفة هو: «أن مضمون الخبر فى هذا التركيب حقيقة عظيمة، ومن حق الحقائق العظيمة أن يعبر عنها فى البيان العظيم بأسلوب فخم عظيم مثلها» وهذا المنهج خاص ببيان القرآن الكريم، ليس له نظير فى بلاغة البلغاء من البشر، وله فى القرآن الكريم مواطن أخرى فى آيات الله المعجزة.
فالتوكيد فى الآية لم يكن مراعا فيه حال المتكلم، ولا حال المخاطب. بل الذى روعى فيه حال المعنى وحده. وللإخراج على خلاف الظاهر فى القرآن الكريم صور أخرى هى:
الالتفات- ووضع المظهر موضع المضمر، ووضع المضارع موضع الماضى، ووضع الماضى موضع المضارع، ثم القلب. والمقام- هنا- لا يتسع للحديث عنها.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع: